كشفت محاولة اغتيال رئيس وزراء العراق مصطفي الكاظمي التي جرت أخيرًا عن وصول الصراع السياسي، والاقتصادي، والأيدولوجي إلى ذروته. ومن الواضح من ممارسة الكاظمي السياسية أنه يعمل على مشروع إعادة بناء الدولة العراقية، بعيدًا عن الهيمنة الإيرانية، وهو ما يعد استجابة للمظاهرات التي اندلعت في عام 2019 واستمرت لفترة طويلة، وكانت تطالب بالقضاء على الفساد، والحد من نفوذ إيران، واستعادة الهوية الوطنية للعراق، والعمل على ازدهار الاقتصاد وتقدمه، وهو ما دفع الكاظمي بالسعي إلى تأسيس مشروع "الشام الجديد" مع مصر والأردن، حيث تتسم العلاقات الاقتصادية والتجارية بين مصر والعراق بتعدد مجالاتها، وفي ظل امتلاك البلدين وفرة الإمكانات الخاصة بتطويرها، مع تطبيع العلاقات مع كل جيران العراق وخاصة السعودية ودول الخليج. أي عودة إلى استقلال القرار العراقي سياسيًا واقتصاديًا.
لقد انتقل العراق من حكم شمولي ديكتاتوري قائم على رأسمالية الدولة في عهد صدام حسين، إلى اقتصاد يعتمد على القطاع الخاص والاستثمارات الأجنبية، وعلى المستوى السياسي من نظام الحزب الواحد إلى التعددية الحزبية القائمة على المحاصصة الطائفية. وقد نتج عن غزو العراق عام 2003 عدة مآزق كبيرة جعلت العراق مسرحًا للحروب بالوكالة، أولها هيمنة الإسلام السياسي (الشيعي)، الذي ترتبط معظم أحزابه بإيران ارتباطًا مذهبيًا وسياسيًا. المستفيد الأول إذن مما حدث في 2003 هي الدولة الإيرانية. فمنذ هذا التاريخ وحتى الآن في ظل المحاصصة الطائفية ضعفت الدولة العراقية إلى حد كبير، ليس فقط في الجانب السياسي، ولكن أيضًا في الجانب الاقتصادي، والانتماء الوطني، كما تدهورت حياة المواطنين اجتماعيًا واقتصاديًا، بالإضافة إلى عدم الاستقرار السياسي، ونموذجه ظهور داعش، التي تم تكوين تحالف دولي لمحاربتها، والتي أعطت فرصة للإسلام السياسي (الشيعي) المرتبط بإيران، أن تتكون تنظياماته القتالية والعسكرية التي لا سيطرة كاملة للدولة العراقية عليها، متبعة نموذج حزب الله اللبناني. ولكي تستطيع إيران تحقيق المكاسب الاقتصادية والسياسية عبر النفوذ واستغلال المذهبية، قامت بالإشراف على تدريب مقاتلي المنظات العسكرية التابعة لها ومدها بالدعم.
نهبت إيران العراق اقتصاديًا وماليًا منذ عام 2003، وكأن الغزو الأمريكي قدم لها ثروات العراق على طبق من فضة، فوصل النهب إلى عشرات المليارات، كما أن العراق أصبحت الشريك التجاري الأول لإيران، فإيران انفتحت على العراق اقتصاديًا دون محددات وعوائق، حتى أصبح العراق سوقًا مفتوحًا لإيران، وحركة التنقلات بين البلدين تتم دون أي موانع أو قيود، وهو ما سهل من انتقال البضائع والأسلحة والخبراء. وقد انعكس هذا النفوذ في القطاعات الاقتصادية المختلفة، مما منحها القدرة على إعادة صياغة وهيكلة الاقتصاد العراقي بما يخدم أجندتها. فضلًا عن أنها حتى عام 2019 أنشأت ٣٠ سدًا على منابع نهري سيروان والزاب الصغير اللذين ينبعان داخل الأراضي الإيرانية، ويجريان في إقليم كردستان العراقي، إضافة إلى إنشاء نفق هيرو الذي يحول أكثر من ٦٠٠ مليون هيكتار من مياه نهر سيروان إلى منطقة سربيل زهاو، وبعد كل ذلك تطالب الآن إيران العراق بتعويضات عن حرب ثمانينيات القرن الماضي بمبلغ مالي يقدر بـ1100 مليار دولار!!.
هكذا يمكن أن نفهم لماذا حاولت الميليشيات التابعة للدولة الإيرانية أن تغتال الكاظمي، رجل الدولة القوي الذي يحاول إعادة التوازن للعلاقة بين إيران والعراق، من خلال الانفتاح على على المحيط العربي، كمصر، والسعودية، والأردن، والإمارات، ومن الواضح أن الكاظمي يعتمد على دعم شعبي غير مسبوق من القطاعات الواسعة من المواطنين، كما أنه يعتمد على دعم إقليمي ودولي متمثلًا في بعض الدول العربية، وفي الولايات المتحدة الأمريكية التي تنافس إيران في النفوذ وقد وقعت الولايات المتحدة الأمريكية اتفاقيات تجارية مع غرف تجارة وصناعة إقليم كردستان، كما أنها انسحبت من خطة العمل المشترك، والذي تسبب بتراجع العائدات الإيرانية من صادرات النفط الخام والتجارة الخارجية. والسؤال الآن هو، هل تنجح محاولات الكاظمي في استعادة الدولة العراقية لهويتها الوطنية، واستعادة الدور التقليدي للعراق في المنطقة والذي انتهى بنجاح الغزو الأمريكي عام 2003، وفي هذا الإطار هل يمكن تطوير العملية السياسية والاقتصادية أو إصلاحها في العراق وتصبح بالفعل دافعًا لتقدم العراق ورفاهية أبنائها.
ابق على اطلاع على النشرة الإلكترونية