تظل العلاقات الكُردية- العربية أعمق مما يظن البعض، فهي علاقات تتجاوز التجاور الجغرافي إلى الاندماج الدموي والتلاقح الثقافي، الذي من الصعب جدًا حصره وتتبعه، إلا عبر أبحاث أنثروبولوجية موسعة.
من جانبهم، لم يتنبه العرب إلى أهمية تلك العلاقات، وإلى ضرورة العمل على دعمها، بل ولا حتى مجرد إجراء حوارات مباشرة بين الطرفين، ليفهم كل منهما الآخر فهمًا صحيحًا، نعم جرت بعض اللقاءات العابرة والتي شابها الفتور من البعض أحيانًا أخرى.
ومن الأمور الجديرة بالذكر أنّ الكُرد هم الأكثر حرصًا على إثبات الجذور التاريخية لتلك العلاقة، فهم يجهدون أنفسهم كثيرًا في نبش التاريخ القديم والمتوسط والحديث، للبحث عن رموز لتلك العلاقة، ولهذا الأمر دلالة هامة، فهو يعكس رغبة دفينة لديهم للتقارب مع المكون العربي.
وينبغي ألا تُقابل هذه الرغبة بالإهمال من الجانب العربي، بل يجب أن تقابل بالدعم والإسناد، فإبراز نواحي اللقاءات مفيدة بكل تأكيد، والعرب في هذا الصدد يعودون يقفون كثيرًا عند محرّر القدس وقاهر الصليبيين؛ صلاح الدين الأيوبي.
وإن في قلوب العرب الآن لحسرة على واقعهم الذي غاب فيه من يماثل صلاح الدين، والتاريخ يشهد أيضًا على الدور المهم الذي لعبه الكُرد في حضارة المنطقة، فما أكثر رموزهم التي أسهمت بقوة في ذلك، منهم سيبويه مؤسس علم النحو، ومؤسس الدولة العباسية أبو مسلم الخراساني، ورب السيف والقلم محمود سامي البارودي، ومحرر المرأة قاسم أمين، والعائلة التيمورية تلك العائلة الأدبية الشهيرة، وعائلتَي بدرخان ووانلي، ولا يتّسع المجال لذكر كافة تلك الرموز، وما أكثرها.
وممّا يذكره التاريخ أن الأخوين بدرخان لم يجدا سوى القاهرة ليصدرا منها أوّل صحيفة كُردية في التاريخ عام 1889، والصفحة الأولى لتلك الصحيفة هي التي تزين درع نقابة الصحافيين بكردستان العراق حاليًا، كما يذكر أيضًا أنّ أول إذاعة كُردية في التاريخ بثت من القاهرة عام 1957 وبأمر من عبد الناصر، ومن الأمور الطريفة أنّ تركيا احتجت على فتح تلك الإذاعة، فاستدعى عبد الناصر السفير التركي في القاهرة، وسأله (هل في تركيا أكراد؟)، فأجاب السفير بالنفي، هنا قال عبد الناصر: فلماذا الاحتجاج؟، ولنا هنا ملاحظة، فعبد الناصر أمر بفتح تلك الإذاعة في إطار صراعه السياسي مع حلف بغداد (نوري السعيد ـ عدنان مندريس)، وليس حبًا بالكُرد، وتلك حالة كانت ملازمة للحركة الكُردية طوال تاريخها.
وفي مصر توجد عائلات عديدة تعود أصولها إلى القومية الكُردية، فإضافة إلى ما ذكرناه من أسماء نجد أن لقب الكُردي تحمله بعض العوائل المصرية، وكذلك ألقاب الكرداوي والكرداني، كما أن لقب الدمرداش والذي يسمى به حي من أحياء القاهرة، وكذلك المستشفى الجامعي لجامعة عين شمس، هذا الاسم كان في الأصل الديمرطاش، وكما هو مكتوب على ضريح من أطلق اسم الحي عليه وهو كُردي الأصل، كما أنّ عائلة محيي الدين والتي منها اثنان من أهم رجال ثورة 1952 (خالد وزكريا) هي من أصول كُردية، إضافة إلى الإمام محمد عبده، كما أنّ عباس محمود العقاد كُردي الأم، وكان للكُرد رواق بالأزهر الشريف، عندما كان نظام الأروقة هو النظام التعليمي المتبع فيه.
ولو انتقلنا إلى المحيط العربي لوجدنا رموزًا كُردية عديدة تؤكد على عمق العلاقات التاريخية العربية الكُردية، وهي التي يجب أن نبني عليها حاليًا قناعتنا التامة بأهمية توطيدها، من أجل تحقيق الأمن والسلام في المنطقة، ولتوضيح ذلك فإنه من الواجب الإشارة إلى ما تعرّضت له منطقتنا من كوارث، كان لتجاهل المسألة الكُردية والتعامل الخشن الفج معها أحد أسباب تلك الكوارث، وربما أهمها، ويذكر في هذا الصدد مسألة الحدود العراقية الإيرانية، تلك الحدود التي تم رسمها بموجب ميثاق سعد أباد عام 1937، وبموجب هذا الميثاق وقع الخط الحدودي بين الدولتين شرق شط العرب.
إنّ التعتيم والتجهيل الذي خيم على طبيعة العلاقات العربية الكُردية، جعل كل من الطرفين ينظر إلى الآخر نظرة ملؤها الشك، فعزيز الحاج الأمين العام الأسبق للحزب الشيوعي العراقي يقول في مقدمة كتابه عن الكُرد: "إن سبب بقاء المشكلة الكُردية بلا حل هو الشك المتبادل بين الحركة الكُردية والحكومات العراقية المتعاقبة".
في ظل غياب الحوار والمكاشفة وفقدان الشفافية، راجت الأساطير المشوِّهة بين الطرفين كل عن الآخر، ممّا جعلهما طرفَين معاديين، وأنّ مصالح كل طرف لا تتمّ إلّا على حساب مصالح الطرف الآخر، وتمّ نسيان التاريخ المشترك العظيم الذي كان كل طرف فيه سند للطرف الآخر، وعلى الرغم من أنّ الكُرد الذين تتواجد مناطقهم التاريخية في أحضان العرب (العراق وسوريا)، هم حاليًّا الأسعد حالًا بالمقارنة بأقرانهم المتواجدين في تركيا وإيران، وما كان يجب أن يترتب على ذلك علاقات بين الطرفين؛ (العربي والكُردي)، وكان من الواجب أن يؤكد هذا الصوت الكُردي على معلومة تاريخية موثقة، وهي مشاركة الكُرد للثورة الفلسطينية في كفاحها ضد (إسرائيل)، وأنها قدمت 12 شهيدًا في معركة قلعة شقيف بلبنان، ولأن كردستان العراق هي التي كانت حاضرة في الذهن العربي، فإن المسألة الكُردية حتى وقت قريب كانت تنحصر في الذهن العربي بشكل عام في كردستان العراق، وفي لحظات نادرة كانت المسألة الكُردية في تركيا تقفز للصدارة،
من كل ذلك، نخلص إلى أهمية تنقية نظرة كل طرف للآخر مما بها من شوائب، فما بين الطرفين من إيجابيات أكثر بكثير مما بينهما من سلبيات لا دخل للشعوب بها، فالعامل الجغرافي يحتم ضرورة علاقة حسن جوار بل ود متبادل بينهما، إذ من المستحيل أن يعطي طرف منهما ظهره للآخر، بل على العكس لابد أن يكون كل منهما سند للآخر.
ولقد صار الكُرد رقمًا مهمًّا ليس في الدولتين العراقية والسورية فقط، بل على المستوى الإقليمي، وربما الدولي أيضًا .
وكخطوات أولية لذلك، فإننا نقترح أن تقوم منظمات المجتمع المدني (العربية والكُردية) بالخطوات الأولية، والتي تشمل حوارات ثقافية واجتماعية بين الطرفين؛ جميع الأطراف وورش عمل في القضايا العقدية، ثم مؤتمرات موسعة يشارك فيها المتخصصون من الطرفين، مع تدعيم العلاقات بين المراكز البحثية وتبادل المطبوعات فيما بينهما، وخلال هذا العمل المشترك ستبرز آفاق جديدة للعمل المشترك، فإنّ الأمل كبير في نتائج الإقدام على هذه الخطوات، لأنّ تدعيم العلاقات العربية الكُردية سيثمر خيرًا على الطرفين، وسيسهم بلا شك في تحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة برمتها.
ويقول الباحث الكردي شاهو القرة داغي، إن من المهم إدراك نقطة جوهرية أن الإشكالية الموجودة بين العرب والكُرد لا تستمد جذورها من التاريخ القديم مثل باقي العداوات أو المشاكل الدامية بين الكثير من الجماعات مثل (الخلاف الشيعي السني) بل هي مشكلة حديثة النشأة تعود جذورها إلى نهاية الدولة العثمانية وبداية نشوء الدول القومية عن طريق تقسيم المنطقة بصورة عبثية في سبيل تشكيل دول غير مستقرة من الممكن إدخال النزاعات والصراعات فيها بشكل سهل في المستقبل في سبيل تجنب تشكيل كيان موحد يهدد وجود الاستعمار في هذه المنطقة الغنية بالثروات والاستراتيجية من الناحية السياسية.
وكان الكُردي ينظر إلى اللغة العربية بقدسية لأنه لغة القرآن، ولم يكن يشعر بأي تعارض بين التمسك بقوميته والالتزام بدينه، وكما يقول الكاتب الكردي من تركيا مفيد يوكسيل "نحن نحب العرب لأنهم نشروا الإسلام وجلبوا لنا هذا الدين العظيم"، وهذه النظرة الإيجابية هي التي كانت سائدة في ظل الحكم الإسلامي للمنطقة.
ورغم بعض الخلافات السياسية، إلا أن العلاقات الاجتماعية في العراق على سبيل المثال لم تتأثر كثيرًا وخاصة عندما ننظر إلى مدن مثل كركوك وبغداد نرى أن هناك فيها اندماج ثقافي ونموذج للتعايش والتآخي بالرغم من الممارسات الخاطئة للنظام العراقي السابق إلا أن الأغلبية العربية والكُردية لم تسمح لهذه الممارسات بأن تفسد عمق العلاقات الاجتماعية الموجودة وحافظت عليها وحاولت دائما أن تزيد الروابط بينها.
والدليل أن أكثر من مليوني نازح عربي ذهبوا إلى كردستان العراق، وأغلبهم قرر الاستقرار هناك لأنه لم يشعر بظلم قومي أو حالات عنصرية بل شعروا بأنهم يعيشون مع أهلهم وهذا كان بسبب النظرة الإيجابية للكردي الذي لم يحاسب العرب على جرائم لم يرتكبونها بل أصبح يفكر بالأمور المشتركة وطوى صفحة الماضي وفتح صفحة جديدة للمضي نحو المستقبل.
رغم ذلك، مازالت العلاقات الكُردية العربية محافظة على وجودها رغم كل الاعتداءات عليها مع الحكم العثماني، والتحديات القادمة مع التدخل الخارجي وفرض أجندته وسياسته وهيمنته على المنطقة، ولقد رأينا أحد أهم فصول القوة والإرادة الحرة والقوية للمنطقة والعلاقة الكُردية العربية في شمال وشرق سوريا والتحالف والعلاقات الاستراتيجية والتي نسجت بمفهوم وفلسفة الأمة الديمقراطية وريادة المرأة الحرة بين الشعبين العربي والكُردي في الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا وقوات سوريا الديمقراطية، والذين أسهموا في خلاص الكُرد والعرب من الإرهاب ومعهم كل المنطقة والعالم.
وهنا تظهر أهمية الفكر والفلسفة التي نبني العلاقات والتحالفات الاستراتيجية حولها والتي تخدم الشعبين العربي والكُردي وكل شعوب المنطقة وفق أسس صحيحة وسليمة ومستندة إلى الزخم والحضور الثقافي والتاريخي والعلمي المتراكم منذ ملايين السنين والذي سيغير وجه المنطقة والعالم كما كان دائمًا تنتجه التحالفات بين الشعبين العربي والكُردي وشعوب المنطقة في مسيرة الحياة في المنطقة.
وإن وحدة الحياة، وتشابه المعاناة، كما المصالح المشتركة بين الكُرد والعرب تثبت أنها أقوى من التدخلات السياسية والغزوات ومصالح النخبة المالية والسياسية، رغم أن هذه الأخيرة تشوش الرؤية على الكُرد والعرب وتشوّه صورة الأخ في عين أخيه، وتوقع ما بينهما، لكن في النهاية، رغم كل التدخلات والفتن، لا بد أن تنتصر الحياة والحقيقة. ويعود العرب والكُرد ليعيشوا إخوة وجيرانًا كما كانوا طوال مئات السنين.
وإن إيجاد رؤية استراتيجية لتوطيد التعايش والتكامل بين العرب والكُرد تدخل من بوابة الثقافة نحو بناء دولة تشاركية - دولة المواطنة والقانون، فبعد عقود من الاضطهاد والصهر القومي المتبعة بحق الكُرد تبدو المهمة ثقيلة وصعبة على المثقفين السوريين في استقطاب الثقافات الوطنية المتعددة وخصوصًا الكُردية، وإعادتها إلى دائرة التفاعل مع الثقافة الوطنية السورية العامة لتؤدي دورها للنهوض بسوريا.
والحقيقة أن الثقافة الكُردية قائمة على التسامح وعدم التعصب والبعد عن روحية الانتقام والنزعات الثأرية، مما مثّل علامات بارزة في العقل الثقافي الكُردي، فضلًا عن تمثل قيم العيش المشترك وقبول الآخر وتفهمه، أيضًا الثقافة العربية في سوريا هي ليست عنصرية شوفينية ولا يوجد بها غلو، ولكن كون الثقافة الكُردية نابعة من الشعب وللشعب، ولأنّها حرّة الانطلاق وبدون قيود، ولكونها ثقافة معبّرة عن شعب مضطهد وصاحب قضية تحرّرية عادلة جعل المختصين يقومون بتصنيفها وتسميتها كثقافة شعبية منفتحة لا متقوقعة. هي ثقافة منفتحة على الثقافات الأخرى وفي مقدمتها الثقافة العربية. وفي مجال الشعر، مثلًا، تتضح الصورة أكثر لجهة التقارب والتناغم بين الثقافتين، فالعديد من الشعراء والمبدعين الكُرد معروفون لدى القارئ العربي بفعل تقارب المواضيع والعوالم الشعرية، الناجم عن عوامل التجاور والتمازج الاجتماعي والثقافي والروحي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر:
1- العلاقات العربية الكُردية، موقع وكالة عمون، 6 فبراير/شباط 2020.
2- إشكالية العلاقة الكُردية العربية، موقع الجزيرة نت، 31 مايو/آيار 2017.
3- قرابات الكُرد والعرب... وعوامل النفور بين الأشقاء، موقع سوريا، 22 سبتمبر/أيلول 2021.
4- العرب والكُرد مصير مشترك، دحام السطام، موقع طلعنا ع الحرية، 9 سبتمبر/أيلول 2015.
ابق على اطلاع على النشرة الإلكترونية