بات الوجود الإيراني في منطقة الساحل والصحراء الإفريقية معروفًا وواضحًا للعيان، وهو ليس وليد اللحظة، فقد بدأ من وقت مبكر جدًا في مطلع سبعينيات القرن الماضي عبر رجل الدين الشيعي اللبناني عبد المنعم الزين، الذي بدأ نشاطه المرتبط بتشييع المسلمين الأفارقة من العاصمة السنغالية داكار، متنكرًا تحت صفة رجل أعمال، بينما بدا النشاط الإيراني أكثر وضوحًا بعيد انهيار نظام الشاه واستلام نظام الولي الفقيه السلطة في إيران عام 1979.
واعتمدت الثورة الإيرانية منذ نجاحها، أنها لن تكون محصورة في حدودها الجغرافية، بل تعهدت قياداتها حينها أن الثورة يجب "تصديرها" إلى الخارج، فبدأت بدول الجوار معتمدة على وسائلها الناعمة، لتنضم فيما بعد إلى القوى المهرولة نحو إفريقيا، واستطاعت أن تتغلغل فيها مستخدمة نفوذها الاقتصادي والسياسي والأيديولوجي، فهي تارة تسعى أن تجد لها منفذًا في سواحل البحر المتوسط والمحيط الأطلسي، من خلال شمال وغرب إفريقيا، وتارة أخرى تسعى للتضييق على السعودية من خلال شرق إفريقيا.
علاوة على ذلك تمتلك إفريقيًا الكثير من المحفزات للوجود الإيراني، بسبب مخزونها الاحتياطي من الخام، خاصة اليورانيوم الموجود في العديد من البلدان الإفريقية التي تضم 60% من الاحتياطي العالمي لهذا الفلز الأبيض الفضي، الذي يعد عنصر أساس في صناعة الأسلحة النووية.
وحتى هذه اللحظة، لا تزال إيران موجودة بكثافة في هذه المنطقة، لذلك ليس غريبًا أن تؤسس علاقة بقادة جبهة البوليساريو، وتقدم لهم الدعم، فمعروف عن النظام الإيراني تسلله إلى غاياته في الدول الأخرى، عبر الخواصر الرخوة التي ينفذ من خلالها أيديولوجية "تصدير الثورة" إلى بلدان الشرق الأوسط.
شكوك "غير معلنة"
كان لدى المغرب شكوك "غير معلنة" بشأن وجود تعاون عسكري إيراني انفصالي، صار يتأكّد مع ارتفاع الصراع ما بين الدول العربية والغرب، في قلبه الولايات المتحدة، وبين طهران، زاده التوسّع الشيعي في الشمال الأفريقي وغرب القارّة الأفريقية حدّة ووضوحًا.
وانتقل الصراع إلى جوهر وجود المغرب، أي وحدته الترابية والوطنية. وكان لضلوع "حزب الله" في ذلك أثر الصدمة في الوسط المغربي، فقد كان هناك جزء من النخبة دعم "حزب الله" من زاوية المقاومة الوطنية، باعتبار أن حسن نصر الله يقود حربًا وطنية عنوانها تحرير الجنوب اللبناني وحماية السيادة الترابية والقرار المستقِلّ في لبنان، وهذه كلها مقومات الخطاب الوطني المغربي، ومقوّمات الأدبيات الوحدوية المغربية.
وأدى اكتشاف المغرب وجود عمل مسلح لصالح حركة البوليساريو الانفصالية، عبر حزب الله، إلى صدمة كبيرة، حتى لدى الأطراف التي لا تقتسم مع الدولة تحليلها الجيو استراتيجي. حيث اتفق المغاربة جميعًا على أن معيار الحكم على التحالفات والعلاقات مع دول العالم هو هذه القضية الوطنية.
وعبَّر العاهل المغربي محمد السادس، عن ذلك بالقول "إن الصحراء هي النظارات التي نرى من خلالها العالم. ونرى من خلالها الحلفاء". وبالتالي، يخضع كل شيء لشرط الوجوب هذا في بناء التحالفات، فدخلت العلاقات بين الرباط وطهران منطقة قاتمة، بعدما استقرّ النزاع على قاعدة الوحدة الوطنية للمغرب.
وفي عام 2018 قررت الرباط إغلاق السفارة الإيرانية وطرد السفير، بعدما بينت بالدليل القاطع تسليح النظام الإيراني لجبهة البوليساريو وتوفير التدريب العسكري لعناصرها بمساعدة "حزب الله" اللبناني. وشملت الأسلحة الإيرانية الموجهة لميليشيات الجبهة الانفصالية قاذفات صواريخ مضادة للطائرات وصواريخ من طراز SAM-9 وSAM-11 حسب ما جاء في وثائق قدمها المغرب للحكومة الإيرانية، حيث أرسلت أول شحنة من هذه الأسلحة إلى الجبهة عبر عناصر في السفارة الإيرانية بالجزائر.
في المقابل، أنكرت إيران تورطها في دعم البوليساريو، ولجأت إلى خطاب تبدي فيه احترامها الكامل لسيادة الدول وأمنها وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، كمحدد أساسي لسياستها الخارجية تجاه كل دول العالم.
لم تقتنع الرباط بهذا الإنكار، فقررت مراجعة علاقتها الثنائية مع طهران، التي إلى حدود الآن لم تسحب أو تجمد اعترافها بما تسميه البوليساريو "جمهورية صحراوية"، رغم أنها أغلقت مكتب ممثلية جبهة البوليساريو في إيران، محتفظة حينها بورقة مقايضة، أي أن سحب الاعتراف يجب أن يترتب عنه إبداء المغرب لموقف مساند لها بشأن قضية الجزر الثلاث المتنازع عليها بين إيران والإمارات.
رفض المغرب هذه المقايضة، لأن موضوع الجزر الثلاث هو نزاع على السيادة، في مقابل سحب اعتراف بجمهورية جديدة في منطقة تحت السيادة المغربية، لا هذا وذاك يمكن وضعهما في كفة واحدة.
ارتباط البوليساريو بإيران
في نوفمبر/تشرين الثاني 2021، عاد السجال السياسي من جديد بين المملكة المغربية والجزائر، فيما يتعلق باتهامات الأولى للأخيرة بتوفير بيئة لإيران عبر جماعة "حزب الله" اللبنانية، للتسلل إلى الصحراء المغربية، من أجل دعم وتدريب وتزويد جبهة البوليساريو الانفصالية بالسلاح والعتاد العسكري.
ويؤكد الباحث في الأمن القومي؛ النعيم ضو البيت، أن "علاقة إيران بجبهة البوليساريو لم تتوقف عن التطور والدعم، فهناك مؤشرات وتقارير كثيرة تدل على تزويد طهران البوليساريو عبر "حزب الله" بأسلحةٍ متطورة نسبيًا، فضلًا عن الإشراف على تدريب عناصر الجبهة على تكتيكات قتالية متقدمة".
وهذا ما لفتت إليه مجلة "دير شبيجل" الألمانية؛ إذ أشارت إلى ارتباط البوليساريو بإيران، وأن الأولى استلمت من الأخيرة صواريخ أرض- جو، وأن إيران تشرف على معسكرات تدريب عناصر الجبهة عبر "حزب الله" داخل الأراضي الجزائرية.
ويؤكد المراقبون أن اندلاع الفوضى والعنف بمنطقة الصحراء المغربية هو واحد من آمال إيران المُتستر عليها، إذ ترغب في استخدام دعمها للبوليساريو لتحويل النزاع الإقليمي بين الجزائر والجبهة من جهة والمغرب من جهة ثانية، إلى وسيلة تمكنها من توسيع هيمنتها في شمال وغرب إفريقيا، خاصة في الدول الواقعة بالساحل الأطلسي.
ولم يغب عن المراقبين الذين حلّلوا تصريحات المسؤولين المغاربة أنهم لا يضعون بلادهم في "كفة توازن" بينها وبين الحركة الانفصالية في امتلاك الطائرات المسيّرة، بقدر ما يسائلون الدور الإيراني في المنطقة، وذلك بالإحالة على تشابه الحالات بين "الحوثيين" في اليمن والانفصاليين في البوليساريو، وهذه الكيانات أصحابها ليسوا أطرافًا في اتفاقيات نزع السلاح، ولا في اتفاقيات استخدام الأسلحة، وبالتالي من عليه أن يتحمّل المسؤولية أمام المجتمع الدولي هي الدول التي تسلمهم هذه الأسلحة، وإيران لا يمكنها أن تستمر في استغلال هذا الفراغ، وأن تستمر في تقويض الأمن والاستقرار في المنطقة العربية.
وبهذا، يمكن القول إن هذا تحوّل جوهري في طبيعة النزاع بين إيران والرباط، فقد سبق أن حدثت الأزمة بين العاصمتين بعد الثورة في عهد الخميني، وكانت المواقف متأرجحة بين دعم الثورة والاحتفاء بها، والتوجس من مستقبل المنطقة بعدها.
وكانت القطيعة بمبرّرات أيديولوجية - دينية، ردت عليها إيران بموقف معاد للوحدة الترابية للمغرب، عبر الاعتراف في 1980 بما يُسمى "الجمهورية الصحراوية".
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر:
1- إيران والبوليساريو.. علاقات غامضة وروابط تتكشف، موقع كيو بوست، 16 نوفمبر/تشرين الثاني 2021.
2- تصدير الثورة إلى إفريقيا وراء دعم إيران لـ "البوليساريو" موقع نون بوست، 30 يناير/كانون الثاني 2021.
3- إيران والمغرب: تشيّع وصواريخ و"درونز"، موقع العربي الجديد، 11 أكتوبر/تشرين الأول 2022.
ابق على اطلاع على النشرة الإلكترونية