بينما احتفل الملالي، مؤخرًا، بالذكرى الرابعة والأربعين لثورة عام 1979، وسط احتجاجات شعبية مستمرة، فقد برهن النظام بذلك على فشله في صناعة الدولة المدنية، وإصراره على بناء الدولة الطائفية الإرهابية، إذ تبنى الملالي بقيادة موسوي الخميني منذ البداية، وطوال العقود الأربعة الماضية، سياسة القتل والتدمير ونشر الفكر الطائفي، والمتاجرة والمزايدة على قضايا الأمتين العربية والإسلامية.
ومنذ البداية، ركب الخميني موجة الثورة ضد الشاه عام 1979، وسرق أحلام الإيرانيين بمباركة غربية، وأسس نظامًا دينيًا قمعيًا، خلافًا لرغبة الشعوب الإيرانية، في ظل غياب المؤسسات والنقابات والأحزاب السياسية.
كما تبنى الخميني وأتباعه، فكر التوحش واختطاف مقدرات الشعوب الإيرانية، بعد أن ترك ملايين الإيرانيين في حالة من الفقر والظلم، تصاعدت معها مستويات البطالة والفقر، وأصبح النظام إلى حافة الانهيار، واستمرت الإضرابات والاحتجاجات في المدن، بعد أن أدركت الشعوب الإيرانية أن الخميني كان قاتلًا مختلًا عقليًا، وأنه أغرق البلاد في مستنقع التطرف الطائفي، ومنح نظامه الفاسد القوة للقتل والدمار.
المشانق في الساحات العامة
كانت الشعوب الإيرانية الثائرة عام 1979، تبحث عن حرية وعدالة، تمكنها من العيش بكرامة، واستثمار المقدرات النفطية وغيرها التي تنعم بها بلادهم، ولا تصل إلا لقلة من الناس. ولكن الشعارات الخمينية خدعتهم، ووعدتهم بمستقبل زاهر ليس للظلم والجور فيه مكان.
غير أن الثورة التي سرقها الخميني زادت من معاناة الشعوب الإيرانية، وجرعتهم كل الويلات، التي بدأت من الفقر، وانتهت بالديكتاتورية وإصدار أحكام الإعدام الجائرة لكل معارض حر، بتهم كالردة والحرابة والخيانة العظمى. وطاولت هذه التهم الملفقة، في عملية تصفيات جسدية منظمة، كل المعارضين في الداخل والخارج.
ظهرت النيات الخبيثة للخميني في باريس، عندما اقترح عليه أبو الحسن بني صدر أن ينتخب الشعب مجلسًا لقيادة الثورة، لكن الخميني ناور والتف حول هذا المطلب لرئيس الجمهورية الإيرانية المقبل، معتبرًا أن الشعب الإيراني ليس مؤهلًا بعد لمثل هذه المسؤولية السياسية!
ودعا الخميني، في خطاب عام إلى عدم التسامح مع المعارضين، قائلًا: "لو أننا حطّمنا أقلام الصحافة الفاسدة وأغلقنا جميع منشورات المؤامرة والفساد، وقدمنا المسؤولين عنها إلى العدالة، ونصبنا المشانق في الساحات العامة، لما واجهنا الصعوبات التي نراها اليوم".
وبناءً على ذلك، جرى إعدام نحو 200 شخص في العام الأول للثورة، كان من بينهم قادة الجيش السابقين من أنصار الشاه، ورئيس الوزراء الأسبق عباس هوفيدا، ووزير الخارجية الأسبق عباس خلعتبري، وآخرون، ووصل عدد من أعدمتهم الثورة الجديدة إلى 363 شخصًا خلال بضعة أشهر فقط.
مجزرة "الأربعاء السوداء"
كانت أولى جرائم النظام الكبرى، هي مجزرة "الأربعاء السوداء"، التي وقعت في 30 مايو/أيار عام 1979، أي بعد قيام الثورة بعدة أشهر، بأمر مباشر من الخميني، وهي تعد واحدة من أكثر المذابح الجماعية دموية وبشاعة، حيث خلفت أكثر من 800 قتيل من أبناء الشعب العربي الأحوازي.
بدأت مجزرة "الأربعاء السوداء"، بفخ نصبه الخميني بدهائه السياسي المعروف، حيث وعد علنًا بأن يتم منح القوميات غير الفارسية المنضوية تحت حكم الشاه، استقلالها، وهو ما أثار الحماس في عروق أبناء إقليم الأحواز العرب، فاندفعوا إلى تشكيل وفد سافر إلى طهران للقاء الخميني، والتفاوض معه على الاستقلال. وقد كان.
وفي اليوم التالي مباشرة، جاء رد الخميني على الوفد الأحوازي، صاعقًا، حيث أمر باعتقال قائد الوفد، مما أشعل الغضب في المحمّرة، فانطلقت قوات "الحرس الثوري"، حديثة التكوين آنذاك، وبأمر مباشر من الخميني، فتحت النار عشوائيًا على الأهالي، لمدة ثلاثة أيام متصلة، مما خلف أكثر من 800 قتيل، وعدد لا يحصى من الجرحى والمصابين.
ولم تتوقف المذابح، فبعد استيلاء الملالي على الثورة، وتوطد أركان النظام الجديد في مطلع عقد الثمانينيات من القرن المنصرم، دخلت الثورة الإيرانية مرحلتها الثانية، باندلاع الصراع بين حلفاء الأمس وقيام قادة النظام الجديد بتحديد المعارضين والخصوم السياسيين المناوئين للنظام وأفكاره وتوجهاته الجديدة، ومنهم النشطاء الأكراد، وعرب الأحواز والبلوش والأكراد، فضلًا عن البهائيين، لتبدأ موجات من النفي والتضييق والاعتقالات والإعدامات بحقّ كل هذه الجماعات، لإيمانهم بأيديولوجيات وأفكار مغايرة لا تتَّسق مع أيديولوجيا الوليّ الفقيه، وهو ما كان يمثل عقبة في طريق تنفيذ النظام رؤيته ومخططاته العدوانية.
الإعدامات الجماعية
في صيف 1988، بعد قبول إيران لقرار الأمم المتحدة بوقف القتال في الحرب ضد العراق، أصدر الخميني فتواه الشهيرة التي تقضي بإبادة كل المعارضين لنظام الملالي ولنظرية الولي الفقيه، على أساس أن من يرفض ولاية الفقيه فهو من "المحاربين المنافقين والمفسدين في الأرض"، الذين تجب إبادتهم!
وكان نص الفتوى التي أصدرها الخميني هو: "آمل لكم أن تكسبوا رضى الله باستخدام غضبكم وحقدكم الثوريين ضد أعداء الإسلام. وعلى السادة الذين يتولون المسؤولية في تطبيق القانون، ألا يترددوا في ذلك أبدًا، وأن يسعوا ليكونوا أشداء على الكفار، فإن التردد في مسائل القضاء الثوري الإسلامي إهمال وتجاهل لدماء الشهداء الزكية".
وبدأ التنفيذ الفعلي لعمليات الإعدام الجماعية في الساعات الأولى من صباح يوم 19 يوليو/حزيران 1988، مع عزل السجناء عن العالم الخارجي، فقد أغلقت أبواب السجون وألغيت الزيارات والاتصالات الهاتفية ومنع تلقي الرسائل والطرود البريدية، ومنع أقارب السجناء من التجمهر في الخارج عند بوابات السجن، لكي لا يتسرب نبأ عمليات الإعدام الجماعية إلى الخارج.
الأعداد الدقيقة للسجناء المحكومين عليهم بالإعدام لا تزال محور خلاف. قد سجلت "منظمة العفو الدولية" أسماء أكثر من 4482 سجينًا سياسيًا اختفوا منذ ذلك الحين، لكن جماعات المعارضة الإيرانية تشير إلى أن عدد السجناء الذين أعدموا كان أعلى من ذلك بكثير، وربما يصل إلى 30 ألف شخص، من بينهم نساء وطالبات جامعيات، ونشطاء ليبراليين وأكراد ويساريين من الشباب، ونشطاء آخرين من القوميات غير الفارسية، خاصة عرب الأحواز والأكراد والبلوش والتركمان وغيرهم.
لم يلتفت الإيرانيون إلى معنى هذه "المجازر المقدسة" التي ارتكبها الخميني ضد معارضيه، دون محاكمة، ولم يعوا أن المصلحين الحقيقيين يسوقون بين أيديهم دلائل الصفح والعفو عن كل الناس، وحرق كل الملفات القديمة، وأن ما فعله مرشد الملالي الأول، كان العكس تمامًا.
لقد ظل الخميني رمزًا للديكتاتورية والتسلط والقمع، على مدار العقود الأربعة المنصرمة، وسار أتباعه من الملالي على خطاه، في سحق إرادة الإيرانيين وتجويعهم، ومعاداة دول الجوار العربي، واستهدافها بالمؤامرات والخلايا الإرهابية والميليشيات المسلحة، كما حدث في أربع عواصم عربية هي بيروت وبغداد وصنعاء ودمشق.
وبمرور الأيام، في 17 نوفمبر/تشرين الثاني 2022، ومع تصاعد الاحتجاجات الشعبية ضد النظام، انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي مقاطع عديدة لمتظاهرين وهم يضرمون النار في منزل الخميني، في مسقط رأسه بمدينة "خمين" بمحافظة مركزي وسط إيران، الأمر الذي اعتبره المراقبون تعبيرًا عن "السقوط الرمزي" للنظام، الذي بات قاب قوسين أو أدنى، من السقوط النهائي إلى مزبلة التاريخ.
ابق على اطلاع على النشرة الإلكترونية