The Atlantic
مقدمة الترجمة
من قلب إيران نفسها، وصولا إلى العراق وسوريا ولبنان، يتغير المشهد الإستراتيجي في الشرق الأوسط بشكل لا يتلاءم مع خطط طهران وطموحاتها. في هذا المقال، يستشرف كيم غطاس، الكاتب المشارك في "ذي أتلانتيك" والزميل غير المقيم بمعهد كارنيغي، مستقبل القوة الإيرانية في ظل استمرار سياسة الضغط الأميركية في عهد بايدن، وجهود الدول العربية لمحاصرة طهران وعزلها.
نص الترجمة
قليلون هُم المسؤولون السعوديون الذين يتمتَّعون الآن بصراحة وحيوية الأمير "تركي الفصيل"، نجل الملك السعودي الراحل "فيصل بن عبد العزيز"، وسفير السعودية السابق إلى واشنطن. فرغم أنه ليس ذا صفة رسمية حكومية اليوم، فإن نفوذه باقٍ ورؤيته الثاقبة لشؤون المملكة باقية أيضا، وبفضل عشرين عاما ونيف من الخدمة على رأس الاستخبارات السعودية، فإنه يعي طبيعة المنافسة السعودية مع إيران أكثر من أي شخص آخر. لذا، لم أُفاجأ كثيرا حين قدَّم الأمير لي تقييما صادقا للوضع الحالي، إذ قال إن "الإيرانيين قد أمسكوا بنا من عُنقنا". (كان حديث الأمير في جلسة خاصة لكنه سمح لي بنشره بعد ذلك).
من المفترض أن تشعر المملكة بالأمان وهي تواجه غريما مُكبَّلا بالعقوبات الاقتصادية الدولية، واقتصاده أصغر من اقتصادها، وميزانيته العسكرية أقل من ثُلث ميزانية المملكة، وإنتاجه من النفط عند أدنى مستوياته. بيد أن السعودية، وهي المملكة العربية السُّنية، تشعر بارتباك لم ينقطع طيلة عقود في مواجهة إيران، ذات النظام الثيوقراطي الشيعي والفارسي، والسبب في ذلك وجيه.
يتشدَّق المسؤولون الإيرانيون منذ سنوات بأنهم يتحكَّمون في أربع عواصم عربية هي بيروت ودمشق وصنعاء وبغداد. وتُدير طهران عبر تلك البلدان الأربعة شبكة من الميليشيات يمتد عبرها نفوذها، وهي تستهلك الموارد المحلية بكثافة وترسم حلقة إقليمية مشتعلة تحاصر السعودية فعليا. لقد منح النهج الإيراني الأرخص و"الميليشياتي" في الحرب (أو اللا مُتماثل (Asymmetrical) كما يُعرف) الكثير من المزايا لطهران على حساب جيرانها الخليجيين الأكثر ثراء منها، الذين يحوزون قوات مسلحة تقليدية جيدة التسليح ولكن ضعيفة الخبرة. حين تُضيف إلى كل ذلك برنامجا نوويا يمضي على قدم وساق، ستجد أن كلمات الأمير تركي دقيقة، أو على الأقل كانت كذلك حتى وقت قريب جدا، إذ إن تحوُّلات جدية وهادئة تجري في الشرق الأوسط مؤخرا قد بثَّت القلق في إيران وضيَّقت عليها الخناق، بل وتسبَّبت للمفارقة في سلوكها المُفرِط في الثقة والرافض لتقديم التنازلات.
إيران: هل بدأ أفُول الهلال الشيعي؟
لنبدأ بالبرنامج النووي الإيراني. لقد تطلَّعت طهران إلى ما ستجلبه رئاسة "جو بايدن" من عودة سريعة وسلِسة إلى اتفاق فيينا الذي انسحب منه الرئيس السابق "دونالد ترامب"، وإلى ما سيتبع ذلك من رفع للعقوبات، لكن إدارة بايدن أظهرت تعنُّتا لم يتوقعه الإيرانيون، وها نحن بعد عام من دخول بايدن البيت الأبيض دون انفراجة في الأفق للاقتصاد الإيراني الذي انكمش بنسبة 7% بين عامَيْ 2019-2020، مع هبوط حاد في العُملة الإيرانية. لقد ارتفعت صادرات إيران من النفط عام 2016 إلى 2.5 مليون برميل يوميا عقب دخول الاتفاق النووي حيز التنفيذ، غير أنها انخفضت بعد ذلك إلى 400 ألف برميل يوميا فقط في سنوات ترامب، ثمَّ عاودت الارتفاع قليلا بعد بدء رئاسة بايدن، ولكنه ارتفاع طفيف ليس إلا.
بالإضافة إلى ذلك، فقدت إيران حرية الوصول إلى أكثر من 100 مليار دولار من الاحتياطي الأجنبي الخاص بها، وحتى اللحظة بعد نحو عام تحت رئاسة بايدن، فإنها لا تزال بعيدة عن الوصول إلى تلك الأموال المُودَعة في عدة بنوك عالمية. وتحتاج إيران إلى تلك الأموال لضبط عُملتها الوطنية والإبقاء على عمل اقتصادها بشكل طبيعي وتفادي أي حركات احتجاجية، لكنها رغم حاجتها المُلِحَّة إلى كل ذلك، لا تُبدي أيَّ استعداد لتقديم التنازلات، وتستمر في تمويل وتطوير برنامجها النووي وتحرُّكاتها الإقليمية لمدِّ نفوذها.
بيد أن الموارد المحدودة جدا ليست هاجس إيران الأكبر. فقد تحدَّث معي أكاديمي إيراني يعمل خارج بلاده، وطلب عدم ذكر اسمه لأنه يتردَّد على طهران، وقال إن طهران لم تعُد تستطيع الإنفاق على حلفائها وميليشياتها كما في السابق (ونفقاتها اليوم نصف ما كانت عليه عام 2014 تقريبا، وتقف عند نحو 2-3 مليارات دولار سنويا حسب تقديره). أما التحدي الحقيقي الذي يواجه إيران فهو المشهد الإقليمي الذي يتغيَّر سريعا هذه الأيام، وهو عينه السبب الذي يُفسِّر عدم رغبتها في التنازل أثناء المحادثات النووية الأخيرة.
أولا، هناك الضربات الإسرائيلية المستمرة على المواقع العسكرية الإيرانية في سوريا، والشكوك (الموجَّهة لإسرائيل) حيال تخريب المنشآت النووية ومنشآت الطاقة الإيرانية على مدار العامين الماضيين. أضِف إلى ذلك أن إيران تضطر إلى التعاون، وأحيانا إلى التنافس، مع الجيش الروسي الأقوى منها في سوريا، ما يُقلِّص جزئيا من ثقلها على الأرض. أما الأشد إرباكا لطهران فهو انفجار الغضب الشعبي في بيروت وبغداد ضد الفساد والطائفية عام 2019، وهو غضب استهدف نفوذ إيران وميليشياتها في البلدين. فلم يجلب تنفُّذ إيران في لبنان والعراق أي مزايا اقتصادية لسُكَّانهما، باستثناء حلفاء إيران المقرَّبين أو حفنة من الفاسدين المتعاونين معها، وهو ما تزامن مع سقوط البلدين في قبضة الإهمال الاقتصادي.
كتب "كريم سجادبور"، محلل الشأن الإيراني بمعهد كارنيغي (حيث أعمل باحثا غير مُقيم)، واصفا هذا الوضع بأنه "محور البؤس" (بدلا من محور الشر كما وصفه الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن)*. وقد تزامنت احتجاجات 2019 في لبنان والعراق مع خروج بعض الإيرانيين أنفسهم ضد حكومتهم، وكلُّها تحرُّكات شكَّلت معا تحديات من أعقد ما رآه "قاسم سليماني" في مسيرته (القائد السابق لفيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني). هذا وخشي الإيرانيون موجة الغضب إلى حدِّ إشراك سليماني شخصيا في القمع العنيف للاحتجاجات في لبنان والعراق وإيران آنذاك، قبل مقتل سليماني نفسه بواسطة ضربة أميركية بالعراق في يناير/كانون الثاني 2020.
تواصلت الاحتجاجات في لبنان والعراق، وتسبَّب تقلُّب المزاج العام ضد طهران في خسارة حلفائها الانتخابات البرلمانية الأخيرة بالعراق في أكتوبر/تشرين الأول. ولا يعني أيٌّ من ذلك أن النفوذ الإيراني في العراق ينحسر، لكنه يعني أن قبضة طهران تخلخلت قليلا. أيضا، نجا رئيس الوزراء العراقي "مصطفى الكاظمي" بالكاد من محاولة اغتيال بواسطة طائرة مُسيَّرة حلَّقت فوق محل سكنه، ووجَّه المسؤولون الأميركيون والعراقيون أصابع الاتهام إلى الميليشيات الموالية لإيران، ولا يعنينا تماما إن كانت إيران قد وجَّهت ذلك الهجوم أم لا، فهي إن فعلت دلَّل ذلك على حنقها وموقفها المأزوم، وإن لم تفعل فإن محاولة الاغتيال تعني أن قبضتها باتت أرخى على الميليشيات.
وفي لبنان، صدح المتظاهرون لأول مرة بشعارات مناوئة لميليشيا حزب الله وزعيمه "حسن نصر الله"، وشمل ذلك بعض المدن التي يُعَدُّ حضور الحزب فيها أقوى ما يكون، وعلى ما يبدو فإن التحقيق الجاري في انفجار مرفأ بيروت الذي وقع العام الماضي لا يُريح حزب الله. علاوة على ذلك، شهد الصيف المنصرم صداما بين عدد من أعضاء حزب الله وأعضاء من شتى الطوائف في عدة مواقع بلبنان الذي يعجُّ بالسلاح، وأسفر الصدام عن مقتل عضويْن على الأقل من الحزب رميا بالرصاص، ما يعني أن هالة القوة المنيعة للحزب قد تلقَّت ضربة.
هذا وتأمَل الجماعات المعارضة في لبنان في تكرار بعض من النجاحات التي شهدها العراق بانتزاع مقاعد برلمانية من قبضة حزب الله وحلفائه في انتخابات العام القادم، وهُنا نشير مجددا إلى أن السخط الشعبي حقيقي، وأن إيران تتعلَّم أن هيمنتها عبر القمع والاغتيالات تظل عملا شاقا لا نهاية له، غير أن طهران ستواصل استخدام أدواتها تلك كافة، بما فيها العنف، لإحكام قبضتها. هل بإمكان هذا الضغط الشعبي ضد إيران أن يُترجَم إذن إلى تغيير سياسي؟ الإجابة باختصار هي "لا"، أو على الأقل ليس بصورة بنَّاءة، إذ إن الآليات المحلية المُتاحة لمناورة إيران وحلفائها الراسخين داخل لبنان والعراق محدودة للغاية.
ابق على اطلاع على النشرة الإلكترونية