الأمة الديمقراطية

- 25 ديسمبر 2023 - 670 قراءة

تنطلق أطروحة الأمة الديمقراطية لدى عبد الله أوجلان من نقدٍ عميقٍ لـ الأمة القومية، التي اعتبرها الرحم الذي أنجب ذلك الشيطان المُسَمَّى بـ الدولة القومية، حتى راح أوجلان يُبَشِّر بما أسماه نهاية عصر الأمة القومية، واستبدلها بـ الأمة الديمقراطية.

يتأسَّسُ الفكرُ النقديُ لعبد الله أوجلان من انتماءاته الاشتراكية الناقدة طوال الوقت للحداثةِ الرأسمالية، والتي خرجت من عباءتها الدولة القومية، كونها إحدى اللَّبِنَات الأساسيةُ لقاعدة “الربح الأقصى” لدى الرأسمالية، ومُحال تحقق الربح الرأسمالي من دون دولة قومية. ولهذا دار النسقُ الفكريُّ لأوجلان في فَلَكِ التحليل الماركسي الذي وضع الطبقة العاملة كطليعةٍ ثوريةٍ للمجتمع في صراعها ضد البرجوازية والرأسمالية، والتحول إلى المجتمع الاشتراكي ثم الشيوعية التي تتضاءل عندها الدولة والسلطة. لكن رُغمَ اعتناقه للاشتراكية العلمية، إلا أن أوجلان لم يُسَلِّم باعتبارها حتميةً مطلقة، لاسيما وأنها وقفت شاهداً على تدهورها أمام الرأسمالية والتطور العلمي وما أسفرت عنه من أوجهِ قصورٍ في الفلسفة الماركسية. لكنَّ ذلك لم يثني الميول الاشتراكية التي غَلَّفَت وتجذَّرت في عُمقِ النسق الفكري (العقيدي) لدى أوجلان، لاسيما وأنه وقف شاهداً أزمة الدولة القومية، وراصداً لِتَسَلُّطِ الطبقات المُسَيطرة على رأس المال حول العالم. كما رصد أوجلان تداعيات هذه الهيمنة على تدهور حال البشرية وانتشار الحروب وغياب موازين العدالة حول العالم. فالدولةُ مُنتجاً بشرياً بالأساس، وهي منتجٌ تسعى قوى الحداثة الرأسمالية لتوظيفه من أجل تفتيت المجتمع بغرض السيطرة عليه واستغلاله. وبالتالي، فإن الدولةَ تعد بمثابة أداة في المقام الأول، أو بالأحرى هي أداة حداثية من منظور أوجلان. فما الحروب والصراعات المستعرة في كافة أرجاء العالم إلا تعبيرا صارِخاً عن أزمة الدولة القومية وفشل الحداثة الرأسمالية التي قامت على نهب الانسان واستغلال ثرواته.

مع ذلك، فقد تأكَّدَ لدى أوجلان استحالة أن يُبدي نموذجُ الدولةِ القوميةِ أيةَ نجاعةٍ في استيعاب متطلبات إدارةِ العمران البشري وتلبية احتياجاته وإدارة التنوع الذي يميز المجتمع الإنساني. وبالتالي، كان لِزاماً على أوجلان، كقائدٍ كرديٍ مُحَمَّل بآلامِ أُمَّته الكُردية التي لطالما تَعَرَّضَت هُويتُها لمحاولات مُستَميتة للإبادة منذ مطلع القرن العشرين، بما أسفر عن خَلقِ واقعٍ شعبيٍ ومجتمعٍ مغتربين عن ذاتهما. لذا، فقد تَمَثَّل الهدفُ الرئيسُ لأوجلان في البحث عن سبلٍ لتحطيمِ جدارِ الاغتراب وتفريغ سياسة الانكار التي تعرضت لها الهويةُ الكردية، وهو ما توصل إليه أوجلان عن طريق “الأمة الكردية”.

لكن عبد الله أوجلان يَعْرِف الأمةَ بأنها “ظاهرة أو مجموع علاقات مُلتفة حول الوعي القبلي والوعي الديني، مُمْتَزِجَتين مع كُلٍّ من السُلطةِ السياسيةِ المشتركةِ والسوق. فالأمةُ عند أوجلان هي مفهومٌ افتراضيٌ نشأ بتدرجٍ مع تَكَوِّنِ عالمٍ ذهنيٍ وثقافي مشتركٍ بين الطبقات والأجناس والألوان والاثنيات المختلفة. وهو، أي أوجلان، يتقارب مع الطرحِ الذي قدَّمَه الفرنسي “أرنست رينان” Ernest Renan (1823 – 1892) الذي يُعَدُّ أول من طرح مفهوم الأمة من خلال محاضرةٍ بجامعة السوربون عام 1882 بعنوان “ما الأمة؟”Qu’est-ce qu’une nation?. وقد تناول رينان في محاضرته الشروط الواجب توفرها في الجماعةِ البشريةِ كي تستحق اسم “أمةً”، حيث تَمَثَّلَ أولُ هذه الشروط في الرغبةِ في الانتماء والعيش المشترك، باعتبار أن وجودَ الأمةِ انما هو اختيارٌ دائمٌ، أي أنه حقُّ الأفراد الحُرِّ في تقريرِ مصيرِهم السياسي بكل حرية.

وبالتالي، يستَبعِد أوجلان كُلاً من “الوطن” و”السوق المشتركة” كشرطين ماديين وسِمَتَين مُحَدَّدَتين لقيامِ الأمة. ويستشهد في ذلك باليهود الذين رغم شتاتهم بِلا وطنٍ لحقبةٍ طويلةٍ من الزمن، إلا أنهم عرفوا كيف يصبحون الأمة الوحيدة الأقوى في أسواق العالم جمعاء. لكن رُغمَ ما يكتنف هذا الاستشهاد الذي اعتمد عليه أوجلان من تَحَفُّظٍ مَرَدَّه تفرد حالة اليهود، إذ يصعب اعتبارها قاعدة للقياس، رغم ذلك إلا أن أوجلان قد تمادى في وصفه للأُمَّةِ باعتبارها تكتفي بالشراكة الذهنية والثقافية فحسب، بل وتوجد كافة مقوماتها في ظِلِّ المؤسسات شِبه المستقلة التي تديرها بطريقة ديمقراطية.

يقود ذلك أوجلان إلى مفهوم “الأمة الديمقراطية”؛ ذلك المفهوم الذي يقدمه كبديلٍ عصرانيٍ يَتَشَكَّل في إطاره المجتمع الذي يختفي فيه التهميش والاستهلاك الاجتماعي. ففي إطار هذا المجتمع لا تُعَدُّ الجغرافيا ولا اللغة بين مُحَدِّدات الأُمَّة؛ ذلك أنها أمةٌ تقومُ على التنوعِ وإدارته بطريقةٍ ديمقراطية. وكسبيلٍ لجعل هذا المفهوم، أو ذلك الطرح، إنسانياً، ليس حكراً على جماعةٍ أو فئةٍ بعينها، يسعى أوجلان لِدَمْجِ المكونِ الكُردي في مُحيطةِ البشري (الإنساني) في إطارٍ تكاملي. فالعنصر الكردي، كما يرى أوجلان، يمكنه العيش المُشتَرك مع التعدديات والأقوام المختلفة استناداً لمفهوم “الأمة الديمقراطية”، مع تمكين كافة مكونات المجتمع من العيشِ في ظِّلِ حرية ممارسة الثقافة واللغة.

ففي حين يرى أوجلان عجز النظريات الليبرالية الرأسمالية عن حل مشكلات المجتمع المتفاقمة التي نتجت بالأساس عن دور القوى الرأسمالية المتسلط والمنحاز، فإنه يسعى من خلال رؤية الأمة الديمقراطية لإعادة توحيد صفوف المجتمع البشري العالمي ومعالجة المشكلات التي خَلَّفَتها الدولة القومية التي أدت دور القصاب لدى الحداثة الرأسمالية. في هذا الإطار، يسعى أوجلان لتقديم قيمة على توحيد العالم الثقافي للشرق الأوسط بعد أن قسمته وقادته الرأسمالية العالمية إلى التفتيت إلى مئات القليات والتنظيمات والقبائل والمذاهب.

وفي حين تنوعت الركائز التي اعتمد عليها غالبية من تحدث في شأن هوية الأمة، ما بين اللغة والدين والجغرافيا والتاريخ والثقافة، اقتصر أوجلان على شرطين لِتَشَكُّلِ الأمة هما:

  • وجود الأمة المُتشاركة ذهنياً أو المشتقة من أُمَّة الثقافة أو اللغة.
  • وجود طراز الإدارة الديمقراطية شبه المستقلة، وهو الركن الأساس فيها.

وبذلك، يفترض أوجلان أن الأمة الديمقراطية تستوعب الهويات المتباينة، وبالتالي فهي تجمع قوميات وإثنيات وأديان ومذاهبٍ عديدةٍ في إطار إدارةٍ مجتمعيةٍ ذاتية، على أن يَتَجَسَّد هذا التجَمُّع في إطارٍ أشبه بالكونفدرالية Confederation بداخل الحدودِ السياسيةِ القائمة. وبالتالي، ينصرف أوجلان عن “دولة كردستان” المُوحَّدة لصالح الإدارات الذاتية شِبه المُستَقِلَّة، والتي يمكن أن يجمعها إطارٌ كونفدرالي عابر للحدود، الأمر الذي يبدو أقرب إلى تجربة الاتحاد الأوروبي.

فما من كبيرةٍ ولا صغيرةٍ بالمشهد الاجتماعي والسياسي في الشرق الأوسط إلا وشَمَلَتَها ظلالُ الرأسمالية العالمية. وهو ما يسعى أوجلان، في طرحِ الأمم الديمقراطية، لتداركه من خلال مسعى ثوري، كونه يضرب في عُمقِ جذور النظام العالمي القائم. من هنا يمكن أن نفهم حالة الاتفاق بين الكثير من القوى الغربية والشرقية أيضاً، على مواجهة الطرح الذي يقدمه عبد الله أوجلان، حتى ولو وصل الأمر إلى اختطاقه في فبراير 1999، واعتقاله في سجن مشدد بجزيرة إمرالي في بحر مرمرة بتركيا. لقد كشفت ملابسات اعتقال اوجلان حالة التفاهم والتنسيق بين القوى العالمية التي ترى في أفكاره تهديدا لثوابتها. وبالتالي، ففي حين استقر الفكر الانساني في ظل سيطرة الحداثية الرأسمالية على مدى القرنين الماضيين على مفهوم الدولة الأمة Nation State ذات الحدود الصارمة، يعتمد أوجلان على هذا المفهوم المختلف للأمة، والذي لا يعتمد على الحدود السياسية الصارمة، حيث يسمح بإنشاء مجموعات وطنية عليا مؤطرة باتحادات متنوعة من مختلف الأمم التي تقطن نفس المكان بل ونفس المدن أيضا كما يقول أوجلان في كتاب “مانفستو الحضارة الديمقراطية القضية الكردية وحل الأمة الديمقراطية”.

 

مِن حُلْمِ “الدولةِ القوميةِ الكردية” إلى “الأمة الديمقراطية

 

ربما يقودنا ذلك إلى تحولٍ ملحوظٍ طرأ على رؤى وأفكار عبد الله أوجلان، القائد والمناضل الكُردي، من حُلْمِ “الدولةِ القومية الكردية” التي لطالما طالب بها الكرد في الشرق الأوسط إلى طرح نموذج الأمة الديمقراطية. فقد فشلت كافة محاولات التحول إلى الدولة القومية التي تقوم على أساسِ “الأصل الكردي”، فعلى مدار القرن العشرين تَرَسَّخ واقعٌ دوليٌ وإقليميٌ بدا من كافةِ تصرفات الفاعلين فيه أن حُلْمِ تأسيس الدولة القومية الكردية، إنما هو حُلْمٌ بعيدٌ جداً عن المنال. فمعاهدة سيفر Treaty of Sèvres (20 أغسطس 1920)، وهي أشدُّ المعاهدات تعاطفاً مع الحقِّ الكردي، لم تكن لِتَضمن للكرد أكثر من إقامة منطقةٍ للحُكمِ الذاتي المحلي بالمناطق التي تسكنها أغلبية كردية شرقي نهر الفرات وجنوب الحدود الأرمينية، وشمال الحدود بين تركيا وسوريا والعراق (المادة 62 من معاهدة سيفر). وهو ما يعني وضعَ الدولةِ القوميةِ الكرديةِ المَنْشُودةِ في حَيْزٍ جُغرافيٍ مَحْصورٍ بين قوى قومية تناصب الكرد العداء سواء من جانب إيران أو تركيا أو الدول العربي في سوريا والعراق. فضلاً عن أن إقامة هذه الدولة بتصريحٍ غَربيٍ بالأساس إنما يقع في دائرة المحرمات التي تحدث عنها أوجلان طوال نقده للدولة القومية التي قامت في منطقة الشرق الأوسط، والتي يقول عنها أوجلان: “لم تُشَيَّدُ الدولةُ القوميةُ في الشرق الأوسط بالثورات بل شُيِّدَت بدعمٍ وسَوقٍ من النظام المُهَيْمِن. والهدفُ الأولُ لهذه الدول هو استعمار شعوبها باسم هذا النظام”. ويستطرد أوجلان: “الدويلات القومية ذات الطابع الدنيوي والقومي ليست قدراً محتوماً علينا وأن الدولة القومية هي الأخير والأخطر في الوقت ذاته للدولة الإله”.

وفي سبيل ذلك، أسَّسَ عبد الله أوجلان ورفاقه، في نوفمبر 1978، حزب العمال الكردستاني PKK. ومنذ ذلك الحين، سعى أوجلان ورفاقه، لجعل الحزب مساراً ثورياً وسياسياً بل واجتماعياً بين الكرد في محاولة لتغيير بنية المجتمع. وقد مثل الحزب قاطرة هذه الثورة تحت زعامة أوجلان وإدارة الحزب التي كانت تتألف من 35 عضواً يتم انتخابهم في مؤتمرٍ يُعقَدُ كل أربع سنوات، بالإضافة لوجود عددٍ من الأجنحة السياسية (المجلس التنفيذي واللجنة المركزية وغيرها)، والعسكرية (قوات تحرر كردستان أو جيش التحرير الشعبي فيما بعد). وعلى مدار سنواتٍ، لَعِبَ الحزب دوراً فيما عرف بـ “حركة التحرر القومي الكردستاني”، بل إنه أضحى أحد التحديات التي يواجهها النظام السياسي في تركيا بكل سُبلِ القوة، وتجمع عليها دول أخرى في المنطقة (سوريا والعراق وإيران)، ورغم نمو الحزبِ وتطورِ أداؤه إلا أنه لم يسلم من التحديات الداخلية التي وصلت إلى حدِّ الانشقاقات الداخلية بالحزب (تمثل أبرزها في انفصال شقيق عبد الله أوجلان؛ عثمان)، أو التحديات الخارجية التي تجلَّت في إدراج السلطات التركية للحزب على قائمة الجماعات الإرهابية واستمرار التصدي له عسكريا سواء في الداخل التركي أو بالمناطق الحدودية في سوريا والعراق.

لقد مثَّلَت تلك العوامل، (يأس أوجلان من إمكانية تحقق الدولة القومية الكردية، والتحديات الداخلية في حزب العمال الكردستاني، واستمرار المواجهات مع الآلة الأمنية التركية) بالإضافة إلى عوامل أخرى، إلى ترسُّخِ قناعات أوجلان بشأن نموذج “الأمة الديمقراطية” كسبيلٍ ومخرجٍ من مأزق “أزمة الاندماج الوطني” التي تعاني منها منطقة الشرق الأوسط، وهو ما يأخذ طريقه نحو التطبيق في إطار تجربة “الإدارة الذاتية” بشمال وشرق سوريا كنموذجٍ يتحقق من خلاله مفهوم الأمة الديمقراطية، ورغم التحديات التي تواجه هذا النموذج إلا أن صموده منذ تأسيسه في عام 2013، يوجب المزيد من القراءةِ المُتَعَمِّقةِ في هذه التجربة المُستَنِدَةِ على أساسٍ فكري للتعرف على مدى إمكانية استمرارها وأهم التحديات التي تواجهها، وهو ما يمكن تناوله في مقال قادم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر: مركز آتون للدراسات

النشرة الإخبارية

اشترك في النشرة الإخبارية

ابق على اطلاع على النشرة الإلكترونية

معلوماتك فى امان معنا! إلغاء الاشتراك في أي وقت.