في مثل هذه الأيام من أواخر عام 2007، وقع حادث غامض بات فيما بعد، وحتى 16 عامًا مضت، بمثابة أكبر "لغز" في تاريخ البرنامج النووي الإيراني، وهو وقوع انفجار ضخم في منشأة "نطنز" النووية أسفر عن تدمير أجهزة الطرد المركزية، ومصرع عدد من العلماء والفنيين الإيرانيين.
وكشف تحقيق استقصائي نشرته صحيفة هولندية مؤخرًا، عن هوية العميل الذي أدخل الفيروس المسمى "ستكسنت" إلى موقع تخصيب اليورانيوم الرئيسي في "نطنز" وسط إيران، ليعود اسم المهندس الهولندي إريك فان سابين، مجددًا إلى الواجهة بعد كل تلك السنوات، لينكشف لغز ذلك الهجوم الخفي الذي حيّر العلماء طوال السنوات الماضية.
ومنذ عدة سنوات، كشف فيلم وثائقي بعنوان "الأيام صفر"، النقاب عن هوية العميل الذي اخترق منشأة "نطنز" النووية في قلب إيران، وكيف نفذ "الموساد" والمخابرات الأمريكية العملية بمعرفة مهندس كان يعمل بفرع شركة "سيمنز" الألمانية في هولندا.
حدث هذا الهجوم الأول من نوعه في العالم، عن طريق وضع فيروس أُطلق عليه "ستكسنت"، وهي دودة إلكترونية شديدة الإتقان والتعقيد لم يسبق لها مثيل، ولم تستخدم من قبل في أى هجمات إلكترونية على مستوى العالم.
واستخدمت هذه الدودة الإلكترونية بالفعل، والتي تم تطويرها على مدار عقد كامل، فى مهاجمة محطة "نطنز" النووية الإيرانية، وبالتحديد أجهزة الطرد المركزى الخاصة بها وأنابيب الغاز، وذلك فى يونيو/حزيران عام 2010.
"الدودة الإلكترونية" المصممة من جانب عدة أجهزة استخباراتية بأمريكا و(إسرائيل)، كانت تنسخ نفسها وتتكاثر بحيث تعمل على استهداف وتدمير أهدافها داخليًا، وذلك دون أن يستطيع أحد الشعور بوجودها، أو يفلح فى تتبع خط سيرها أو المسارات التى سلكتها عبر أجهزة الكمبيوتر الخاصة بالمحطة النووية.
وكانت تلك الدودة مجرد جزء من مشروع كبير يهدف لشل البنية التحتية لدولة إيران بالكامل. وقد نجحت تلك الدودة بالفعل فى مهمتها، وأخرجت الأجهزة عن نطاق السيطرة وأحدثت تفجيرات. وكان ذلك بالطبع من أجل إيقاف أو إعاقة البرنامج النووى الطموح لإيران آنذاك، وردًا على تهديدات أحمدى نجاد الكلامية بـ "إبادة إسرائيل"!
فى ذلك الوقت، لم تعلن السلطات الإيرانية عن أي عمل تخريبي متعمد وراء الحادث، في حين لم يصرح العلماء وغيرهم من الفنيين بأي رأي قاطع فيما يتعلق بأي حادث متعمد وراء ما وقع بالمفاعل.
في حين يشير الفيلم إلى أنه تم إعدام عالمين من رواد البرنامج النووي الإيراني، ظلمًا بتهمة "الخيانة العظمى" والمثير في الأمر بالفعل، أن أحدًا لم يدر بخلده مطلقًا أنه استهداف أو عدوان خارجي أو أنه حادث مدبر، والمثير أكثر أنه لسبب تكنولوجي مجهول، يرجح الفيلم أن الإسرائيليين خلفه نتيجة عبثهم بشفرة تلك الدودة، انتشرت أو تفرعت من تلقاء ذاتها وشقت طريقها لعدد لا يحصى من أجهزة الكمبيوتر عبر العالم. وأنها موجودة كامنة بتلك الأجهزة، ولن تنشط إلا تحت ظروف بعينها، ووفقًا لمتطلبات محددة، وأن لها تاريخًا تنتهي فيه صلاحيتها وقدرتها على الإتلاف أو التدمير.
وهناك تفاصيل مثيرة وغريبة عن كيفية وصول المخابرات الأمريكية وجهاز "الموساد" الإسرائيلي إلى المنشأة الشديدة التحصين، بعدما نجح المهندس الهولندي بعد سنوات على ما يبدو من التحضيرات والتعاون مع الموساد والسي آي إي، في إدخال معدات ملوثة بالفيروس إلى شريان الحياة في نطنز، وتركيبها على مضخات مياه.
وحسب التحقيق الذي نشرته صحيفة "دي فولكس كرانت"، فإن المهندس الهولندي إريك فان سابين، عميل جهاز المخابرات والأمن العام الهولندي هو من نجح في الوصول إلى منشأة نطنز، لتنفيذ العملية التي سبقتها سنوات من الإعداد والتعاون بين وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، والموساد الإسرائيلي وتكلفة قدرها مليار دولار لتطوير الفيروس.
وعن دوافع الكشف عن هوية المنفذ، ذكرت الصحيفة أن وفاة المهندس "أزالت خطر الانتقام الإيراني منه"، مشيرة إلى موافقة عائلته، على ذكر اسمه ونشر صورته على الملأ.
وذكر التحقيق أن المهندس قام بمهمة محفوفة بالمخاطر للغاية في إيران، عبر تسلله إلى منشأة نطنز، حيث ركّب أجهزة ومعدات "مفيرسة"، وأدى ذلك إلى تعطيل ألف جهاز مركزي في منشأة "نطنز".
وكان المهندس الهولندي المتزوج من إيرانية، يعمل في شركة نقل في دبي، وسافر مرات عدة إلى إيران، وقالت شركة النقل "تي تي إس إنترناشيونال" إنها أرسلت قطع غيار لصناعة النفط والغاز في إيران سابقًا، لكنها لم تكن على علم بالأنشطة السرية لموظفها، العميل الهولندي.
بعد مرور 13 عامًا على العملية، لم يفصح جهاز المخابرات العامة الهولندي عن أي تفاصيل للعملية، وجاء في رده على أسئلة صحيفة "دي فولكس كرانت" والتي أرفقت بجميع نتائج التحقيق: "نحن لا نصدر أبدًا بيانات حول الأمور التي يمكن أن تكشف شيئًا ما عن أساليب عملنا". كما لم ترد وكالة المخابرات المركزية على الأسئلة المتعلقة بمضخات المياه وعدم إبلاغ نظرائهم الهولنديين بالخطة كاملة.
وزعم التحقيق أن المسؤولين السياسيين الهولنديين لم يعلموا بأي شيء إطلاقًا، عن دور جهاز المخابرات في تخريب البرنامج النووي الإيراني، ومنهم رئيس الوزراء آنذاك جان بيتر بالكينينده الذي رد على الصحيفة بقوله "أنا دائمًا متردد في النظر إلى الوراء عندما كنت رئيسًا للوزراء، بالإضافة إلى ذلك، يجب أن أحافظ على السرية بشأن هذا الأمر، ليس فقط خلال فترة رئاسة الوزراء، ولكن أيضًا بعد ذلك".
وعندما تم إطلاق فيروس "ستاكسنت" ضد البرنامج النووي الإيراني عام 2010، لم تكن هناك اتفاقيات أو قواعد دولية لاستخدام الفيروسات التخريبية، ولم تضع الأمم المتحدة معايير (غير ملزمة قانونيًا) لقواعد العمل في المجال الرقمي إلا في عام 2015، ووفقًا للأمم المتحدة، فإن مهاجمة البنية التحتية الحيوية غير مسموح بها.
واتهمت إيران (إسرائيل) أكثر من مرة بتخريب أجهزة الطرد المركزي في منشأة نطنز، آخرها في أبريل/نيسان 2021، حين أعلنت أن المنشأة النووية قد تعرضت إلى "عمل إرهابي نووي"، كما اتهمتها أيضًا بتنفيذ تفجيرات وعمليات اغتيال لعلماء في المجال النووي.
وفي عام 2019، خلص تحقيق داخلي لجهاز المخابرات العامة الهولندي حول الموضوع إلى أن "سلسلة الأدلة غير مكتملة"، ولا يظهر في أرشيف الجهاز أن العميل فان سابين هو الذي زرع فيروس "ستكسنت" في محطة نطنز، أو أن المعدات التي أحضرها إلى نطنز كانت تحتوي على الفيروس المدمر.
في المقابل، ذكرت صحيفة "نيويورك تايمز" في يونيو/حزيران 2012 أن القوة الدافعة لهذا المشروع، تعود إلى 2006 عندما كان الرئيس الأمريكي الأسبق جورج دبليو بوش، يبحث بالتعاون مع (إسرائيل) عن خيارات أخرى غير سياسية، لـ "إبطاء" طموحات إيران النووية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر:
1- تفاصيل مثيرة.. لغز أكبر ضربة لنووي إيران يكشف بعد أكثر من 16 عاما!، موقع جسور، 7 ديسمبر/كانون الأول 2023.
2- "الأيام صفر".. تدمير إيران بفيروس إلكترونى، موقع الشروق، 14 يوليو/تموز 2016.
ابق على اطلاع على النشرة الإلكترونية