جريمة تغيير «الهندسة الديموغرافية » مازالت مستمرة

- 15 يناير 2024 - 195 قراءة

الاحتلال التركي استمر خلال 2023 في تنفيذ مخططاته الهادفة لإحداث أكبر قدر من التغيير الديموغرافي

 

فصائل "الجيش الوطني" منعت مئات العائلات الكُردية النازحة بسبب العمليات العسكرية التركية من العودة إلى ديارها

 

الجيش التركي استولى على قرية "الداودية" الكُردية وقام بتحويلها إلى قاعدة عسكرية لقواته وحلفائه

 

تقرير أممي يؤكد وجود حالات "ابتزاز جنسي" وإرغام المواطنين الكُرد على دفع ضريبة مقابل البقاء في منازلهم

 

رابطة "تآزر" للضحايا: هناك أنماط "منهجية" من عمليات السلب والنهب والاستيلاء على ممتلكات المدنيين السوريين

 

 

 

واصل الاحتلال التركي، خلال العام 2023، تنفيذ مخططاته الشيطانية الهادفة إلى إحداث أكبر قدر ممكن من التغيير الديموغرافي والتهجير القسري للسكان، في مناطق شمال وشرق سوريا، وهو ما يؤدي إلى تغيير "الهندسة الديموغرافية" لتلك المناطق، ويغير التركيبة السكانية المستقرة من آلاف السنين، ما سيؤدي إلى تقويض السلم الأهلي والتعايش المشترك بين القوميات، الذي تتسم به هذه المنطقة منذ قديم الزمن.

وتعزز سلطات الاحتلال التركي هذه التغييرات الديموغرافية التي تُعد في حد ذاتها "جريمة حرب" طبقًا للقانون الدولي، بشكل مستمر، من خلال استحداث تدابير من شأنها تغيير الخريطة السكانية، ومن ذلك إدخال نظام جديد لبطاقة الهوية الشخصية، تحجب من خلاله بيانات السجل المدني الأصلية المتعلقة بأصول العائلات، ما يجعل من المستحيل التمييز بين السكان الأصليين، والنازحين واللاجئين الذين تم توطينهم في تلك المنطقة. وتشكل هذه التطورات خطرًا على إمكانية عودة السكان الأصليين إلى بيوتهم وقراهم، ويجعل أي تسوية في المنطقة مستقبلًا أمرًا شبه مستحيل.

وذكر تقرير لرابطة "تآزر" للضحايا، صدر مؤخرًا، أنه خلال الغزو العسكري التركي لمناطق في شمال شرق سوريا، تحت مسمى عملية "نبع السلام" في أكتوبر/تشرين الأول 2019 وبعده مباشرةً، قصفت تركيا وفصائل ما يُسمى "الجيش الوطني السوري" المدعومة منها، قصفًا عشوائيًا، المباني المدنية ونهبت بشكل منهجي الممتلكات الخاصة للسكان المحليين، من مختلف المكونات، ولا سيما الكُرد.

ووفق التقرير، منعت فصائل "الجيش الوطني" مئات العائلات الكُردية النازحة بسبب العمليات العسكرية التركية من العودة إلى ديارها.

قبل ذلك، أسفر الهجوم العسكري التركي في عام 2018 على عفرين، والذي أطلقت عليه تركيا اسم عملية "غصن الزيتون"، عن مقتل عشرات المدنيين وتهجير عشرات الآلاف بحسب الأمم المتحدة، ووضعت فصائل "الجيش الوطني" يدها على ممتلكات المدنيين الكُرد في عفرين، ودمرتها، ونهبتها دون تعويض أصحابها، كما أسكنت مقاتلين وعائلاتهم في منازل السكان.

وأدت عمليتا "نبع السلام" و "غصن الزيتون" إلى نزوح ما لا يقل عن 350 ألف من سكان مناطق عفرين ورأس العين/سري كانيه وتل أبيض شمال وشمال شرق سوريا، من بينهم أكثر من 36 ألف شخص يعيشون في ثلاثة مخيمات غير رسمية، تديرها الإدارة الذاتية في منطقة الشهباء شمالي حلب.

ويجري الاستيلاء على منازل وممتلكات المدنيين أو تدميرها أو احتلالها بصورة غير قانونية، ومنع عودة عائلاتٍ كرديةٍ نازحة جرّاء العمليات العسكرية التركية، أو ابتزازها وتهديدها، وهي انتهاكات ارتُكبت على نطاق واسع من قبل القوات التركية وفصائل "الجيش الوطني السوري" المُعارض، في مناطق عفرين ورأس العين/ سري كانيه وتل أبيض.

وكان "المرصد السوري لحقوق الإنسان"، قد اتهم في أحد تقاريره إبان عملية "نبع السلام" القوات التركية والفصائل الموالية لها، في عفرين، بارتكاب انتهاكات جسيمة ضد أبناء المنطقة، في مسعى لإجبارهم على الرحيل من منازلهم وأراضيهم.

 

سلب ونهب علني

 

وثّقت رابطة "تآزر" للضحايا، في تقريرها، أنماطًا متكررة ومنهجية من عمليات السلب النهب والاستيلاء على ممتلكات المدنيين السوريين، خاصّةً تلك التي حدثت خارج إطار العمليات القتالية، مثل سلب الممتلكات العقارية والاستيلاء عليها بدون وجه حق، أو بيعها أو حرقها وتدميرها، وطرد سكانها الأصليين، ودفعهم قسرًا إلى مغادرة المنطقة.

ومنذ دخول القوات التركية و"الجيش الوطني" مناطق عفرين ورأس العين/سري كانيه وتل أبيض، وبعد قيام الأخيرة بنهب الممتلكات المدنية، احتل مقاتلوها وعائلاتهم منازل المدنيين، بعد نزوح سُكانها قسرًا، أو قاموا بعد ذلك بإجبار السكان، ولا سيما الكُرد، على ترك منازلهم، من خلال التهديد والابتزاز والقتل والاختطاف والاعتقال والتعذيب.

ومع قيام قوات "الجيش الوطني" بنهب ممتلكات المدنيين أو الاستيلاء عليها بشكل منهجي، قدّم مدنيون شكاوى إلى المجالس العسكرية التابعة لتلك القوات، أو المجالس المحلية التابعة لـ الحكومة السورية المؤقتة – التابعة للائتلاف الوطني لقوى الثورة والمُعارضة السورية – في مناطق عفرين ورأس العين/سري كانيه وتل أبيض، لكنهم لم يتمكنوا من استعادة ممتلكاتهم، وعلى الرغم من ذلك، قام عناصر "الجيش الوطني" بتهديد الكثيرين منهم أو ابتزازهم أو احتجازهم، بينما اختُطف آخرون وأُجبروا على دفع فدية لقادة في  المليشيات المسلحة لقاء إطلاق سراحهم.

وتعددت صور وأنماط الاستيلاء على ممتلكات المدنيين في عفرين ورأس العين/ سري كانيه وتل أبيض، مثل كتابة أسماء فصائل "الجيش الوطني السوري" أو قادتها على جدران المنازل، كدلالة على مصادرتها لتلك العقارات، أو وضع علامات الحجز عليها، في إشارة واضحة لمنع العودة، ومن ثم شغل تلك الممتلكات، أما بعائلات عناصر "الجيش الوطني" أو عبر استخدامها كمقرات عسكرية أو مؤسّسات إدارية تتبع للمجالس المحلية، لكن دون إخطار أصحابها أو عرض تعويضات عليهم.

وتورطت القوات التركية أيضًا في الاستيلاء على الممتلكات، وتدميرها، ومنع عودة السكان إليها، كما حدث في قرية "الداودية" شرقي رأس العين/سري كانيه، حيث استولى الجيش التركي على القرية الكُردية، وقام بتحويلها إلى قاعدة عسكرية لقواته، بعد جرف عدد كبير من المنازل وتحويل أخرى إلى ثكنات استوطن فيها الجنود الأتراك، في حين تمَّ منع المدنيين الكُرد من العودة إلى القرية، أو حتى دفن جثث موتاهم في مقبرتها.

إلى ذلك، قامت الحكومة التركية باستقدام آلاف العائلات السورية النازحة قسرًا من مناطق سورية أخرى بفعل النزاع، وتوطينها في منازل تمَّ تهجير سكانها الأصليين في عفرين ورأس العين/سري كانيه وتل أبيض، وتمَّ إخلاء الكثير من المنازل من ساكنيها الكُرد، وتوطين عائلات لأفراد من "الجيش الوطني السوري" مكانهم. كما تم توطين 55 عائلة على الأقل، تضم نساء وأطفال مقاتلي تنظيم " داعش" الإرهابي، معظمهم عراقيون، في منازل تمَّ الاستيلاء عليها ضمن رأس العين/سري كانيه.

وأحد الآثار الكارثية لهذه الانتهاكات هو تغيير الهندسة الديموغرافية للمناطق ذات الغالبية الكُردية في سوريا، الذي أصبح يشكل قلقًا متزايدًا لدى سكان تلك المناطق، لا سيما مع إعلان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، مطلع مايو/أيار 2022، عن تحضير حكومته مشروعًا يتيح "العودة الطوعية" لمليون لاجئ سوري تستضيفهم تركيا إلى بلادهم.

وتلا هذا التصريح، قيام الحكومة التركية بإعادة الآلاف من السوريين بشكل قسري إلى الشمال السوري، رغم التحذيرات الدولية باعتبار سوريا غير آمنة.

رغم ذلك، فقد ألغت الحكومة التركية بين عامي 2019 و2021 تصاريح الإقامة لأكثر من 155,000 سوري واحتجزتهم في معسكرات متاخمة للحدود التركية السورية، لتقوم بعدها بترحيلهم قسرًا إلى الأراضي السورية، وفيما تزعم تركيا أنَّ عمليات الترحيل التي تقوم بها "طوعية" بيد أنَّ شهادات السوريين المرحلّين تفيد بخلاف ذلك، وهناك تقارير تؤكد تعرض سوريين في تركيا للاستغلال والابتزاز والتهديد بالاحتجاز طويل الأمد لإجبارهم على التنازل عن تصاريح إقامتهم.

من جهة ثانية، وثق تقرير للجنة التحقيق الدولية المستقلة الخاصة بسوريا التابع للأمم المتحدة، جاء في حوالي 29 صفحة، حالات ممنهجة لسرقة ونهب الممتلكات وتهجير الكُرد من منازلهم، فضلًا عن "احتلال مقاتلي الجيش الوطني السوري وعائلاتهم للمنازل بعد فرار المدنيين، وإجبار السكان وأغلبهم من الكُرد على ترك المنازل من خلال التهديد أو الابتزاز والقتل والاختطاف والتعذيب والاحتجاز".

وذكر التقرير الأممي، أن هناك حالات ابتزاز وعنف جنسي وإرغام المواطنين على دفع ضريبة على المحاصيل الزراعية مقابل البقاء في المنزل.

ووصف التقرير النهب وتدمير الممتلكات، ومنها الممتلكات الثقافية والتراثية والدينية بأنها "جرائم حرب". وكان الاستهداف، بشكل عام، يخص الكُرد، وفقط، مؤكدًا أن الجانب التركي كان على دراية تامة بكل ما يحدث من ممارسات وخروقات

نجم عن ذلك، نزوح أكثر من نصف سكان مدينة عفرين المتسبب في إحداث تغيير ديموغرافي بالمنطقة، وفق تقرير لجنة التحقيق الدولية المستقلة، والذي قال إن "الكُرد يتخوفون من العودة لبيوتهم خشية تطهير عرقي بحقهم، تمارسه أنقرة وحلفاؤها من مقاتلي المعارضة المسلحة".

 

سياسة "الإبادة الناعمة"

 

يقول الباحث السياسي كريم شفيق، إن الأوضاع في شمال غرب سوريا، تحديدًا المناطق الخاضعة لسيطرة ما يعرف بـ "الجيش الوطني" المدعوم من تركيا، تكاد تتجاوز مشهدها الإنساني والحقوقي الصعب، بفعل الممارسات العدوانية بحق الكُرد، وتهجيرهم من منازلهم، وتوطين آخرين بعضهم نازح من مناطق مختلفة، والبعض الآخر من الوافدين الجدد، برعاية القوات التركية.

وهذا النزوح السكاني مع سرقة الموارد، ونهب الممتلكات، تشكل ضغوطات عملية لتحقيق سياسة التغيير الديموغرافي كما تطمح لها أنقرة برؤيتها الراديكالية، وسياسة "العثمانية الجديدة" التي تتبنى مقاربة عنيفة بحق المكون الكُردي، وحقوقه التاريخية والاجتماعية والثقافية والسياسية.

وتتخطى مخاطر الهجمات التركية في المناطق الكُردية بشمال سوريا، حدود وأفق التهجير والتغيير الديموغرافي. وذلك في ظل محاولات محمومة لنشر ثقافة اجتماعية ودينية مغايرة للأنماط التقليدية للبيئة التي تبدو متنوعة في الظاهر، بينما تتوخى فرض القيم والممارسات المتشددة قسرًا من خلال العنف الرمزي والإبادة الناعمة. وذلك جنبًا إلى جنب مع السلاح الذي يفتك بالأجساد.

ومن بين تلك المخاطر، هي الاعتماد على مكونات من خارج الحيز الاجتماعي، وتوطينها بالمناطق التي تخضع لنفوذ القوات التركية بشمال سوريا، بهدف شلّ أي حراك أو مقاومة.

ومن خلال هذه المكونات، تضحى مهمتها تعطيل ومحو الذاكرة الثقافية والتاريخية للمكان، وإلغاء هويته. ومن ثم تتولد تلقائيًا ذاكرة جديدة بأجساد مشوهة ومنبوذة، تسعى إلى مقاومة الوجود الاجتماعي التاريخي الذي يرفض بقاءها ويطالب بعزلها.

ويضيف الباحث، أن الأغراض التركية لن تتحقق سوى بتغيير ديموغرافي في المنطقة الكُردية، الأمر الذي لن يتم سوى بالاستعانة بقوى همجية وأصولية تتولى إدارة السياسة تدميرية مثل "داعش" وغيرهم من القوى المتشددة قوميًا ودينيًا. وهو ما يسهل عملية إعادة هندسة المنطقة اجتماعيًا بالشكل المطلوب في ذهنية أردوغان العدائية للكُرد.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصادر:

  1. التغيير الديمغرافي بشمال سوريا.. أردوغان والاشتهاء التاريخي للعنف ضد الأكراد، موقع الحل، 31 ديسمبر/كانون الأول 2023.
  2. تركيا تدير التدمير والتغيير الديمغرافي في شمال سوريا… تقرير جديد، موقع مركز سيسفاير لحقوق المدنيين، 28 نوفمبر/تشرين الثاني 2023.
  3. أين بيتي: انتهاكات حقوق الملكية في شمال سوريا تُكرّس التغيير الديمغرافي، موقع رابطة تآزر للضحايا، 12  ديسمبر/كانون الأول 2023.

 

النشرة الإخبارية

اشترك في النشرة الإخبارية

ابق على اطلاع على النشرة الإلكترونية

معلوماتك فى امان معنا! إلغاء الاشتراك في أي وقت.