شهدت سوريا، على مدار تاريخها الحديث، عددا من مشاريع التغيير الديموغرافي والتهجير القسري للسكان. وكانت هذه المشاريع بمثابة جرائم ضد الإنسانية، تم ارتكابها في حق طوائف سورية شتى، على رأسها المكون السكاني السُني، والأكراد، والأرمن، والمسيحيين، وغيرهم.
دشن النظام السوري أولى مشاريع التغيير الديموغرافي فور استيلائه على الحكم في البلاد، ضمن ما سُمي آنذاك "مشروع الحزام العربي"، حيث تم نقل السكان العرب ممن غمرت مياه "سد الفرات" قراهم عام 1974، ليتم توطينهم شمالاً على حساب السكان الأكراد.
وتلا ذلك، تاريخيا، تشجيع عشرات الألوف من أبناء الطائفة الشيعية العلوية في عقد الثمانينيات من القرن الماضي، على السكنى في مدينتي دمشق وحمص، ربطاً بسياسة توفير فرص عمل لهم في المؤسستين الأمنية والعسكرية، ليكونا ظهيرا للنظام، وتسهيل استيلائهم على أراضٍ مملوكة للدولة، لتمكينهم من بناء مساكن متفرقة صارت مع الزمن أحياء واسعة ومكتظة بالسكان.
وتجددت مشاريع التغيير الديموغرافي مع انطلاق ثورة السوريين ضد نظام بشار السد عام 2011، عبر تركيز النظام على قصف وتدمير أجزاء كبيرة من أحياء المعارضة في مدينة حمص، وتهجير من بقي فيها إلى مناطق أخرى في الشمال، وإحلال موالين له بدلاً منهم، بحيث غدت غالبية التركيبة السكانية لمدينة حمص مكونة من أبناء الطائفة العلوية بالأساس.
وكان خطاب بشار الأسد في يوليو 2015 حين قال: "إن الوطن ليس لمن يسكن فيه، وليس لمن يحمل جواز سفره أو جنسيته، الوطن لمن يدافع عنه"، إشارة واضحة إلى عزمه توطين وتجنيس المرتزقة والميليشيات الأجنبية التي تقاتل إلى جانب قواته ضد الشعب السوري.
وتم اختيار مسرح جرائم التغيير الديموغرافي في مدن وقرى بعينها، بحيث توفر للجناة الاتكاء على اعتبارات سياسية وأيديولوجية وأمنية وعسكرية، كلها أو بعضها، لتبرير أفعالهم. وتوالت فصول جريمة التغيير في جنوب وغرب دمشق، وامتد قوسها من طريق مطار دمشق الدولي، ليشمل مدينة السيدة زينب ومحيطها، ثم شمل داريا وجوارها وصولاً إلى منطقة وادي بردى على امتداد الحدود الغربية مع لبنان،
ولهذه المنطقة أهمية بسبب ما فيها من مزارات «شيعية»، ولها أهمية في تأمين العاصمة دمشق، وحمايتها من احتمال هجمات من الجنوب القريب، وكانت فيه أبرز التشكيلات المسلحة وأكثرها قوة في الجنوب، كما أن للمنطقة أهمية إضافية، إذ توفر تواصل دمشق مع سهل البقاع اللبناني، وهذه ضرورة لنظام الأسد وإيران وميليشيات «حزب الله»، الذي مد سيطرته إلى منطقة القلمون الغربي على امتداد سلسلة جبال لبنان الشرقية وصولاً إلى سهل العاصي.
وازداد هذا الدور وضوحاً بعد تقدم خيار ما سمي «سوريا المفيدة»، حين عُدّ نهر العاصي حاجزاً طبيعياً بين كتلة النظام الاجتماعية والنسيج السكاني القديم، ليطال التغيير العديد من المناطق في ريف حماة، مثل قرى العشارنة وقبر فضة والرملة، حيث تم تهجير أهلها بفعل القصف والمجازر وتوطين عائلات علوية مكانهم.
وكان لإيران وميليشياتها دور كبير وخطير في عمليات التغيير الديموغرافي الممنهج في سوريا، وأوضحها في العاصمة دمشق، نظراً إلى أهميتها السياسية ولوجود عدد من المراقد الدينية الشيعية فيها.
وأدركت إيران، مبكرا، أنه لترسيخ نفوذها واستدامة أطماعها في سوريا تحتاج إلى قاعدة ديمغرافية ذات ثقل اجتماعي، فسوريا هي أضعف حلقة في سلسلة مشروعها الإمبراطوري من الناحية الديموغرافية، بينما هي الحلقة الذهبية بالمعيار الجيو- استراتيجي. فالشيعة في العراق أكثرية سكانية، وهم في لبنان ثالث كتلة سكانية كبيرة. لكن الشيعة في سوريا لا يتجاوزون 0.5 في المئة من السكان حتى عام 2010.
لذلك، سعت إيران إلى زيادة نسبة الشيعة في سوريا، واتبعت طرقاً عدة منها التملّك والاستيطان والتوطين والتجنيس، ونشر المذهب الشيعي، وذلك بالتزامن مع تهجير السنّة العرب.
واستغلت طهران، إلى جانب التهديد والترهيب، تنامي العوز والفقر عند كثير من السوريين في أحياء دمشق القديمة، لإجبارهم على بيع ممتلكاتهم، ما جعل الأحياء المحيطة بالجامع الأموي وبمرقد الست رقية وشارع الأمين، منطقة شيعية بامتياز وأشبه بساحة أمنية للإيرانيين وميليشياتهم.
وتحت الذرائع نفسها، امتد التغيير الديموغرافي إلى داريا في ريف دمشق، حيث مرقد الست سكينة، فتم إكراه 700 مسلح ومن تبقى من عائلاتهم، وبعد حصار طويل، على الانتقال إلى إدلب، وإحلال أكثر من 300 عائلة عراقية شيعية مكانهم، بينما بقيت منطقة السيدة زينب منذ عام 2012 مقراً للميليشيا الإيرانية، وتكرس هذا المخطط مع استيلاء «حزب الله» على بلدات تقع على الحدود اللبنانية السورية، كما حال مدينة القصير في حمص التي هُجِّر أهلها عـام 2013 ومُنعـوا مـن العـودة إليهـا، وحل مكانهـم سوريون شيعة شكّلوا ميليشيا طائفيـة باسم «لواء الرضا».
وشهد عام 2018 أخطر عملية تهجير وتغيير ديموغرافي بترحيل الآلاف من السوريين السنّة من بلدتي الزبداني ومضايا في ريف دمشق واستبدال الآلاف من السوريين الشيعة والعلويين بهم، تم نقلهم من بلدتي كفريا والفوعة في ريف إدلب، ضمن ما عُرف باتفاق المدن الأربع.
ومنذ عام 2016 وبعد أن تمكن حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي من مد نفوذه في شمال وشرق البلاد، قامت أذرعه العسكرية ومنها وحدات حماية الشعب، بتهجير السكان من عشرات القرى لمجرد أنهم عرب، ليستقر بدلاً منهم أكراد موالون للحزب من تركيا والعراق وإيران، تمهيداً لفرض فيدرالية كردية في شمال البلاد.
وفي المقابل، لم تتردد الفصائل الإسلامية المتطرفة، مثل تنظيم «داعش» و«جبهة النصرة»، في طرد أو تصفية كل من يختلف عنها دينياً أو يخالفها عقائدياً، لتدمر، في مناطق نفوذها، دور عباداتهم، وتمكِّن أنصارها من الاستيلاء على ممتلكاتهم وبيوتهم وأراضيهم.
وهناك عملية تغيير ديموغرافي خطيرة تعمل عليها تركيا في هذه الآونة، لخلق واقع جديد على حدودها الجنوبية من خلال إعادة صياغة تلك المنطقة، سياسياً واجتماعياً، واضعةً نصب عينيها تهجير وتفكيك الوجود الكردي الكثيف فيها، فاستثمرت النتائج العسكرية لعمليتي «درع الفرات» و«غصن الزيتون»، لممارسة مختلف أساليب الترهيب وأشنع وسائل الفتك والتنكيل لإفراغ مناطق غرب نهر الفرات وشمال مدينة حلب من سكانها، مثل قرى ومدن عفرين ومدينة جرابلس والخط السكاني الواصل منها إلى مدينة الباب ومنبج، وإحلال النازحين السوريين مكانهم.
وزاد الطين بلة، الإعلان التركي عن السعي لتوطين مليون سوري في مناطق تل أبيض ورأس العين، بعد أن أفضت عملية «نبع السلام» العسكرية، لنزوح نحو 500 ألف من سكانها الأكراد، الأمر الذي ينذر ليس فقط بتغيير معالم تلك المناطق، بل بوجود مخطط مغرض لحكومة أنقرة تطمع فيه لضم وامتلاك مزيد من الأراضي السورية.
ويضع غالبية السوريين أياديهم على قلوبهم خوفاً من تأثير محاولات التغيير الديموغرافي على تعايشهم ووحدة وطنهم ومستقبلهم، ولا يخفف من ثقل هذا الخوف ووطأته ما يعتقده بعض المتفائلين أن ما يجري يحمل في أحشائه أسباب دماره وهو مجرد عبث طارئ لن يدوم طويلاً فرضته حاجة سياسية مؤقتة لابد أن يزول بزوالها.
وتحدو السوريون آمال كبار بأن التغيير الديموغرافي أمر ملفوظ دولياً كجريمة ضد الإنسانية، حسـب اتفاقيـات جنيـف عـام 1949، ويصعب تمريره في عصر الاتصالات والمعلوماتية، ومع وجود مؤسسات توثّق ما يحدث بعناية ودقة، وأيضاً لكون تلك الكيانات المصطنعة لا تزال محاطة بإصرار سكانها القدامى على استرداد حقوقهم وممتلكاتهم، وبمحطات مهمة في التاريخ نجح خلالها السوريون في إحياء تعايشهم والمحافظة على تنوعهم وتعدديتهم وإفشال غير محاولة لتقسيمهم وتفكيكهم والنيل من هويتهم الوطنية.
وربما يمر وقت طويل، قبل اكتشاف كل جرائم التغيير الديموغرافي والتهجير القسري التي جرى ارتكابها في سوريا، بل إن بعض هذه الجرائم ستظل متوارية إلى أن تتغير الأحوال، وبعضها يمكن أن تغيب، خصوصاً إذا كان ضحاياها وشهودها والجناة، ذهبوا في غياهب النسيان، وصاروا مجرد أرقام في مجريات الكارثة السورية المستمرة حتى هذه اللحظة.
ابق على اطلاع على النشرة الإلكترونية