ثورة 19 تموز... ثمرة نسج المرأة الكردية لحياة ديمقراطية تشاركية

- 10 سبتمبر 2024 - 129 قراءة

لعبت المرأة الكردية دوراً مهماً في التاريخ، نتيجة المكانة التي تقلّدتها في العديد من المجالات. وما زالت تحافظ على المكانة ذاتها في المجتمع الكردي، رغم مرور مئات السنين، وأصبحت صاحبة دور فعال وبارز ورمزاً من رموز النضال والكفاح. الأمر الذي أدى إلى بروز أسماء العديد من الشخصيات النسائية التي كُتبت بأحرفٍ من ذهب بين صفحات تاريخ الشعب الكردي المشرق الذي بات ميراثاً ينهل منه الجميع. فمع بدء نضال حركة تحرر المرأة الكردستانية التي ظهر في سبعينيات القرن الماضي، اكتسبت المرأة الكردية هوية جديدة بفضل النضال الأيديولوجي والسياسي والاجتماعي التي خاضته في مسيرتها النضالية، وما زالت تخوضه بالوتيرة ذاتها دون أي كلل أو ملل أو أي تردد يذكر، في أجزاء كردستان الأربعة رغم تعرضها للعديد من الانتهاكات والمضايقات والممارسات على يد سلطات الأنظمة الشمولية التي تحتل أرضها كردستان.

عانت المرأة الكردية في سوريا من سياسات السلطة والذهنية الذكورية الإقصائية المتبعة منذ ستينيات القرن الماضي في ظل حكم حزب البعث، إذ تعرضت للظلم والاضطهاد، والتغييب الكامل عن الحياة السياسية والديمقراطية. نتيجة إقصاء دورها الطليعي في المجتمع ومنعها من ممارسة حقوقها القومية والثقافية، وحرمانها من التعليم والتحدث باللغة الكردية، إضافة لمنع سلطات البعث من مشاركة الشعب الكردي في الفعاليات والنشاطات السياسية وعدم السماح له بممارسة حقوقه كشعب ولد وترعرع على هذه الأرض، فكان للمرأة الكردية النصيب الأكبر من تلك الانتهاكات والسياسات والإجراءات التعسفية حيث همشت من كافة نواحي الحياة، لدرجة أنها لم تكن تستطيع تسمية أبنائها بأسماء كردية، وإذا ما استطاعت تسمية أحد ابنها، فقد كان يسجّل في دوائر النفوس التابعة للحكومة السورية باسم عربي غير الذي أطلق عليه، وأحبت أن ينادى به.

ورغم تلك السياسات القمعية والمضايقات المستمرة بحقها، فقد كانت قويةً صامدةً راسخةً في أصعب الظروف وأحلكها لتنظيم صفوفها وتصعيد نضالها الثوري في وجه آلة القمع التي تتعرض لها، فلم تتوانَ أو ترضخ لتلك الانتهاكات، بل عملت جاهدة على تشكيل وعي حقيقي لتصبح صاحبة دور وحضور وإن كان ذلك بشكل سري ومحدود إلى درجة ما. لكن مع بدء ما يسمى الربيع العربي في المنطقة وتنظيم المظاهرات والاحتجاجات الشعبية للإحاطة بحكامها المستبدين، شهدت الساحة السورية أيضاً حراكاً شعبياً جماهيرياً يبعث على الأمل، ضد نظام حكم الحزب الواحد، في البلاد انطلاقا من محافظة درعا، لتشمل جميع المحافظات السورية، لكن سرعان ما انحرف الحراك عن مساره الصحيح، وعن أهدافه الحقيقية نتيجة تدخل أطراف إقليمية وقوى دولية لا تريد بسوريا وأهلها خيراً، وهو ما حوّل البلاد إلى ساحة لتصفية الحسابات وحرب بالوكالة بين تلك الأطراف في المنطقة خلفت من ورائها آلاف الضحايا واللاجئين والمهجرين، فكانت النسبة الأكبر من بين ضحايا الحرب للنساء بحسب إحصائيات رسمية.

وبينما غرقت معظم مناطق البلاد في أتون فوضى عارمة، وفراغ سياسي ما زالت تداعياته تلقي بظلالها على البلاد عامة، كانت الجهة الأخرى من البلاد حيث مناطق شمال وشرق سوريا التي عانت الاضطهاد على يد حزب البعث، قد اتخذت بجميع مكوناتها من كرد وعرب وسريان وآشور، نهجاً مختلفاً ومغايراً للنهج الذي اتخذته المناطق السورية الأخرى، هو نهج الخط الثالث المتمثل بالأمة الديمقراطية والذي يستند إلى أخوة الشعوب والتعايش السلمي، ونظام الإدارة الذاتية الديمقراطية الذي يعبر عن المعنى الحقيقي لإدارة الشعب نفسه بنفسه.

وهنا سنحت الفرصة لمشاركة المرأة الكردية، بكل قوة وفعالية، الفرصة التي كانت ثمرة سنوات طويلة من النضال الشاق الذي قادته بشق الأنفس، جاءت بمثابة رد قاطع وصريح على سنوات القمع بحقها وضربة قاضية في وجه سياسات البعث، لتبرز دورها القيادي والريادي أكثر في جميع مجالات الحياة بدءاً من المجال السياسي والدبلوماسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي، إلى تشكيلها منظومة دفاعية قوية عظيمة تضم آلاف المقاتلات المتدربات، في المنطقة وقوة عسكرية منظمة من كافة الجوانب، فكانت صاحبة إرادة لا تقهر في وجه الهجمات المعادية التي تستهدف حراكها المقدس، وذلك لحماية نفسها وأرضها وبالتالي الحفاظ على المكتسبات الحقيقية التي حققتها إبان ثورة 19 تموز في مناطق شمال وشرق سوريا، التي بدأت شرارتها من مدينة كوباني الكردية المقاومة وانتشرت بسرعة البرق لتشمل جميع المدن الكردية الأخرى في الوقت الذي كانت فيه البلاد تتخبط في ظل الصراع بين قوات الحكومة السورية وفصائل مسلحة كانت تتبع لما تعرف بالمعارضة السورية المدعومة من النظام  التركي.

نعم استغلت المرأة في شمال وشرق سوريا تجاربها النضالية السابقة في سوريا، مما ساعدتها على الانخراط في شتى مجالات الحياة وإجراء العديد من التغييرات الجذرية الملموسة في حياتها لتعود بقوة إلى المشهد العام في المنطقة، حيث أقدمت على تأسيس منظمات ومؤسسات ولجان وكومينات ومجالس وتنظيمات نسوية خاصة بالمرأة لإدارة المجتمع وقيادته على أكمل وجه، الأمر الذي فتح الطريق أمام جميع النساء للتوجه إلى تلك المراكز لمعالجة مشاكلهن ومحاربة المفاهيم الذكورية والنزعة السلطوية والقوالب النمطية، إضافة إلى المطالبة بحقوقهن الأساسية في الحياة والنضال حتى الوصول إلى الهدف المنشود وهو سوريا ديمقراطية لا مركزية.

وإلى جانب هذه النقلة النوعية تقلدت المرأة مناصب مهمة في الإدارة الذاتية الديمقراطية، وخرجت عن الإطار المعروف والسائد والقوقعة التي وضعت فيها لفترة من الزمن نتيجة العادات والتقاليد البالية في المجتمع، فكسرت الصورة النمطية التي أخذت عن المرأة قبل الآن مبرزةً استعداداتها وقدراتها ومواهبها وأفكارها النيرة، ليصل مستوى تمثيلها في الإدارة الذاتية التي تضم العشرات من الهيئات واللجان والمكاتب إلى 50%. وما نظام الرئاسة المشتركة اليوم في المنطقة إلا إحدى ثمار ثورة 19 تموز في شمال وشرق سوريا. ومنذ فترة بدأت مرحلة النقاش والتحضير لمسودة عقد اجتماعي خاص بالمرأة، وذلك بمشاركة المرأة في الأحزاب السياسية ومؤسسات المجتمع المدني التي تمثل كافة النساء اللواتي يعشن في شمال وشرق سوريا.

 ثورة 19 تموز التي سميت فيما بعد بثورة المرأة فتحت الباب على مصراعيه أمام المرأة لتغيير المفاهيم الرجعية الخاطئة التي كانت ترى في المرأة العيب وأنها يجب أن تبقى في البيت بزعم أنها لا تفهم من السياسية شيئاً ولا تستطيع العمل خارج منزلها وهي بعيدة كل البعد عن فن الإدارة وقيادة المجتمع، ولكن مشاركتها الفعالة في معارك ضد إرهاب تنظيم داعش الإرهابي في مدينة كوباني، أثبتت كيف أن المرأة الكردية المتمثلة بوحدات حماية المرأة  استطاعت بخبرة خيرة قياداتها تحطيم أسطورة تنظيم داعش الإرهابي الذي أوجس العالم منه خيفة، بفضل أولئك المقاتلات اللاتي قدمن أروحهن كي لا تسقط المدينة في يد أعداء الإنسانية، فلم يتخلين عن معركة الحرية والعيش بكرامة أمثال الرفيقة أرين ميركان وريفان كوباني وهبون ديرك، وليس هذا فحسب فقد شاركن في الحرب على الإرهاب في عدة مناطق أخرى في إقليم شمال وشرق سوريا، وحررن العشرات من القرى والبلدات من قبضة التنظيم الإرهابي إضافة إلى تحريرهن النساء الإيزيديات اللواتي اختطفهن التنظيم الإرهابي إبان هجومه المباغت على قضاء سنجار في العراق والذي قتل فيه الآلاف من أبناء الشعب الإيزيدي. لينلن بذلك شرف الدفاع عن القيّم الإنسانية في كافة أصقاع العالم.

إلى جانب ذلك لاقت ثورة المرأة في شمال وشرق سوريا صدى لا مثيل له في منطقة الشرق الأوسط والعالم، بعد أن سطرت ملاحم بطولية، في التضحية والفداء وفتحت الطريق أمام عدد كبير من النساء من حول العالم للمشاركة في هذه الثورة الفكرية الجديدة وخوض النضال من أجل تحقيق حرية المرأة على كافة الصعد الحياتية، إلا أنها تتعرض اليوم لهجمات ممنهجة من قبل دولة الاحتلال التركي لاستهداف مشروعها الديمقراطي والتنظيم الخاص الذي أسسته بنضالها الفريد من نوعه. لذا على النساء جميعهن والمرأة الكردية على وجه الخصوص تنظيم صفوفهن أكثر من أي وقت مضى للوقوف في وجه هجمات الإبادة السياسية التي تحاول النيل من إرادتها والمكتسبات التي حققتها.

ولكن هيهات لمثلهن التراجع عن المبادئ التي تربين عليها وانطلقن من أجلها، فالكثير من الشهيدات القياديات استشهدن وهن على رأس عملهن نتيجة هجمات الدولة التركية ضد المنطقة أمثال الشهيدة هفرين خلف وجيان تولهدان وليمان شويش ويسرى درويش وزينب ساروخان والكثير من الأسماء الأخرى التي لا يتسنى لي ذكرها الآن جميعاً. وهذا أكبر تحدٍّ ودليل على أن مسيرة المرأة الكردية ستبقى مستمرة طالما أن هناك من يخوض النضال الأيديولوجي القادر على إزالة كافة العراقيل والتحديات التي تواجه مسيرتها النضالية... لذلك فإن ثورة 19 تموز هي ثمرة نسج المرأة الكردية لحياة جديدة مبنية على الأسس الديمقراطية والحياة التشاركية.

النشرة الإخبارية

اشترك في النشرة الإخبارية

ابق على اطلاع على النشرة الإلكترونية

معلوماتك فى امان معنا! إلغاء الاشتراك في أي وقت.