هذا هو العدد الأول من مجلة «بلوشستان» ضمن إصدارات مركز الخليج للدراسات الإيرانية في إطار سياسة المركز الهادفة للدفاع عن حقوق الشعوب المقهورة والأقليات المظلومة.
نحاول من خلال هذه المجلة أن نكون صوتًا لـ«البلوش» الذين لا صوت لهم ولا منبر يدافع عنهم بعد أن تقاذفتهم المصالح الدولية وأطاحت بأرضهم سياسات الدول الكبرى.
«بلوشستان» منبر جديد ينضم لـ «كردستان» و«الأحواز» بحثًا عن عالم أكثر عدلًا وبيئة أكثر أمنًا لتلك الشعوب التي غاب صوتها واختفى أنينها في ظلمات الشرق الأوسط.
في «بلوشستان» لا نحابي أحدًا، ننتصر فقط للمظلوم، ونفضح الظالم، نسند الضعيف بكلمة، ونواجه المستبد بكلمة، نرفع للحق راية ليلتف حولها الأحرار، ويستند عليها الضعفاء، ويرتكن إليها كل مظلوم.
«التاريخ يكتبه المنتصر دومًا، ولا يعترف أبدًا بالخاسرين». وفق هذه القاعدة سقطت كثير من الأمم والقوميات من حسابات الزمان، بعد أن استخرج لهم المنتصر شهادة وفاة أخرجتهم من حسابات التاريخ والجغرافيا رغم كونهم أحياء يرزقون.
هؤلاء الموتى الأحياء، المخفيون من التاريخ، كانوا يومًا ما ملء السمع والبصر، وكانت لهم ممالك ودول، ولكن تاه كل ذلك بعد هزيمتهم على يد المستعمرين. ورغم قرون التيه الاستعماري ما زالت هذه القوى تبحث عن هويتها، وتسعي جاهدة لاستعادة تاريخها وأراضيها وثقافتها.
في صدارة الأمم التي دمر الاستعمار تاريخها وحاضرها يأتي «البلوش»، تلك القومية التي شهد تاريخها نشأة ممالك وإمارات مستقلة على أرض «بلوشستان» بدءًا من القرن الرابع عشر الميلادي.
«بلوچ» أو «البلوش» أحد الأعراق التي توجد في باكستان وإيران وأفغانستان. ويتميزون بلغتهم الخاصة التي هي مزيج من عدة لغات، منها العربية والهندية والفارسية، ويتميزون أيضًا بعادات وتقاليد خاصة، ألا أنهم اندمجوا في المجتمعات التي هاجروا إليها، ومنها المجتمعات الخليجية والعُمانية على الخصوص.
بحسب الراحل رياض الريس في كتابه «العرب وجيرانهم.. الأقليات القومية في الوطن العربي» يرجع أصل البلوش إلى العرب الذين سكنوا بين النهرين، وإلى الكلدانيين من نمرود وبيلوس، ومن هنا جاء اسم البلوش.
يقع إقليم بلوشستان جنوب غرب آسيا على الحدود بين باكستان وأفغانستان وإيران. ويوجد ثلثا مساحته في باكستان، والثلث الآخر في إيران، ويسكنه ما يقرب من نحو 15 مليون نسمة من قومية البلوش.
يشير سامح عبود في كتابه «الأقليات الدينية والعرقية والمذهبية في إيران» إلى أن الاسم القديم لأرض بلوشستان هو «مُكا»، وبمرور الوقت تغير الاسم إلى «مُكران»، وتحول اسمها إلى بلوشستان بعد أن استقرت بها القبائل البلوشية.
يري بعض المستشرقين أن أفضل طريقة لفهم بلوشستان يكون باعتبارها منطقة لا يملكها أحد، فلم يهتم أحد بها لأنه جبلية وصحراوية، ودون أهمية تاريخية محددة. لهذا السبب، فإن بلوشستان عادة ما كانت منطقة لجوء أشخاص لم يمكن استيعابهم في الإمبراطوريتين الهندية أو الإيرانية، هؤلاء الأشخاص انتقلوا إلى بلوشستان، واتخذوا منها ملجأ، وبنوا فيها لأنفسهم مستقرًّا، وبحسب الفكر البلوشي، فإن البلوش يرون أنفسهم مجموعات ذات أصل عربي.
يؤكد صاحب كتاب «الأقليات في إيران» أن البلوش يختلفون عرقيًّا ولغويًّا عن الفرس، ويتحدثون البلوشية، ويتوزعون على قبائل عدة، ويجمعهم لقب «البلوشي» نسبة إلى جبل البلوص في مكران. وكان سكانه الأُوَل من قبائل الأزد القحطانية، وبني تميم، وبكر بن وائل، وقريش، وحمير، ما يشي بأصلهم العربي السامي لا الفارسي الأذري. وأغلب البلوش مسلمون سُنَّة أحناف، وقبل دخولهم الإسلام كانوا يدينون بالزرادشتية.
لكن الكاتب البلوشي تاج محمد بريسيك، في كتابه «القومية البلوشية: أصولها وتطورها»، والذى ترجمه إلى العربية الباحث العماني أحمد بن يعقوب، يرى أن أكثر تاريخ البلوش القديم ضبابي، وغير يقيني، ويستند إلى روايات أسطورية، مشيرًا إلى أن الدراسات الغربية الحديثة تقرر أن البلوش مزيج عرقي من عدة شعوب وطبقات.
يعاني البلوش في باكستان وإيران الأمَرَّيْن في ظل أنظمة لا تعترف بهم، ولا تراهم سوى إرهابيين، أو أقلية مذهبية يجب أن تلتزم بمذهب الدولة.
لا توجد إحصاءات رسمية دقيقة لأعداد البلوش، إلا أن التعداد السكاني في إقليم بلوشستان الباكستاني الذي يسكنه البلوش والبشتون وصل في 2023 إلى 21.9 مليون نسمة وفقًا للإحصاءات الحكومية، بينما يصل عدد سكان سيستان وبلوشستان الإيرانية إلى 4 ملايين و500 ألف نسمة، وفقًا لإحصاءات في 2020. بينما تقدر بعض الإحصاءات عدد السكان البلوش في أفغانستان بأنه يزيد على مليون نسمة.
معاناة بلوش إيران ذات بعد طائفي مذهبي، إذ يُنظَر إلى البلوش كأقلية عرقية، وكذلك كجزء من الأقلية السُّنية التي يجب عليها أن تخضع للسيادة الشيعية.
لا تتورع السلطات الإيرانية عن اتخاذ الإجراءات العقابية والعنصرية ضد البلوش، فقد مُنِعَت الموسيقى البلوشية، وحُظِرَت الأسماء، وكذلك التعليم باللغة البلوشية، حتى تراجعت نسبة تعليم البلوش بشكل كبير، فلم يلتحق بالتعليم الجامعي أكثر من ألفي طالب بلوشي، من أصل أكثر من أربعة ملايين طالب جامعي إيراني. وحُرِمَ البلوش من المناصب حتى داخل مناطقهم. ورغم أن الإقليم من أغنى الأقاليم بالنفط والذهب والغاز واليورانيوم والنحاس، فإن التنمية فيه تكاد تنعدم، مع بطالة كبيرة وفقر شديد.
الوضع المزري الذي يعيشه البلوش ربما يكون طارئًا على تلك القومية التي شهد تاريخها نشأة ممالك وإمارات ودول، فقد بدأ التميز البلوشي بالظهور الواضح في القرن الثاني عشر الميلادي، وظهرت لهم في القرنين السادس عشر والسابع عشر دول قائمة على الزعامات الأرستقراطية والإقطاعية.
وفي القرن الثامن عشر ظهرت «خانية كلات» البلوشية التي ظلت بمثابة دولة للبلوش حتى عام 1839 عندما أُخضِعت المنطقة للنفوذ البريطاني، وفي أثناء ذلك قُسِّمت البلاد البلوشية بين الهند (لاحقًا باكستان) وإيران وأفغانستان.
بحسب دراسة «صراع القوى المتنافسة فى إقليم بلوشستان» للباحث الإيراني محمد حسن بور، فإنه رغم الاحتلال استمر البلوش في الحكم من 1858 إلى 1947 لأن البريطانيين لم يعطلوا مؤسسات الحكم البلوشية، بل أنشأوا إدارة موازية خاصة بهم.
يذكر رياض نجيب الريس في كتاب «العرب وجيرانهم» أنه في عام 1947 أعلن البلوش دولتهم المستقلة إثر الانسحاب البريطاني من الهند، برئاسة خان كلات، وأحمد يار خان، وجرت انتخابات نيابية، وشكَّل القوميون البلوش الحكومة.
لكن هذه الدولة المستقلة لم تستمر سوى ثمانية أشهر، وضمت باكستان الأراضي البلوشية إليها، وبموافقة تثير الجدل للخان البلوشي الذي كان بمثابة حاكم البلوش «مير أحمد يار خان»، ولعله قدَّر أن هناك إصرارًا باكستانيًّا وبريطانيًّا على ضم بلوشستان، وأن الرفض سيؤدي إلى حرب لا يقدر البلوش على خوضها. يضاف إلى ذلك أيضًا عدم وجود وحدة وطنية كافية بين القبائل البلوشية تستطيع أن تقود صراعًا من أجل الاستقلال.
لا يعني ذلك أن قضية الاستقلال انتهت حينها تمامًا. فالبلوش لم يقبلوا، ولم يعترفوا بخطوط التقسيم التي فرضها الاستعمار على الإقليم بحكم الأمر الواقع، بل ناضلوا من أجل استعادة وحدتهم وتأكيد سيادتهم على أراضيهم. ويتضح هذا من خلال الثورات المتعددة لشعب بلوشستان ضد باكستان في أعوام 1948 و1958 و1962 و1973، إضافة إلى الاحتجاجات المستمرة التي تعود بداياتها إلى 2005.
إضافة إلى نضالهم ضد إيران منذ احتلالها غرب بلوشستان عام 1928، حيث شهد غرب بلوشستان ثورات عام 1930 و1940 و1950 التي عُرِفَت باسم ثورة «مير دادشاه».
ابق على اطلاع على النشرة الإلكترونية