ارتبط ظهور التيار الشيعي في المغرب بالثورة الإيرانية، التي أطاحت بشاه إيران سنة 1979، وأدت إلى صعود الملالي بقيادة موسوي الخميني إلى سدة الحكم. وكان للشعارات التي صاحبت تلك الثورة، والتي حملت صبغة ثورية إسلامية، تأثير السحر على عقول بعض الدعاة والشباب المغاربة، فراحوا يبحثون في الفكر الشيعي وعقائده، لعلهم يجدون فيه ما يحقق آمالهم.
وهكذا، نجح المد الشيعي الإيراني في التغلغل في المجتمع السني المالكي، نتيجة تفوقه في توظيف كامل طاقاته المذهبية وعنفوان الشباب وجسارة الطرح، في جذب فئة تعيش ظروفًا خاصة، جعلتها أكثر قابلية من غيرها للتشيّع.
وظلت الحكومات المغربية المتعاقبة تتعامل مع التيار الشيعي المغربي بحذر شديد، نظرًا لعلاقاتها المتوترة مع إيران، وخوفًا من تسرب أفكار الرافضة داخل التراب المغربي التي بإمكانها أن تصطدم بأفكار أهل السنة، وتؤدي إلى فتن طائفية، وصراعات على غرار ما يحدث الآن في بعض البلدان الإسلامية، كالعراق وسوريا واليمن.
واستغل المتشيّعون المغاربة مجموعة من العوامل، للظهور بشكل سريع على سطح الساحة السياسية الدينية في البلاد. وأول هذه العوامل، الانفراج الذي شهدته العلاقات المغربية- الإيرانية في عهد الرئيس الإيراني الأسبق محمد خاتمي، وكذلك الحرب بين «حزب الله» اللبناني و(إسرائيل) عام 2006، وما خلفه ذلك من تعاطف عربي شعبي كبير مع ما كان يطلق عليه اسم «جبهة المقاومة ».
الترويج للتدين الشيعي
من جهة أخرى، كان للقنوات الفضائية التابعة والداعمة لإيران، ومنها قنوات عراقية وقناة "المنار والعالم" وغيرها، في حينه، دور مهم في الترويج للتدين الشيعي. غير أن أهم عاملين ما زالا يتحكّمان في ظهور التشيع بالمغرب على السطح، يتعلقان بالدراسة في الخارج، خصوصًا في سوريا.
أما العامل الثاني، فيتمثل في الدور النشط جدًا للسفارة الإيرانية في بلجيكا والجمعيات التابعة لها ماليًا. ولقد أسهمت هذه السفارة، بالذات، بقوة في تشيّع المهاجرين المغاربة. إذ منذ بداية التسعينات من القرن العشرين أقدمت هذه السفارة على تقديم مساعدات مالية شهرية منتظمة للشباب المغربي الوافد إلى بلجيكا، وتشجيعهم على زواج المتعة الذي يمكّنهم من الحصول على أوراق الإقامة. كذلك عملت على ربط جزء من المغاربة بشخصيات دينية تمثل مرجعية الولي الفقيه بالعاصمة البلجيكية بروكسل ونواحيها، ومولت أنشطة وزيارات لإيران استفاد منها هؤلاء الشباب، وهو ما مكّن الإيرانيين من تأسيس جالية شيعية مغربية في بلجيكا تقدر بنحو 20 ألف مغربي.
هذا المسار انعكس على التشيّع داخل المغرب، وقسمه لبعدين؛ خارجي وداخلي: الأول، تتحكم فيه إيران بشكل مباشر وهو يتمثّل بالشيعة المغاربة في أوروبا، خصوصًا الشيعة المغاربة في بلجيكا الذين يكثفون جهودهم لنشر مذهبهم الطائفي بمدن المغرب الشمالية.
وباتت بروكسل وغيرها من المدن البلجيكية قاعدة خلفية لـ«الغزو» الشيعي الطائفي للمغرب. وهذا الاستهداف المنظم له مؤسساته من مثل «جمعية الهدى» بإمامة الشيخ بلوق، و«جمعية الهادي المغربية» المرتبطة بالمراجع العراقية الشيعية، إضافة إلى «مركز أبحاث وحسينية الحسن المجتبى للإخوان العراقيين» التي تجمع الطرفين، كما ينشط الشيعة المغاربة بمدرسة في «مركز الرضا» متخصصة في تعليم أبناء الجالية.
أما البعد الداخلي المتعلق بالشيعة المستقرين داخل المغرب، فتعمل الدولة وأجهزتها الأمنية، على فصله بشكل تام عن إيران وسعيها الحثيث لتقسيم المغرب طائفيًا، وخلق «جيوب» لها في إفريقيا عبر دعم شبكتها المنظمة في غرب القارة، التي تمتد من نيجيريا إلى السودان، ومن السنغال إلى الغابون وساحل العاج، مرورًا بالجزائر ووصولًا إلى المغرب.
من جانبها، سعت السلطة السياسية في المغرب إلى دمج الشيعة المغاربة في الحقل السياسي، بعدما سمحت لهم بمزاولة بعض شعائرهم بشكل جماعي. إذ التحق أبرز الوجوه الشيعية إدريس هاني، بحزب "الحركة الديمقراطية الاجتماعية" عام 2015، وكان هاني من المؤسسين لحزب النهضة والفضيلة، والمعدين لورقته المذهبية عام 2005، قبل أن ينسحب منه ويلتحق بحزبه الجديد.
وفي عام 2015 سُجلت محاولة لبعض الوجوه الشيعية للالتحاق بالحزب الاشتراكي الموحّد، غير أن أطرافًا من داخل الحزب تحفّظت عن اتخاذ هذه الخطوة، خصوصًا مع غموض ارتباطات بعض العناصر الشيعية بإيران، وإيمانها العقدي بولاية الفقيه.
خفايا الاختراق الإيراني
كان لظاهرة التشيع في المغرب امتدادات خارجية واضحة، تتعلق بالجهود الإيرانية لتشييع الجالية المغربية المقيمة في بلجيكا وكندا وهولندا وإسبانيا، ومن ثم ربط الشيعة المقيمين في المغرب بشيعة غرب إفريقيا، بهدف الوصول إلى قلب إفريقيا المسلمة، عبر عمل شبكي يلقى دعمًا سياسيًا وماليًا من طهران وشيعة لبنان خاصة.
ويقول د. خالد يايموت، أستاذ العلوم السياسية في جامعة محمد الخامس، إن السلطة السياسية في المغرب تحاول ألا تجعل من ظاهرة التشيع حدثًا إعلاميًا أو حقوقيًا، بل تكتفي بالمراقبة الأمنية. ويبدو أن هذه السياسة الجديدة، غير ثابتة، ذلك أن السلطة واجهت المجموعات الشيعية عام 2009 بحزم، وقطعت العلاقات الدبلوماسية مع إيران، كما أغلقت المدرسة العراقية بالرباط. بل وصل الأمر إلى إقدام وزارة التعليم العالي على إلغاء حصص اللغة الفارسية في الجامعات المغربية، وإغلاق بعض المكتبات الخاصة بالكتب الشيعية، وإخضاع بعض الأفراد لاستجوابات أمنية في كل من مدن الدار البيضاء وطنجة والصويرة وفاس.
غير أن الوضع بدأ يتغير من جديد منذ عام 2012، إذ لم تكتفِ السلطة السياسية المغربية بالاعتراف القانوني ببعض المؤسسات التي أسسها الشيعة المغاربة، بل سمحت لهم بالاحتفال الجماعي بعاشوراء لأول مرة عام 2014، حين أقيمت طقوس بحضور نحو 300 فرد في قاعة للحفلات بمدينة طنجة. ويأتي هذا بعد السماح لمجموعة شيعية في المدينة نفسها بتشييع جثمان أحد أفرادها عبد الله الدهدوه، الذي قتل في بلجيكا عام 2012، وشهدت الجنازة خروجًا واضحًا عن المذهب المالكي، من خلال طريقة الدفن مثل دفن كتاب مع الجثة وحضور النساء.
ومع قطع علاقات المغرب مع إيران سنة 2009، على خلفية مزاعم بتورط مدرسة شيعية عراقية في الرباط في تلقين الأطفال مبادئ التشيع، تعزز منطق الانكفاء لدى الطائفة الشيعية، خاصة لما تم الإعلان تحصين لأمين الروحي والوحدة المذهبية ومواجهة التشيع ضمن أولويات الحقل الديني بالمغرب، وبدأ التفكير عن بعض رموزها في مد جسور اللقاء مع اليسار، والانعطاف نحو المسألة الحقوقية وبشكل خاص حرية المعتقد والأقليات الدينية في المغرب، وذلك بهدف البحث عن نافذة أخرى للاشتغال، ومحاولة تحصين أفراد هذه الطائفة الشيعية من التعقب الأمني.
ويؤكد المراقبون أن المعطيات التي تظهر يومًا بعد آخر فيما يخص ملف «الشيعة المغاربة»، تنبئ باختراق شيعي كبير للعديد من مجالات الحياة في المملكة المغربية، فبعد أن أنشب المتشيّعون أظافرهم في الأوساط الحقوقية المغاربية، تمكنوا عام 2015 من تأسيس ما يُسمى «المرصد الرسالي لحقوق الإنسان»، للدفاع عن حقوق شيعتهم وتدويل ملفهم، ومن ثم حاولوا اللعب بهذه الورقة الطائفية من خلال إظهار تبني خطابات الدفاع عن الحقوق والحريات، للضغط على الدولة بغرض الاعتراف بتكتلاتهم الشيعية.
وفي عام 2014 أصدرت وزارة الخارجية الأمريكية تقريرًا حول حرية التدين في العالم، كشف عن وجود ما بين 2000 و8 آلاف شيعي في المغرب، منهم نحو 400 شيعي يعيشون في «طنجة»، مشيرة إلى أن التيار الشيعي في المغرب سائر نحو «التكاثر والتوسع الجغرافي»، وأن المد الشيعي سيعم مدنًا في الجنوب المغربي خلال السنوات القليلة المقبلة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر:
1- الشيعة في المغرب حقيقة أم خيال؟ موقع مغرس، 15 مارس/آذار 2014.
2- واقع التشيّع في المغرب، موقع الشرق الأوسط، 7 أكتوبر/تشرين الأول 2016.
ابق على اطلاع على النشرة الإلكترونية