في فبراير/شباط الماضي، كشف تسجيل صوتي مسرَّب لمحادثة سرية تمت عام 2018، عن مدى تغوّل الفساد داخل مؤسسات "الحرس الثوري"، وضلوع شخصيات وجنرالات على أعلى المستويات في هذا الفساد المستشري، من بينهم الرئيس الحالي للبرلمان الإيراني الجنرال محمد باقر قاليباف، والقائد السابق لفيلق القدس الجنرال المغدور قاسم سليماني، ومساعد "الحرس" للشؤون التنسيقية جمال الدين آبرومند، ورئيس منظمة مخابرات "الحرس" حسين طائب، وآخرون من كبار القادة.
وفي التسجيل، قال الجنرال صادق ذو القدر نيا، المساعد الاقتصادي لـ "الحرس"، إن الجنرال "قاليباف"، عمدة طهران آنذاك، كان منزعجًا من طرح قضية الفساد المتعلقة بالبلدية وتعاونية "الحرس"، عندما تم اكتشاف نقص في أموال المؤسسة بنحو 8000 مليار تومان، وطلب "قاليباف" منه التوقيع على مذكرة تفاهم بنفس القيمة بغية عدم الكشف عن هذه الفضيحة!
وأضاف "ذو القدر نيا" في الملف الصوتي: "قلت له إن هذه التصرفات تعتبر جريمة. جاء قاليباف إلى أمام مسجد بالقرب من منزلي، وقال لي: وقِّع على هذه الورقة. فقلت له: هذه جريمة، إنها تضرك وتضرني وتضر جعفري (قائد الحرس السابق)، أنا لن أوقع".
وكان "ذو القدر نيا" مصممًا على محاسبة "قاليباف" ومحاكمته، لكن مجتبى خامنئي نجل المرشد الأعلى، وحسين طائب رئيس استخبارات "الحرس"، لفقا له قضية مخدرات، حيث كان "ذو القدر نيا" في رحلة من طهران إلى جاكارتا عبر مطار الدوحة، واكتشفت سلطات المطار في أمتعته 4 كيلوجرامات من مخدر الكوكايين!
كان "الحرس الثوري" عند تأسيسه عام 1979 مؤسسة ثورية، يعمل المنتسبون لها من أجل توطيد دعائم الدولة الجديدة. غير أن دوام الحال من المحال، فقد تورط عدد كبير من قادة "الحرس" في قضايا فساد شهيرة، أطاحت بهم من مناصبهم، بعد انكشاف المستور، وتبين أن بعض هؤلاء القادة العسكريين رفيعي المستوى كانوا يتاجرون في الخمور والمخدرات على نطاق واسع، وما خفي من فساد هؤلاء القادة كان أعظم.
واستولى "الحرس" بعد ذلك على قطاعات حيوية في البلاد، مثل النفط والغاز والاتصالات والتشييد، حيث يعمل ملايين الإيرانيين تحت حكم إمبراطورية الفساد المالي التي يقودها الجنرالات الكبار.
وقالت صحيفة «فايننشيال تايمز» البريطانية في تقرير لها نشرته في سبتمبر/أيلول 2017، إن "الحرس" بات مجبرًا على تقليص إمبراطورية أعماله الإخطبوطية، في وقت يتعرض فيه بالفعل عدد من كبار قادته للاعتقال في إطار محاولات الرئيس السابق حسن روحاني الحد من النفوذ الاقتصادي والمالي لأكبر جهاز أمني في البلاد.
وأكد مسؤول حكومي للصحيفة أن 10 على الأقل من كبار أعضاء "الحرس" تعرضوا للاعتقال في الأشهر الأخيرة من ذلك العام، 2017، فيما أُجبر آخرون على رد الثروات التي تحصلوا عليها من أعمال مشبوهة إلى خزانة الدولة.
وكشف رجل أعمال تعاون مع مؤسسات "الحرس" الاقتصادية والمالية في السابق، أن مدير إحدى الشركات القابضة الكبرى التابعة للحرس تعرض للاعتقال في الأشهر الماضية، وصودرت مقتنيات ثمينة تقدر قيمتها بعدة ملايين من الدولارات كان يحتفظ بها في منزله. كذلك ألقي القبض العام الحالي على ضابط في القوات برتبة عميد يوصف بأنه العقل الاقتصادي المدبر للمؤسسات الضخمة التابعة لقوات "الحرس".
وشرعت الحكومة وقتها في تنفيذ هذه الإجراءات عقب الانتقادات التي أثارها روحاني عن دور "الحرس" في الاقتصاد، حتى أن المرشد علي خامنئي نفسه انتقد "الثروات الطائلة" التي جمعها أعضاء الجهاز.
وأخبر روحاني المرشد بأن "الاقتصاد وصل إلى طريق مسدود، بسبب الفساد الذي استشرى في ظل هيمنة الحرس على مفاصل الدولة الإيرانية، وتحكمه في مقدرات البلاد الاقتصادية".
وبعد مرور شهرين من الانتخابات الرئاسية التي جرت في مايو/أيار 2017 وفوزه بفترة ولاية ثانية، قال الرئيس السابق روحاني بأن الحرس «خلق حكومة تحمل مدفعًا»، مما جعل الخوف يتملك من القطاع الخاص، رغم سعي روحاني إلى تحقيق الانفتاح لإيران واجتذاب الاستثمارات الأجنبية، غير أنه وجد مقاومة من متشددين داخل النظام، وبعضهم جنرالات في "الحرس" ممن يسعون إلى حماية مصالحهم الخاصة.
وهناك بعض الشركات المعروفة بانتمائها لـ«الحرس»، والتي طالتها فضائح فساد في السابق، منها شركة «سدرا إيران ماريتايم إندستريال كومباني» التي تتولى تصنيع شاحنات النفط وتتولى إدارة بعض مشروعات النفط والغاز، وشركة «شهيد رجائي بروفيشنال غروب» التي تعد من كبرى شركات التشييد في إيران.
في أواخر عام 2018، تفجرت واقعة فساد كبرى داخل أروقة بلدية العاصمة طهران بعد أن كشفت شبكة إخبارية معارضة تدعى "إيران واير" عن وثائق تتعلق باستيلاء ميليشيات "الحرس" على مساحات واسعة من الأراضي والعقارات تقدر بنحو 40 هكتارا دون سند قانوني.
وأوضحت "إيران واير" أن تلك المليشيات استغلت هذه الأراضي الواقعة غربي طهران بغرض تدشين مقرات لها رغم مطالبة "محمد علي نجفي" رئيس البلدية السابق محمد علي جعفري، قائد الحرس الثوري الإيراني السابق، في نهاية العام الماضي باستعادة هذه المساحات مجددا التي استحوذت عليها عناصر المليشيات عنوة.
وكشفت الوثائق عن أن "نجفي" الذي استقال من منصبه بسبب هذه الواقعة، أكد وقتها "تعتيمه على الأمر" خشية تسربه للجهات المعنية حفاظا على سمعة الحرس الثوري، غير أن الأمر قد تفشى وخضع لاستجواب مغلق في مجلس البلدية بسبب تجاهل الرد على مطالباته.
وانضمت تلك الواقعة إلى غيرها من السجلات المتداولة حول أنشطة الحرس المشبوهة، وتدخله في الاقتصاد الحكومي بشكل مطرد، حيث تحتكر كيانات اقتصادية تابعة لقاعدة عسكرية تدعى "خاتم الأنبياء" خاضعة لسيطرة الحرس الثوري على صفقات بمليارات الدولارات لتدشين مشروعات مختلفة في طهران ومدن أخرى.
وفي يناير/كانون الثاني 2019، تكشفت واحدة من أكبر الفضائح المالية في إيران، تقدر بـ 38 مليار دولار، وتورّط فيها 14 شخصًا من بينهم قادة في "الحرس" الثوري. وكشفت تحقيقات المحكمة الاقتصادية، أن المدير السابق لمصرف "سرماية" وامرأة من منسوبي "الحرس"، هما المتهمان الأساسيان في قضية "غسل أموال". واتهمت المحكمة الاقتصادية 14 شخصًا، من بينهم قادة في "الحرس"، باختلاس ما يزيد على 7 مليارات دولار، في أكبر فضيحة اختلاس شهدتها البلاد.
من جهة ثانية، واجه رئيس استخبارات "الحرس"، حسين طائب، في أواخر عام 2019، اتهامات من شخصيات مطلعة على مجريات الأمور بإدارة شركات غير قانونية وشبكة لتشويه المعارضين للنظام.
الاتهامات صدرت عن محمد حسين رستامي، وهو صحافي معتقل في أحد السجون الإيرانية، عبر تسجيل صوتي تم تسريبه وقتها، قال فيه إن هناك شبكة تعمل تحت قيادة "طائب"، تدير شركات غير قانونية وتلوث سمعة المعارضين المحتملين البارزين عبر الزج بأسمائهم في فضائح فساد. مشيرًا إلى صلة "طائب" بمؤسسة «ياس القابضة» وهي شركة تابعة لـ "الحرس"، اعتُقل اثنان من كبار مديريها بتهم فساد وتم فصلهما في 2018، مضيفًا أن هذه الشركة كانت لديها عقود ضخمة مع مختلف الكيانات في البلاد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
ابق على اطلاع على النشرة الإلكترونية