يطالب أتباع المجوس والنزعة الفارسية في العراق، بإزالة تمثال الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور، باني مدينة بغداد، من ساحة المنصور وسط العاصمة العراقية، من منطلق الطائفية المقيتة، والحقد التاريخي على الدولة العباسية التي كانت تمثل الدولة الإسلامية آنذاك.
وكان التمثال البرونزي الشهير قد صُنع في سبعينيات القرن العشرين، بمعرفة الفنان والنحات العراقي خالد الرحال، قبل أن يفجره عناصر من الشيعة عام 2005، عقب الغزو الأمريكي للعراق، فلم يتبق منه إلا الرأس فقط.
وفي عام 2008، نُصب "رأس التمثال" في منطقة المنصور المجاورة لحي الكرخ العريق، أحد الأحياء التاريخية في بغداد، فثار جدل واسع حول هذه الخطوة، وشهدت وسائل التواصل الاجتماعي وقتها احتجاجات غاضبة من جانب الشيعة العراقيين، الذين دعوا إلى إزالته، بدعوى أن هذا الخليفة لم يكن إلا "سفاحًا، غاصبًا للسلطة"، كما أنه المسؤول الأول عن قتل جعفر الصادق، الإمام السادس لدي الشيعة الاثني عشرية.
يقول الباحث محمد يسري إن أبو جعفر المنصور يحظى بمكانة مهمة في العقل السُنّي الجمعي، بسبب جهوده في العمل على تثبيت دعائم الدولة العباسية من جهة، والقضاء على الكثير من الثورات التي اندلعت في عهده من جهة أخرى.
ورأى مؤرخو أهل السُنّة الذين شاع بينهم الاعتقاد بالجملة الشهيرة "سلطان غشوم خير من فتنة تدوم"، في المنصور خليفةً قويًا، قادرًا على حفظ الأمن في بلاد الإسلام، لذلك ضربوا صفحًا عما عُرف به من سفك للدماء وبطش بالأعداء.
احتفت المدونات السُنّية، ولا سيما كتب الآداب السلطانية، بقول المنصور على أهمية طاعة ولي الأمر: "أيها الناس، لا تخرجوا من أنس الطاعة إلى وحشة المعصية، ولا تمشوا في ظلمة الباطل بعد سعيكم في ضياء الحق".
اقرأ أيضًا...
ويسجل المؤرخ شمس الدين الذهبي في كتابه "سير أعلام النبلاء"، عن رأي أهل السُنّة في المنصور، أنه: "أباد جماعة كبارًا حتى توطد له الملك، ودانت له الأمم على ظلم فيه وقوة نفس، ولكنه يرجع إلى صحة إسلام وتدين في الجملة، وتصون وصلاة وخير، مع فصاحة وبلاغة وجلالة".
في المقابل، رفض علماء الشيعة خلافة أبي جعفر، واستهجنوا تلقيبه بـ "المنصور"، وعوضًا عن ذلك لقّبوه بـ "الدوانيقي"، وهو لقب غريب لقب به لبخله الشديد، إذ يذكر ابن منظور في كتابه "لسان العرب" أن "الدوانيقي هو من استقصى في الحساب والمعاملة".
كما تتفق المصادر الشيعية المتطرفة على وصف أبي جعفر بالعديد من الأوصاف السلبية الكريهة، وعلى كونه "مجرمًا فاسقًا ارتكب الموبقات والكبائر في سبيل الحفاظ على ملكه ودولته". ويذكر "اليعقوبي" في تاريخه: "كان المنصور خدّاعًا لا يتردّد في سفك الدماء وكان سادرًا في بطشه مستهترًا في فتكه".
وذكرت المصادر الشيعية أن المنصور قتل ما يقرب من ألف رجل من "العلويين" وأتباعهم، وأنه وضع رؤوسهم في خزانة مخصوصة تركها لابنه محمد المهدي من بعده. كما شبهه الكثير من الشيعة بـ "فرعون موسى".
واهتمت المصادر الشيعية بذكر تفاصيل الصراع والتنافس بين المنصور وجعفر الصادق، وأكدت أن الخليفة جنّد مجموعة من الفقهاء التابعين للخلافة، ومنهم أبو حنيفة النعمان، في سبيل إحراج الصادق والحط من قيمته وعلمه أمام العامة.
ومن تلك الروايات ما ذكره الذهبي في "سير أعلام النبلاء" على لسان النعمان، من أن المنصور استدعاه إلى الحيرة، وقال له "يا أبا حنيفة، إن الناس قد فُتنوا بجعفر بن محمد، فهيئ له مسائلك الصعاب"، وتُستكمل الرواية بأن الصادق نجح في الإجابة على جميع الأسئلة التي عرضها النعمان عليه، فأقر الفقيه الكوفي بعلمه الغزير، بينما استبد بالمنصور الحسد والحقد.
وقال المؤرخ الشيعي محمد باقر المجلسي في كتابه "بحار الأنوار"، أن المنصور وضع العديد من الخطط لقتل "الصادق"، ولكن في كل مرة كانت تظهر له رؤيا معيّنة تمنعه وتصرفه عن عزمه، حتى استقر في النهاية على تسميمه، ونجح في مسعاه عام 148هـ.
من جانبه، يؤكد الكاتب طلال بركات أن هذه الروايات تعبر عن مدى الحقد الفارسي للانتقام من العرب، تحت سلسة من الروايات الكاذبة على مدار التاريخ الإسلامي، ومنها فرية قتل الصادق الذي سُجن بوشاية من أبي مسلم الخرساني واتهام المنصور بقتله، بينما عند وفاته كان المنصور في الحج، بمعنى لا دليل تاريخي يوكد على أن الصادق قُتل، وهذا ما أشار إليه كبار علماء الشيعة، ومنهم "المفيد" الذي قال إنه دُفن بالبقيع مع أبيه وجده وعمه الحسن، ولم يذكر شيئًا عن كونه مات مسمومًا.
ويروي المؤرخ الشيعي المعتدل اليعقوبي في كتابه "التاريخ" رواية مهمة، وكفيلة بتفنيد وتسفيه كل الروايات والأقاويل التي نُسجت بعد قرون حول اغتيال المنصور للإمام الصادق بالسم، دون أن يعني ذلك تبرئة المنصور من قمع وقتل خصومة والثائرين عليه بالسلاح، فقد نقل "اليعقوبي" عن إسماعيل بن علي بن الصحابي عبد الله بن عباس "دخلت على أبي جعفر المنصور يومًا وقد اخضلت لحيته بالدموع، وقال لي ما علمت ما حل بأهلك؟ فقلت: وما ذاك يا أمير المؤمنين؟ قال فإنَّ سيدهم وعالِمهم وبقية الأخيار منهم قد توفي. فقلت: من هو يا أمير المؤمنين؟ فقال: جعفر بن محمد الصادق، فقلت أعظم الله أجر أمير المؤمنين وأطال لنا بقاءه. فقال لي إن جعفرًا كان ممن قال الله فيه (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا) وكان ممن اصطفى الله ومن السابقين بالخيرات".
والدليل القاطع على طبيعية العلاقات بين الرجليّن، هو إيراد اليعقوبي لحادثة توسعة الحرم المكي في زمن المنصور، وكيف رفض الناس الساكنون حول الحرم أن يبيعوا بيوتهم ليتم هدمها وتوسعة المسجد كما أمر الخليفة، وهنا أسقط بيد الوالي العباسي على مكة زياد بن عبيد الله الحارثي، فلجأ لطلب مساعدة الإمام جعفر الصادق، فتدخل الإمام وقال للوالي: سَلِّ الناس أهم نزلوا على البيت أم البيت نزل عليهم. بمعنى سل هؤلاء الناس، هل كانوا سابقين لبناء البيت الحرام أم البيت الحرام كان سابقًا لهم، وهم بنوا بيوتهم لاحقًا حوله؟ فقالوا: إنهم نزلوا على البيت ولم ينزل عليهم، فقال لهم: فإن للبيت فناء! أي بما إنكم نزلتم على البيت الحرام فإن له فناء فأخذتموه مساكن لكم فارحلوا عنه، فأفحمهم، فرحلوا وقبلوا ببيع مساكنهم، وحلَّ الإمام هذه المشكلة سلمًا لمصلحة الوالي وخليفته المنصور!
لذلك كله، يجب الانتباه عند التعامل مع روايات التاريخ والرموز الإسلامية المؤثرة من أجل الحقيقة، وليس من خلال تزوير التاريخ وتشويه الحقائق برؤية طائفية مزيفة، يتم نشرها لغرض الانتقام من رموز العرب المسلمين الأوائل لصالح الفرس.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
ابق على اطلاع على النشرة الإلكترونية