توثيقًا مختلفًا عمّا هو سائد في باب التوثيقات المعتادة، يمضي كتاب: "صفحات من ثورة الشعب في روج آفا" للسياسي: آلدار خليل، والصادر عن دار نفرتيتي للنشر والدراسات والترجمة، نحو تأريخٍ لصفحات نضالية شملت كل مرافق التفكير والحياة في روج آفا، دون كللٍ أو تعب لدى الشعب أو لدى الحركة السياسيَّة والعسكرية والاجتماعيَّة برمّتها وعلى حدٍّ سواء، ذاك التوثيق الذي يأتي بمثابة عنصر فاعل في تدوين تاريخ الشعوب.
بدءًا من السرد التاريخي لروج آفا نحو الثورة، ثورتها الخاصَّة بها والمختلفة مطلقًا، وليس انتهاءً بالسرد التاريخي لما قبل الثورة انطلاقًا إلى الإعداد والتنظيم وتشكيل الأحزاب والضغط الكُردي الذي حصل بفعل الحركة السياسيَّة الكردية التي نشطت وعرفت أن لا حراكَ حقيقي دون الالتزام بالفكرة المحوريّة، التي هي الثورة قبل وبعد كلّ أمرٍ، يبدو الكتاب نقيًّا وخاليًا من أي تزويرٍ حصل فيما مضى بالنسبة للكتابات التأريخية السياسيَّة.
سوريا، تلك الرقعة الجغرافيَّة التي تختلف عن أي رقعةٍ جغرافية أخرى في الشرق الأوسط، حيثُ الصراع الدائر، والذي وجّه دفّة الأزمة السوريَّة نحو حلولٍ مجترحة، يشرحها آلدار خليل بين دفتّي الكتاب/الوثيقة، هذا الفلاش باك –العودة للخلف- المكثّفة داخل الكتاب يمنح انطباعَ رغبةٍ ملحَّة على أن يكون توجّه التأريخِ تدوينًا هكذا وبهذه الطريقة: الانتقالُ من الماضي –مقارنةً مع الحاضر- إلى الحاضر، ومن ثمّ الوثب من الحاضر نحو المستقبل، حتّى ولو كان هذا المستقبل تخييلًا، غير أنّ الرؤية السياسيَّة الواضحة ستمنح البعد الحقيقي لهذا التخيّل السابق.
أهميَّة الكتاب تكمن في الدقّة التوصيفيَّة/التأريخيّة، ومن ثم النقطة الأشد أهميَّة، والتي هي أن آلدار خليل كان جزءًا من كل هذه التوثيقات وعايشها بنفسه.
يحظى التدوين بين الشعوب بأهميَّة تأريخيَّة، ناهيك عن القيمة الفنيَّة والتي تبقى خالدة عبر الأزمان، وما كتبه الفلاسفة والناشطون السياسيَّون المؤثّرون فعلًا على الرأي العام العالمي والمجتمع المحلّي، وخاصةً تلك المجتمعات التي تخوض حروبًا مصيريَّة، إلا الدليل الأقوى والدامغ على أنّ التدوين يبقى لفتراتٍ أطول من باقي أشكال التوثيق والأرشفة مهما كانت أجناسها وأشكالها المختلفة.
تكمن أهمية الكتاب في تدوين ما جرى خلال فترات حساسَّة في التاريخ السوري كدولة، والتاريخ الكردي كمكوّن كان مقموعًا على فترات زمنيَّة طويلة، ليساهم ذاك القمع في تأطير التجربة الكردية بشكلٍ أشدّ في مواجهة القمع وتأمين قوى تواجه هذا القمع بالمزيد من الديمقراطيَّة وإفساح المجال أمام كل المكوّنات للمشاركة أو –إبداء المشاركة حتّى- في صياغة وطن غير مبنيّ على أساس قومويّ-عرقي، بل على أساس ديمقراطي فقط، من خلال التجربة والممارسة العمليَّة للأسس الديمقراطيَّة، من خلال ما كتبه القائد الكردي عبد الله أوج آلان في كل مؤلّفاته السابقة، هذه المرجعيَّة التي تُزيد من الإصرار على الرغبة في التدوين، ليظلّ هذا التدوين كنقشٍ على حجرٍ لا يذهب بفعل تغيّرات المناخ ولا يمكن لأحدٍ أن يسجن تلك الأفكار المدوّنة أو أن يُخرجها عن سياقها وإطارها، كل شيء موجود بين دفّتي مجموعة أوراق مصفوفة تدعى، كتاب، وما لهذه المفردة الآنفة الذكر من دلالات تاريخيَّة عميقة
ينطلق آلدار في الفصل الأول من الكتاب/الوثيقة من العناصر والأرضيَّة الممهّدة، أو الأحرى، تلك التي مهّدت لترسيخ فكرة ومبدأ إخوّة الشعوب، حيث الصراعات السياسيَّة التي كوّنتها المعارضةُ السورية في الخارج، ومن ثمّ التركيز على ضرورة بناء أرضيَّةٍ توحّدية مشتركة: "الظروف والوقائع وتركيبة العلاقات والتطوّر الاقتصادي والاجتماعي وأنظمة الإقصاء والقمع وطبيعة وصيرورة الحياة السياسيَّة تفرض نموذجًا واضحًا وصادقًا ينجح في الحفاظ على الجميع، ونسج شبكة علاقات تعايشية على أسس فكرية متينة ومقبولة من الجميع وبين الجميع، وهنا كانت نظرية الأمَّة الديمقراطيَّة وأخوَّة الشعوب التي وجد الجميع فيها مرآةً لهويَّته وقبولًا واضحًا لتطلّعاته الحياتيّة وحقوقه الإنسانيَّة". بهذا التوضيح المكثّف لفكرة الأمّة الديمقراطية ومبدأ أخوّة الشعوب، ينطلق الكتاب نحو مسائل أعمق تتعلّق بالشقاقات السياسيَّة التي عصفت بالدولة السوريَّة إبّان فشل الحكومة الاتحاديَّة التي أعلنت عن الانفصال بين "سوريا ومصر" 28 سبتمبر/أيلول 1961 وبدء تشكّل الكيانات السياسيَّة الكرديَّة، ورسم أطر سياسيَّة لكل كيان سياسي، مستقلّ بحدّ ذاته، وإعطاء فكرة عن المناطق أو الدول التي يتواجد فيها الكُرد، ومن ثمّ الانطلاق من فكرة الشعب الواحد إلى الكيانات السياسيَّة المتصارعة والمنقسمة على ذاتها، ما أثّر على قوّة الكرد ككيان ونسيج مجتمعي- سياسي قويّ لا يمكن الاستهانة به، وفي معرض هذا الأمر، لا يخفي الكاتب أسفه الدفين والواضح عبر المفردات على هذا الانقسام الذي كان يحصل: "لستُ هنا في معرض اتهام أو تصويب موقف هذا الطرف أو ذاك، إنما فقط أودّ التأكيد على أن حجم الانقسامات، أمر لم يكن من الممكن تبريره قط على أنَّه انشقاقات ذات خلفيَّة طبقية أو إيديولوجيَّة أو مبدئيَّة، وإذا كان هذا العدد الكبير من الأحزاب قد سبَّب في مرحلة ما انتعاشًا كبيرًا للحركة السياسية خصوصًا في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات، فإنه خلق بالمقابل حالة من انعدام الثقة بالأحزاب السياسية التي وجد الشعب في قسمٍ منها على الأقل، بأنَّها كانت نتاج صراعاتٍ شخصيَّة أو عائليَّة".
يبدأ الكتاب نحو "أدب اليوميَّات"، حيث الحديث عن التجربة الشخصيَّة للمدوّن في الانضمام للحركة الثورية الكردية عقب إعلان الكفاح المسلّح الكردي، هذا الكفاح الذي ضحّى من خلاله مجموعة من الشبّان الثوريّ بحياتهم وشبابهم كرمًا للثورة وتحقيقها على أكمل وجه، لا يخفى على أحد، كنوعٍ من انحياز لأدب اليوميات، الذي لاقى صداه منذ أن دوّن الثائر آرنستو تشي غيفارا في دفتر يومياته المعنون بــ (يوميات بوليفيا)، وكذلك المفكر المدني أنطونيو غرامشي بعنوان: (دفاتر السجن)، هذا السرد اللذيذ يتوقف في الفصل الثاني، ليدخل الكتاب لمرحلةٍ سرديّة جديدة، وعنونها المؤلّف بــ"الإعداد والتنظيم" حيث الحديث عن بدء تأسيس (حزب الاتحاد الديمقراطي) وما سبق الإعلان من تحضيرات ومناقشات واختيار مكان بعيد عن سطوة وقمع النظام السوري آنذاك بهدف البدء بالترتيب السياسي، والاجتماعات التحضيريَّة للتأسيس والإعلان.
محاولات النيل من الكرد سياسيًّا بدأت منذ اندلاع، الحراك الشعبي في عموم سوريا نتيجة آليَّة القمع التي كان يتّبعها النظام على مدار سنوات طويلة، واستمرّت حتّى هذه اللحظة، لكن السياسة الكرديَّة عقب المظاهرات الاحتجاجيَّة التي عمّت مختلف المناطق السوريَّة، دفع بالكرد إلى رسم خطط بديلة من خلال تقوية الذات، ويبدأ المؤلّف بسرد هذه الصيرورة باختيار شعار ثوري اتخّذه السوريون في كل المناطق، وأعني هنا شعار: "الشعب السوري ما بينذلّ"، الذي لاقى صداه في حناجر السوريين أجمعين: "لكننا طرحنا فكرة أننا لا نريد خوض أي صراع على السلطة كما حدث في البلدان العربية الأخرى، وإنما نسعى إلى بناء مجتمع ديمقراطي حرّ، ونريد أن يكون ذلك نموذجًا جديدًا للحلّ في الشرق الأوسط برمَّته، لأننا نؤمن بأنّ الثورة لا تكمن في السيطرة على الحكم وإعادة إنتاج القديم، وكان طرحنا غير مستساغٍ بالنسبة للكثيرين، وكانوا يقولون لنا: إنّ النظام سيسقط وأنتم تقولون نريد بناء مجتمع ديمقراطي، ولا نريد السيطرة على الحكم!". من هذا المقطع الذي يسرده المؤلف وصولًا إلى المرحلة السوريَّة في راهننا الحالي، يكمن الفرق في ما أسبقه المؤلّف بكلمة: "قالوا لنا" وبين ما نفّذه الكُرد سياسيًّا وعسكريًّا على أرض الواقع، حيث الحقيقة تجلّت وتوضّحت، ومن ثم وصولًا إلى البيان الصادر عن مجلس "حزب الاتحاد الديمقراطي" بتاريخ 30 مارس/آذار عام 2011م، الأخير الذي أسماه المؤلّف، "إخراج سوريا من عنق الزجاجة" وإيصال المجتمع السوري مشمولًا بالمجتمع الكردي في سوريا إلى: "بر الأمان والاستقرار"، من خلال مجموعة مطالب ركّزت على إطلاق سراح المعتقلين والسجناء السياسيَّين وإلغاء الأحكام العرفيَّة وإبطال مفعول أجهزة المخابرات التي سيطرت على كل مرافق الحياة المدنيَّة ضمن كامل بدن المجتمع السوري، ناهيكم عن مطالب أخرى أكثر دقَّة تشمل إدخال سوريا إلى مرحلة "الدمقرطة"، مطالب كانت تعتبر في الصميم.
بالإمكان التقاط فقرات بعينها داخل المؤلَّف، والاستدلال عبرها على البصيرة السياسيَّة والتنبؤ من خلال الفعل السياسي الحقيقي، وبالإمكان الاستدلال على هذا المقطع –والكتاب يتوافر على عشرات من مثل هذه النماذج-: "لم تكن هناك أية معارضة سوريَّة حقيقية، مهما ادَّعت بعض المجموعات إنها معارضة وذات توجّه ديمقراطي خالص لوجه الوطن، ولهذا انتهت إمكانيات البحث عن شريك سوري فعلي للتعاون معًا في التصدي لممارسات النظام وسياساته، فالتنظيمات المتواجدة لا تمتلك رؤى مختلفة كثيرًا عن رؤى النظام فيما يخصُّ القضية الكرديَّة".
لا يخفي الكاتب، كمية الضخّ الإعلامي المعارض لحقائق القضيَّة الكرديَّة، ورؤية حزب الاتحاد الديمقراطي للحلّ السوريّ، ومن ثم الانزياح إلى رسم ما هو مخالف للحقيقة الفعليَّة والتي لا تحتاج إلى إثباتات فهي جليَّة للجميع، ومن ثمّ الانتقال إلى مرحلة الثورة من خلال الثقافة والفنّ، العنصرين الأساسيَّين في ثورة أي شعب.
مع تقدّم القراء في قراءة سرديَّات كتاب: "صفحات من ثورة الشعب في روج آفا" لكاتبه "آلدار خليل"، سيكشف كمّ التجميع الهائل والجهد في توثيق البيانات الصادرة والمفاوضات مع الأحزاب الأخرى التي نظرت على نفسها أنّها فاعلة، أو كانت فاعلة في وقتٍ مضى، ومن ثم لقت نفسها وحيدةً دون سند، فيما يمضي مشروع أو حلّ "الإدارة الذاتيَّة" متحوّلًا من رسمٍ على ورق إلى حقيقةٍ يشهدها الكرد في مناطق روج آفا، هذا التوثيق الذي يُدوّن لأجل أن يلقى قارئ آخر غير كرديّ على كل ما سيهمّه فعلًا في تكوين فكرة حقيقيَّة مدعومة بالأدلّة والتوثيقات عن ثورة الشعب التي اندلعت في عموم روج آفا ولا تزال مستمرّة، على الرغم من محاولات البعض في إخفاء ملامح هذه الثورة وطمسها من خلال العدوان أو الأطماع في السيطرة وكتم صوت هذا الشعب، وعلى رأس القائمة الدولة التركيَّة التي تحاول في هذه الأثناء محو تراث حضاري كردي كامل ونسفه من خلال الصواريخ والوحشيَّة المتّبعة في عفرين.
على مدى 331 صفحة من القطع المتوسّط يمضي الكتاب في التوثيق تدوينًا واستشهادًا بأحداث دوّنت كوثائق ورقيَّة نُشرت في معظم وسائل الإعلام الكردية والسوريَّة، بدايةً من التأسيس، وصولًا إلى يومنا هذا، كمحاولة ربمّا لفتح الباب أمام الكتابة المسهبة حول تاريخ ثورة الشعب في روج آفا.
ـــــــــــــــــــــ
معلومات الكتاب
الكتاب: صفحات من ثورة الشعب في روج آفا
المؤلّف: آلدار خليل
دار النشر: نفرتيتي
السنة: 2021
عدد الصفحات: 280 - قطع كبير
(مركز الفرات للدراسات)
ابق على اطلاع على النشرة الإلكترونية