في أغسطس/آب 2019، نشر المرشد علي خامنئي مذكراته باللغة العربية، في كتاب كبير بعنوان "إن مع الصبر نصرًا"، روى فيه قصة الأربعين عامًا الأولى من حياته، منذ ولادته وحتى قيام ثورة 1979 في إيران، وكشف فيه بالوقائع والأحداث عن رحلة تحوّله من مثقف إلى طاغية!
والكتاب، الواقع في نحو 400 صفحة، هو مجموعة من الحوارات تم تسجيلها أثناء جلسات أسبوعية كان يقيمها المرشد قبل عقدين من الزمن، وتناول فيها مواضيع مختلفة باللغة العربية، وكان يعود خلالها في بعض جلساته إلى مشاهد من فترة ذكريات أيام الشاه، وعلاقته مع الخميني "قائد الثورة"، ووقائع أخرى.
ويمكن وصف مذكرات خامنئي عمومًا بأنها "كتاب تبشيري" بامتياز، حيث كُتبت المذكرات بلغة عربية سليمة أملاه بها المرشد، وهذّبه محمد علي آذرشب، بهدف اختراق الوجدان العربي، ولتجاوز هالة الغرابة التي تحيط بالمرجعيّة الشيعية الإيرانية لدى الأمة العربية بشكل عام.
وتجلى ذلك في اختيار عنوان الكتاب "إن مع الصبر نصرًا"، الذي حمل رسالة مفادها أن الصبر يثمر النصر والقدرة على التأثير، وقد تم اختيار عنوان الكتاب على وزن الآية الكريمة "إنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا"، لكي يكون أكثر دلالة على هدف الراوي الذي يسعى إلى اختراق العقول العربية.
أكاذيب ومتناقضات
يقول خامنئي في مقدمة الكتاب: "صحيح أن هذه المذكرات إنما ألقيتها باللغة العربية ـ وهي اللغة التي أحبها من صميم قلبي ـ إلا أن لهجتي التي أمليت بها تلك القصة الطويلة، لم تكن لهجة العربي الذي يتكلم لغته التي تعلم بها منذ نعومة أظفاره، بل كانت لهجة الأعجمي الذي لا يحسن التكلم بالعربية، فهو حين يتكلم يكون دائمًا على وشك الغلط في البيان، أو الركاكة في التعبير، أو الضعف في التأليف، أو استعمال كلمة دارسة لا يستعملها الناطقون باللغة العربية في هذا العصر، أو عدم تذكر الكلمة المحتاج إليها في بيان المراد، أو حتى عدم العلم بها.. فهو يتكلم بتلكؤ وعلى حذر من الانزلاق، كمن يمشي على طريق صعب غير معتاد عليه".
وفي موضع من المذكرات، يقول خامنئي: "يعتريني شعور خاص حين أستمع إلى اللغة العربية، وأهتز من الأعماق لسماع هذه اللغة. كنت دائمًا أحب لو عشت شطرًا من أيام طفولتي في منطقة عربية، سواء في إيران أو غيرها، لكثرة حبّي لتعلّم العربية. والواقع أن الإيرانيين عامة والمتدينين بشكل خاص، يحبّون اللغة العربية بدرجة وأخرى".
إن المرشد الذي "يهتز من الأعماق لسماع اللغة العربية"، هو نفسه الذي يجرّم تحدّث أهل الأحواز العرب بلغتهم الأصلية، والذي عمد زبانيته إلى محو الأسماء والهوية العربية للإقليم المحتل!
ولم يتوقف المرشد طيلة كتابه عن العزف على وتر "التقارب الثقافي" بين العرب والفرس؛ فأمه التي تتحدر من مدينة النجف العراقية "أرضعته" بعض العربية مع حليبها، فنشأ مولعًا بالعربية وآدابها، وهذا شيء مشهور عنه، فقد ذكر بندر بن سلطان الدبلوماسي السعودي في مقابلة صحفية أنه التقى مرتين بخامنئي، كان في الأولى يتوسط بينهما مترجم، وكان خامنئي يصوّب للمترجم بعض الأخطاء التي يقع فيها، حتى طلب منه "بندر" أن يتحدثا مباشرةً بدون ترجمان، لإتقان خامنئي العربية.
ويكرر المرشد عزفه على وتر ما يسميه "التقارب الثقافي" بين العرب والفرس، ومركزية القضية الفلسطينية، ووحدة الأمة، وكلامه عن الاستبداد والتحرر، فجاء الكتاب مليئًا بالأكاذيب والمتناقضات في هذا الصدد، من دون أي إشارة ما ترتكبه الميليشيات التابعة للمرشد من جرائم في 4 دول عربية، هي العراق وسوريا ولبنان واليمن!
أيام الطفولة البائسة
يقول المرشد في مذكراته إنه ولد في أسرة فقيرة بمدينة "مشهد" في شمال شرقي إيران عام 1939. وكان والده عالم دين متواضعًا، وهو الثاني من بين ثمانية أطفال عانوا من الفاقة أشد المعاناة.
ويحكي خامنئي عن طفولته البائسة فيقول: "كنتُ أتمنى أن أمتلك ذات يوم حذاء له رباط، ولكن حتى شبابي لم ألبس هكذا حذاء، ولم تتحقق هذه الأمنية في طفولتي أبدًا. وأذكر في صغري بعض الليالي التي كانت تمرّ دون وجود طعام العشاء، فأمي كانت تأخذ المال القليل الذي تعطينا إياه جدتي عندما نزورها لتشتري به زبيبًا أو حليبًا لنأكله مع الخبز".
ويقول المرشد إنه خلال فترة دراسته في حوزة "قم"، اتجه إلى ترجمة بعض الكتب العربية، مثل كتاب "دمعة وابتسامة" للشاعر اللبناني المهجري جبران خليل جبران، ليكون أول أعماله في الترجمة، ثم ترجم كتاب "المستقبل لهذا الدين"، و"الإسلام ومشكلات الحضارة" للكاتب الراحل سيد قطب، فضلًا عن قراءته للأدب العربي الأصيل، وتأثره بالشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري، بالإضافة إلى اهتمامه بمتابعة الإذاعات العربية مثل إذاعة "صوت العرب"، و"صوت فلسطين" من القاهرة.
ويوضح الكتاب أن خامنئي بدأ في انتهاج سياسة المعارضة لنظام الشاه الحاكم باعتباره "معاديًا للدين"، مع إدانته لقرار تقليل مدة إغلاق دور السينما احترامًا لذكرى عاشوراء، والمشاركة في تحريض علماء الحوزة على الثورة ضد الشاه.
ويحكي أنه بعد انتقاله من قم إلى مشهد، تبنى سياسة فكرية أكثر نشاطًا من خلال التنسيق والتواصل مع العناصر الحركية، وشخصيات المعارضة في مشهد، بجانب جلسات الدعوة والتدريس، وإمامة المساجد، وإنشاء مؤسسة لنشر وتوزيع الكتب ذات الخلفية الدينية والطابع الحركي.
ويصف الكتاب جوانب من حياة خامنئي، وخاصة الجانب المتعلق بفترة اعتقاله ونفيه، وذلك بأسلوب "المظلومية" لجذب الانتباه والتعاطف مع مسيرته في "الجهاد" ضد النظام الحاكم، متخذًا عدة مؤشرات تجلت في اعتقاله خمس مرات، بالإضافة إلى مرة تم اعتقاله فيها ثم نفيه، واستعرض الكتاب استدعاءه من قبل "السافاك" خلال الفترة ما بين مرحلة النهضة في عام 1962 حتى قيام الثورة، مؤكدًا أن سجون الشاه كانت للانتقام من الأفراد لتعجيزهم نفسيًا، وهو ما تعرض له إبان اعتقاله، الأمر الذي انعكس عليه بشكل عميق.
ويروي الكتاب كيف التقى خامنئي في سجون الشاه بعدد من السجناء العرب من أبناء منطقة الأحواز، وكيف ظنوا أنه عربي بسبب إتقانه اللغة العربية، ولما علموا أنه إيراني ابتعدوا عنه، إلى أن علم أنهم من تنظيم كان يسمّى "جبهة التحرير العربية". كان وراءه في البداية الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، ثم تبنّاه البعثيون العراقيون، واستخدموه لمجابهة الثورة الإسلامية".
التلميذ والأستاذ
يُبرز الكتاب تفاصيل العلاقة الوثيقة بين خامنئي وأستاذه الخميني، التي بدأت بمشاركة خامنئي في دروس أصول الفقه للخميني، فضلًا عن كونه كان صديقًا لوالده، حتى أصبح هو الكادر المتحرك تحت قيادة الخميني، منذ كان الأخير مقيمًا في قم أوائل الستينات من القرن الماضي.
ويعترف المرشد بأن الخميني لم تكن تظهر عليه أي بوادر ثورية قبل 1962، حين أعلن عن استنكاره لقرارات حكومية صدرت وقتها واعتبرها الخميني مخالفة للشريعة الإسلامية، ومنها "تبديل القسَم بالقرآن إلى القسم بالكتب السماوية جميعًا، وقرارات أخرى من أمثالها كانت تستهدف إضعاف شوكة الإسلام في إيران".
ــــــــــــــــــــــ
المصدر:
ابق على اطلاع على النشرة الإلكترونية