يعيش النظام الإيراني منذ اندلاع الاحتجاجات الشعبية في 15 سبتمبر/أيلول 2022، حتى الآن، أسوأ أيامه على الإطلاق، خصوصًا في ظل استمرار هذه الاحتجاجات إلى أجل غير مسمى، وهو ما يؤدى إلى انسداد أفق التغيير، ويضع مستقبل النظام برمته في "دائرة الخطر".
وما يميز التظاهرات الحالية، هو أنها تتوسع يومًا بعد يوم. ورغم القمع والعنف الموجه ضدها، إلا أنها تتسع في دائرتها وتجتذب إليها فئات مختلفة ومدنا إيرانية أكثر، بجانب القاعدة الأساسية لها وهي الحركة الطلابية التي ليس لها سقف محدد في مطالبها المنادية بإسقاط النظام.
وكان من المفترض أن تضع الاحتجاجات نظام الملالي أمام سؤال مفصلي، يتعلق باستمراريته وبقائه سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا، خاصة أن الظاهر من أداء هذا النظام هو الفشل الذريع في تقديم العلاجات المطلوبة للأزمات المتراكمة التي تعانيها هذه القطاعات، نتيجة سياسات فوقية لا تنظر إلى ما يحدث داخل المجتمع والحراك الاجتماعي من تحولات وتغييرات، ربما يتجاوز تأثيرها المظاهر الخارجية أو التعبيرات السلوكية اليومية، إلى ما هو أبعد من ذلك، ويلامس البنية الثقافية والعقائدية لهذا المجتمع.
أوهام الملالي
يرى خبراء الشأن الإيراني أنه ربما تكون منظومة السلطة في إيران، توصلت إلى اعتقاد بأنها تستطيع السيطرة على حركة الاحتجاجات الراهنة، وأن ما تطرحه من شعارات سياسية واجتماعية وثقافية "سطحية" حول ضرورة فتح باب الحوار وتعديل بعض السلوكيات والتصرفات كمدخل يؤسس لمعالجات مستقبلية، تصب في إطار الاستجابة للمطالب الشعبية.
غير أن تصاعد الأحداث يؤكد أن الاعتقاد بإمكانية السيطرة على الغضب الشعبي إنما هو وهم من أوهام الملالي، فما تكشف عنه الإجراءات والمواقف، لا يوحي بأن النظام ومؤسساته وأجهزته باتت على قناعة بضرورة القيام بخطوات جدية وجذرية وجوهرية في هذا الاتجاه، أو بما يخدم التوجه نحو استيعاب الغضب الشعبي المتنامي.
وهناك دعوات سياسية على أعلى مستوى لدعم المحتجين الإيرانيين، على اعتبار أنه رغم قوة الاحتجاجات وما تشكله من تحد خطير للنظام الإيراني، لكنها بحاجة لمساعدة خارجية لكي تحقق أهدافها في تخليص البلاد من هذا النظام، المتسبب فيما يعانيه الشعب من أزمات وجودية.
وفي مقال بصحيفة "التليجراف" نُشر في 20 أكتوبر/تشرين الأول 2022، نصح مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق جون بولتون، الغرب بضرورة دعم الاحتجاجات، قائلًا: "عدة سنوات من القمع، يقاوم الإيرانيون. ولتحقيق النجاح، يجب على الغرب دعم نضالهم".
وشدد بولتون، على أنه من الضروري الآن تقييم كيفية الإطاحة بنظام الملالي وما هو نوع الحكومة التي ستحل محله. القضية الرئيسية هي ما إذا كانت الاحتجاجات الواسعة النطاق اليوم لا تمثل فقط مجرد "معارضة" إيرانية جديدة، بل هي قوة حقيقية مضادة للثورة الإيرانية.
في المقابل، يؤكد بعض المراقبين عدم وجود إرادة دولية، ولا حتى إقليمية، تسعى بجدية لدعم إسقاط النظام. فالجميع يتوجّس من عواقب إسقاط النظام؛ لأنه من المؤكد أن موجات من الفوضى التي لا يمكن التنبؤ بمآلاتها ستجتاح إيران، ومن ثَمَّ ستفيض على المنطقة بأسرها، عاجلًا أو آجلًا.
كما أن ارتفاع عائدات النفط جراء الحرب في أوكرانيا، منح النظام قوة إضافية، ومزيدًا من القدرة على المراوغة في عدد كبير من الخيارات المتاحة. والمتكأ الاقتصادي أمر في غاية الأهمية، فمعظم الأنظمة لا تتزعزع، ولا تضطرب، فضلًا عن أن تسقط؛ إلا بفعل الأزمات الاقتصادية الخانقة التي تخلق حالة غضب شعبي واسع.
مواجهات مفتوحة
يؤكد المحلل السياسي حسن فحص، أن منظومة السلطة ما زالت تقف في المنطقة التي رسمتها لنفسها، والقائمة على رفض تقديم أي مؤشرات جدية، تشير إلى إمكانية إحداث تحول في أسلوب تعاملها مع القوى السياسية في الداخل الإيراني.
لذلك، عمدت أجهزة النظام إلى التصعيد مع بعض الأحزاب الإصلاحية، في وقت هي أحوج ما تكون لإعطاء هامش حرية لهذه القوى والأحزاب، للعب دور في تهدئة الشارع واستيعاب الحراك الاحتجاجي، من خلال منحها مساحة لفتح حوار مع الأجيال الشبابية، التي ربما تجد لغة مشتركة بينها لا تزال متاحة لتفاهمات قد تمنع الغرق في مواجهات مفتوحة، لن تُبقي في حال انفجرت على أي من الأطراف، سواء تلك الممسكة بالسلطة والمتفردة بها، أو تلك التي تحمل خطابات إصلاحية لا تشكل تحديًا جذريًا لمنظومة السلطة الحاكمة في البلاد.
وحتى قبل وقوع الاحتجاجات الراهنة، لم يقدم مسؤولو نظام الملالي استراتيجية واضحة تعبر عن مستقبل نظامهم السياسي، في عهد شهد العديد من التحولات السياسية الدولية والإقليمية، بل والداخلية أيضًا. والسبب في ذلك هو أن السلطة السياسية الإيرانية التي تقودها قوى دينية محافظة، تؤكد على استمرار مقولات الخصوصية الإيرانية ومبادئ الثورة الإيرانية والمجتمع الإيراني ذو الأغلبية الشيعية، التي تعتبرها السلطة وسيلة لجمع الإيرانيين حولها منذ ثورة عام 1979.
بيد أن ذلك لا يمنع الباحثين، ممن شهدوا قيام الثورة واللاحقين بهم على السواء، من اقتراح احتمالات مستقبلية تتأرجح غالبًا بين الاستمرار والتغيير للنظام السياسي الإيراني، إذ أن كل حدث يقع في إيران أو تنافس بين القوى العظمى للسيطرة على هذه المنطقة يجعل الدراسات تذهب إلى تحليل الوضع العام، وما قد يستقر عليه النظام السياسي الإيراني في المستقبل.
ويقول الأكاديمي العراقي الدكتور حمد جاسم الخزرجي، إن "أي دراسة أكاديمية لمستقبل النظام السياسي لا يمكن أن تتم من خلال دراسة النصوص الدستورية، أو شكل النظام السياسي فقط، لأنها ستتسم حينئذ بالشكلية والمظهرية. إنما يجب أن تتعداه إلى فحص واقع وعمل المؤسسات السياسية الرسمية، والقوى غير الرسمية، ودراسة المتغيرات الداخلية والخارجية المؤثرة فيه، وصولًا للانطلاق نحو المستقبل، وبيان السيناريوهات والاحتمالات المستقبلية لبقاء النظام الإيراني، من عدمه".
وتتجه توقعات المراقبين في أغلبها إلى مرحلة تشدد قد تعيد النظام إلى سنواته الأولى، لاسيما لو انتهى الأمر إلى اختيار "مرشد بالوراثة"، حيث تتجه أنظار الكثيرين إلى مجتبى خامنئي لخلافة والده، والذي يستشعر المحتجون في إيران خطورة صعوده، بكل خلفياته التي تجعل منه قائدًا ميلشياويًا عسكريًا أكثر منه قائدًا دينيًا، وكل ذلك يضع إيران على أعتاب مرحلة جديدة يصعب على أي مراقب التنبؤ بمآلاتها المستقبلية.
ومهما يكن من أمر، فإن الاحتجاجات الحالية لن تمر دون عواقب على النظام الإيراني، وأنها ستكون حلقة في سلسلة يمكن أن تنتهي مستقبلًا بتغيير النظام، أو على الأقل رؤوسه وقادته، لاسيما أن هناك تزامنًا لا يجب إغفاله بين هذه الظروف الداخلية المعقدة، وبين التقارير الموثوقة التي تتحدث عن تدهور صحة المرشد الإيراني علي خامنئي بشكل يجعل احتمالات وفاته وشيكة، يغلّف "الحالة الإيرانية" بالغموض، وهو ما يفتح الباب أمام مرحلة انتقالية لن تمر دون حدوث صراعات كبرى داخل النظام.
ــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر:
1- مستقبل النظام السياسي في جمهورية إيران الإسلامية، موقع جامعة النهرين، 16 سبتمبر/أيلول 2022.
2- مستقبل النظام في إيران، موقع البلاد، 21 أكتوبر/تشرين الأول 2022.
3- أي تأثير للاحتجاجات الراهنة على النظام الإيراني؟، موقع إيلاف، 16 أكتوبر/تشرين الأول 2022.
4- النظام الإيراني وأزمة الخروج من دائرة الخطر، موقع إندبندنت عربية، 3 نوفمبر/تشرين الثاني 2022.
ابق على اطلاع على النشرة الإلكترونية