يعد حلف شمال الأطلسي (الناتو) من أبرز التحالفات العسكرية في التاريخ المعاصر، حيث تأسس في عام 1949 لمواجهة التحديات الأمنية الناجمة عن التوترات مع الاتحاد السوفيتي، ومع مرور الوقت أصبح هذا الحلف أداةً استراتيجيةً رئيسيةً للولايات المتحدة، لا لتعزيز نفوذها العسكري فحسب، بل أيضًا لتوسيع دورها على الساحة الدولية عسكريًّا واقتصاديًّا.
تسعى الولايات المتحدة -بشكلٍ مستمرٍّ- إلى التأثير على القرارات الاستراتيجية داخل الناتو، وخاصةً من خلال الضغط على الدول الأعضاء لزيادة الإنفاق الدفاعي، حيث يفرض الرئيس الأمريكي ترامب على الحلفاء أن يرتفع إنفاقهم العسكري من 2% لزيادةٍ تصل إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي، وهذا المطلب يُشكِّل صدمةً للحلفاء؛ نظرًا لصعوبة تنفيذ هذا الهدف في الوقت الحالي، وزيادة الحديث عن تقليص التزامات واشنطن الأمنية تجاه أوروبا، ولذلك يظل السؤال الأبرز: هل يمكن لحلف الناتو التكيف مع هذه المتغيرات الجيوسياسية خاصةً بين روسيا وأمريكا، أم أن الضغوط الأمريكية ستؤدي إلى إعادة رسم التحالفات؟
تستخدم الولايات المتحدة حلف الناتو كوسيلةٍ لتعزيز الأمن الدولي لها، وأيضًا لتوسيع نفوذها العسكري في مناطق جيوسياسيةٍ استراتيجية، فعلى سبيل المثال كانت عمليات الناتو العسكرية في أفغانستان والعراق تتم تحت إشراف القيادة الأمريكية؛ مما أسهم في تعزيز الوجود والنفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى.
منذ بداية الألفية الجديدة، تزايدت مشاركة حلف شمال الأطلسي (الناتو) في عملياتٍ عسكريةٍ خارج حدوده التقليدية، حيث شارك الحلف في مهماتٍ حربيةٍ بقيادة الولايات المتحدة في كلٍّ من أفغانستان والعراق، وقد استخدمت الولايات المتحدة الناتو كأداةٍ استراتيجيةٍ لتعزيز حضورها العسكري في هذين البلدين، وذلك لعدة أسبابٍ تتعلق بالمصالح الجيوسياسية والأمنية، لكن في ذات الوقت كانت هناك تأثيراتٌ متعددةٌ على علاقة الحلفاء داخل الناتو وعلاقته بالولايات المتحدة.
بعد الهجمات التي وقعت في 11 سبتمبر/أيلول 2001م، وبدعوةٍ من الولايات المتحدة، قرر حلف الناتو المشاركة في الحملة العسكرية ضد طالبان وتنظيم القاعدة في أفغانستان، وبدأت هذه العملية من خلال "قوة الأمن الدولية للمساعدة " (ISAF)، وهي مهمة متعددة الجنسيات تحت قيادة الناتو.
ومن ثم، استغلت الولايات المتحدة الناتو لتوسيع عملياتها العسكرية في المنطقة، حيث كانت واشنطن تسيطر على القيادة العامة للعمليات العسكرية، ولكن الناتو قام بتوزيع القوات على مختلف المناطق لتوسيع نطاق المشاركة الدولية في الحرب، وكان هذا التحرك جزءًا من استراتيجيةٍ أمريكيةٍ أكبر، تهدف إلى استعادة الأمن في المنطقة وتعزيز نفوذ الولايات المتحدة في آسيا الوسطى، كما تم استغلال الناتو للتخفيف من العبء العسكري الأمريكي، حيث شاركت قوات دول الحلف في عمليات القتال؛ مما ساعد في تخفيف الضغط على الجيش الأمريكي وتوزيع الأعباء بين الأعضاء.
ولكن مع مرور الوقت، تحول هذا التدخل إلى أزمةٍ معقدة، حيث أظهرت بعض الدول الأعضاء في الناتو ترددًا في مواصلة المشاركة في العمليات العسكرية، خاصةً في ظل الخسائر البشرية والمالية، كما أن اختلاف استراتيجيات الدول الأعضاء في التعامل مع طالبان وتزايد التوترات مع الحكومة الأفغانية كان له تأثيرٌ سلبيٌّ على الوحدة الداخلية لحلف الناتو، ورغم ذلك استمرت الولايات المتحدة في استخدام الناتو كأداةٍ لضمان استمرارية العمليات العسكرية في أفغانستان، حتى انسحاب معظم القوات الأجنبية في عام 2021.
بعد الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003، عملت الولايات المتحدة على تشكيل تحالفٍ عسكريٍّ دوليٍّ، وكان الناتو أحد الأطراف التي استخدمتها لتعزيز شرعية التدخل العسكري في المنطقة، ومع تزايد الضغط الدولي على الولايات المتحدة -بسبب الحرب في العراق- حاولت واشنطن إشراك الناتو بشكلٍ أكبر في هذا الصراع لتعزيز دعم الحلفاء الأوروبيين والدوليين.
من خلال المشاركة المباشرة في العمليات العسكرية في أفغانستان والعراق، تمكنت الولايات المتحدة من ضمان دعم الحلفاء العسكريين واللوجستيين في مواجهة التحديات الأمنية التي تواجهها في هاتين المنطقتين، لكن في الوقت ذاته كشفت هذه العمليات عن هشاشة التحالف داخل الناتو، خاصةً مع تزايد الخلافات بين الدول الأعضاء حول كيفية التعامل مع هذه الحروب والمشاركة فيها، حيث كانت المشاركة في كلٍّ من أفغانستان والعراق محط جدلٍ داخل الناتو.
تسبب هذا التفاوت في المواقف في تآكل الوحدة الداخلية للناتو، حيث اعتبرت بعض الدول الأوروبية أن واشنطن استغلت الحلف لتحقيق أهدافها العسكرية الخاصة، دون مراعاةٍ لمصالح الحلفاء. ومع تزايد الخسائر البشرية والسياسية في كلٍّ من أفغانستان والعراق، أصبح هناك مزيدٌ من الضغط على الدول الأعضاء لسحب قواتها؛ مما أدى إلى تقليص دور الناتو بشكلٍ تدريجيٍّ في هاتين المنطقتين.
كان تدخل حلف الأطلسي في ليبيا -ابتداءً من يوم 19 مارس/ آذار 2011- بناءً على تفويضٍ من مجلس الأمن الدولي، وقد قام الحلف بفرض حظرٍ للطيران وحماية المدنيين، وشارك في عمليات الحلف تحالفٌ دوليٌّ ضم 13 دولةً ضمنها الولايات المتحدة الأمريكية، وبريطانيا، وفرنسا، كما شاركت ثلاث دولٍ عربية (غير أعضاء في الحلف) وهم قطر، والإمارات العربية المتحدة، والأردن. وقد قام مجلس الأمن بإنهاء ذلك التفويض بتاريخ 27 أكتوبر/تشرين الأول 2011.
تصاعد الأزمة الأوكرانية جعل المواقف الدبلوماسية بين القوى الكبرى أكثر تعقيدًا، خاصةً في ظل تصاعد التوتر بين الرئيس الأمريكي ترامب والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، والدور المتزايد لروسيا في تحديد مصير أوكرانيا، حيث تمثل هذه الحرب –الآن- أزمةً دوليةً تضم الولايات المتحدة وروسيا وأوروبا، مع رغبة أمريكا في إنهاء الحرب لمصالحها الخاصة بها دون الحلفاء، وهو ما يُزيد من تعقيد المواقف وتداخل المصالح.
منذ بداية الحرب الروسية الأوكرانية في عام 2022، كان الدور الأمريكي محوريًّا في دفع أوكرانيا للمشاركة في الصراع، ورغم أن الولايات المتحدة قد بررت دعمها لأوكرانيا من خلال تعزيز الأمن الأوروبي لوقف التوسع الروسي، إلا أن الهدف الأكبر كان إضعاف أوروبا وتقويض قوتها الاقتصادية والسياسية.
كانت الولايات المتحدة من بين أولى الدول التي قدمت الدعم العسكري والاقتصادي لأوكرانيا، متجاهلةً -في كثيرٍ من الأحيان- الدعوات الأوروبية للبحث عن حلولٍ دبلوماسية، والدعم الأمريكي لأوكرانيا لم يقتصر على الأسلحة فقط، بل شمل أيضًا تدفقاتٍ ماليةً ضخمةً، الأمر الذي جعل الولايات المتحدة اللاعب الرئيسي في الصراع.
في الوقت نفسه، لم يكن دعم أمريكا لأوكرانيا مجرد تحركٍ دفاعيٍّ ضد روسيا، بل كان له أهداف استراتيجية أبعد من ذلك، تمثلت في إضعاف روسيا عبر استنزافها في حربٍ طويلة الأمد، إلى جانب إضعاف أوروبا أيضًا، حيث كان القتال المستمر على الأراضي الأوكرانية يشكل ضغطًا اقتصاديًّا على الاتحاد الأوروبي، الذي يعتمد -بشكلٍ كبيرٍ- على الطاقة الروسية، كما أن انشغال دول الاتحاد الأوروبي بتداعيات الحرب منعتهم من التفرغ لتحقيق الاستقلالية الاقتصادية والسياسية عن أمريكا.
ورغم أن العديد من الدول الأوروبية قد عبرت عن رغبتها في دعم أوكرانيا، إلا أن هذه الدول تجد نفسها في موقفٍ لا تُحسد عليه، فبينما تتلقى أوكرانيا الدعم الأمريكي غير المحدود، تجد أوروبا نفسها مضطرةً لتقديم التضحيات، سواء كان ذلك عبر العقوبات الاقتصادية على روسيا أو من خلال تقديم مساعداتٍ لأوكرانيا، لكن رغم هذه الجهود يبقى الدور الأوروبي مقتصرًا على رسم سياسات الحرب والتفاوض على التسوية السياسية محدودًا.
أوروبا -التي كانت تقود العالم في فتراتٍ سابقةٍ من حيث القوة الاقتصادية والسياسية- تجد نفسها الآن في موقف التابع، فهي لا تجرؤ على اتخاذ قراراتٍ مصيريةٍ تؤثر في مسار الحرب؛ خوفًا من عواقب ذلك على مصالحها الحيوية، خاصةً فيما يتعلق بالطاقة والعلاقات الاقتصادية مع الولايات المتحدة، والنتيجة النهائية لذلك هي اضطرار أوروبا إلى أن ترهن نفسها لسياسات قوى عالمية أخرى، مثل أمريكا، ففي الوقت الذي تسعى فيه أمريكا لتحقيق مصالحها الاستراتيجية، تدفع أوروبا الثمن، وتجد نفسها عاجزةً عن التأثير في سير الأحداث أو منع تداعياتها السلبية على اقتصاداتها وشعوبها.
تظل الحرب الروسية الأوكرانية مثالًا على كيفية استغلال القوى الكبرى لضعف الدول الأخرى لتحقيق أهدافها الاستراتيجية، والدليل على ذلك أنه في حين كانت أوكرانيا ساحة المعركة الرئيسية، كانت أوروبا هي الخاسر الأكبر، ليس فقط من الناحية الاقتصادية بل أيضًا من حيث استقلالها السياسي، كما أن عدم قدرة أوروبا على اتخاذ مواقف مستقلة يُبرز هشاشة تحالفاتها، ويؤكد أن الرهان على القوى الكبرى قد لا يكون دائمًا في صالح الدول الصغيرة أو التكتلات الإقليمية.
في خِضَمّ استمرار الحرب في أوكرانيا، تبادل ترامب وزيلينسكي تصريحاتٍ حادةً، حيث انتقد ترامب الرئيس الأوكراني قائلًا بأنه قد فشل في إدارة الأزمة الأوكرانية بشكلٍ صحيح، ومؤكدًا أن أوكرانيا كانت تستطيع تجنب التصعيد، وبعد رفض الرئيس الأوكراني إعطاء أمريكا جزءًا من ثروات أوكرانيا الطبيعية نظير مساعتها في الحرب من جانبه، رد زيلينسكي على هذه الانتقادات، مجددًا تأكيده على أن بلاده لن تتراجع عن أهدافها في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو. تمثل هذه التصريحات تحولًا في السياسة الأمريكية، بينما يتمسك زيلينسكي بمواقف استراتيجية قد تساهم في استمرار النزاع.
وعليه، تبقى السياسات الحالية لواشنطن نقطةً حساسةً تثير تساؤلاتٍ حول مستقبل العلاقة بين الولايات المتحدة وحلفائها داخل الناتو، خاصةً في ظل التوترات المتزايدة.
وخلاصة ما سبق، لا تنساق وراء مصالح الآخرين؛ حيث قد يحاول البعض استغلال المواقف لصالحهم، لذلك من المهم أن تظل ثابتًا في مواقفك، وتُعطي الأولوية لمصالحك الخاصة، ولا تغتر بالأحلاف؛ لأنه حتى من يبدون حلفاء سيتبعون مصالحهم الشخصية وسيتركونك عندما تتغير الظروف، لذا حافظ على استقلالية قراراتك، وتأكد من أن تحركاتك تخدم أهدافك بشكلٍ رئيسي، بدلًا من الانصياع لضغوط الآخرين، (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [آل عمران: 105].
ابق على اطلاع على النشرة الإلكترونية