«طريق السبايا».. بين الواقع التاريخي والتوظيف السياسي والطائفي (2)

- 29 نوفمبر 2021 - 532 قراءة

<< هل حصل سبي للركب الحسيني كما تذكر كتب الشيعة الإثنى عشرية؟

<< لم يعيَّن الطريقُ الذي سلكه الركب الحسيني من الكوفة إلى الشام في كتب التاريخ والسيرة عند الشيعة فضلاً عن غيرهم

 

 

«طريق السبايا»

هو الطريق الذي سلكه مبعوثو ابن زياد من الكوفة إلى الشام ومعهم من بقي من آل بيت علي وعقيل من النساء والأطفال رضي الله عن الجميع.

والتسمية «طريق السبايا» تسمية شيعية خبيثة لتشويه الأمة ولعنها وتحميلها مقتل الحسين رضي الله عنه وهم يعلمون من الذي دعاه لمبايعته ثم غدر به وسلمه إلى ابن زياد وزمرته.

السبي:

لغة: الأسر، يقال سبى العدو وغيره سبيًا وسباء: إذا أسره فهو سبي على وزن فعيل للذكر والأنثى سبي وسبية ومسبية والنسوة سبايا وللغلام سبي ومسبي.(1)

جاء في (الموسوعة الفقهية): السبي والسباء لغة: الأسر، يقال: سبى العدو وغيره سبيًا وسباء: إذا أسره، فهو سَبيّ على وزن فعيل للذكر. والأنثى سبي وسبية، ومسبية، والنسوة سبايا، وللغلام سبي ومسبي.

 أما إصطلاحًا: فالفقهاء في الغالب يخصون السبي بالنساء والأطفال، والأسر بالرجال. اهـ.

يدخل الرقيق في ملك الإنسان بواحد من الطرق الآتية:

أولًا: استرقاق الأسرى والسبي من الأعداء الكفار.

ولا يجوز ابتداء استرقاق المسلم لأن الإسلام ينافي ابتداء الاسترقاق لأنه يقع جزاءً لاستنكاف الكافر عن عبودية الله تعالى.

ثانيًا: ولد الأَمة من غير سيدها يتبع أمه في الرق سواء أكان أبوه حرًا أم عبدًا وهو رقيق لمالك أمه لأن ولدها من نمائها ونماؤها لمالكها وللإجماع.

ثالثًا: الشراء ممن يملكه ملكًا صحيحًا معترفًا به شرعًا وكذا الهبة والوصية والصدقة والميراث وغيرها من صور انتقال الأموال من مالك الى آخر.(2)

 وعلى هذا (فإن الغنيمة تشتمل على أربعة أقسام: أسرى، وسبي، وأرضين وأموال. فأما الأسرى، فهم الرجال المقاتلون من الكفار إذا ظفر المسلمون بأسرهم، وأما السبي فهم النساء والأطفال).(3)

في الشرع الإسلامي استرقاق أسرى العدو هو أمر مشروع، سواء كانوا رجالًا أم نساء أم أطفالًا.

وهكذا تصبح الأسيرات «ملك يمين،» وخاضعات لأحكام ملك اليمين، وبناء على ذلك تصبح المرأة الأسيرة «أَمة» وملك يمين لمالكها، وهذا ما يعطيه الحق بنكاحها، وهذا ما يسمى بـ «لتسري».

إذن، إسلاميًا الكفر يترتب عليه محاربة الكفار، والأسر يترتّب على هذه الحرب، والرق يترتّب على الأسر، ووطء الأسيرات يترتب على استرقاقهن.

لكن هذه العملية مقنّنة في الإسلام بقوانين محددة، تحظر مخالفتها، ما يعني أن السبي في التقليد الإسلامي لا يعني الاغتصاب الكيفي لأسيرات العدو(4)، وكل هذه الأحكام خاصة في الكفار والمشركين.

أما ما يحدث بين المسلمين من حروب فيكون فيها الأسر أو سبيًا بالمفهوم الاصطلاحي ولا يسمى سبيًا مشابهة لمفهوم سبي الكفار فلا تحل فيه الأعراض والأموال على عكس ما يحصل مع الكفار ضمن شروطه المعتبرة عند الفقهاء.

اقرأ أيضًا:

«طريق السبايا».. بين الواقع التاريخي والتوظيف السياسي والطائفي (1)

 

هل حصل سبي للركب الحسيني كما تذكر كتب الشيعة الإثني عشرية؟

تسمية إرسال من بقي من الركب الحسيني رضوان الله عليهم بعد واقعة الطف إلى الشام بالسبايا كما في مفهوم السبي في الكفار هو تحريف واضح لغايات طائفية وسياسية معروفة. وإنما أرسل إليهم يزيد لإرجاعهم إلى المدينة المنورة موطنهم الحقيقي ولحمايتهم وليس ما يروج له دهاقنة التشيع. فلم تسب هاشمية قط وإنما هي روايات باطنية مدسوسة على أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وضعها دهاقنة التشيع الباطني لتشويه سمعة الدولة الإسلامية المتمثلة بالدولة الأموية آنذاك وللانتقام منها ومن المسلمين ومن آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ولتستمر إلى اليوم وتزيد كثرة وشناعة مع مرور الزمن، وأغلب هذه الروايات كتبت في عهد الدولة الصفوية الشيعية، فتسمية إرجاع نساء وأطفال أهل البيت رضوان الله عليهم إلى الشام بالسبي هو افتراء واضح منهم والدليل ما ذكروه بأنفسهم في كتبهم (ذكر عن فاطمة بنت علي عليهم السلام قالت: قال الشامي: يا أمير المؤمنين هب لي هذه الجارية. فقال له: (يزيد) أغرب وهب الله لك حتفًا قاضيًا) (5)

وغيرها من الروايات الكثيرة مما سنذكره في بابه في هذه الدراسة.

وأن ما حصل عليهم من اعتداء وتشديد في الكوفة وكربلاء إنما هو من فعل من كان يتحكم في هذه المناطق من دهاقنة الدولة العميقة الذين كتبوا للحسين رضي الله عنه بالمجيء ثم غدروا به وقتلوه وليشوهوا سمعة الدولة الإسلامية المتمثلة بالدولة الأموية وليحدثوا الشرخ الكبير فيها وقد نجحوا في اختلاق التشيع وحرفوا جمع من الأمة ممن انخدع بأكاذيبهم فكانوا أعداءً للأمة ولأهل البيت وهم يضنون أنهم يتبعونهم.. ولذلك كشف أهل البيت رضي الله عنهم المؤامرة عليهم مبكراً فبينوا أحوال من يزعمون أنهم شيعتهم مما سنراه في بابه.

وهذا يبين بطلان دعوى السبي بالمفهوم الشيعي والذي يحاولون إثباته للطعن في الدولة الأموية والأمة وليس في يزيد فقط.

وقد سئل محققهم جعفر المهاجر صاحب كتاب موكب الأحزان في لقاء مع مجلة شعائر بالسؤال التالي:

ما هو مفهوم السّبي تاريخيًّا، وكيف ترونه من حيث التخطيط الأموي، في حادثة سَبي عيال الإمام الحسين عليه السلام؟

فأجاب: بسم الله الرحمن الرحيم. ترجع فكرة السَبي إلى ما قبل الإسلام حيث كان من المعمول به على صعيد المعارك التي تجري في شبه الجزيرة، أنّ مَن ينتصر في المعركة يكون من جملة نتائج انتصاره أن يستولي على النسوة والأطفال.

لكنّ التخطيط الأموي كان مختلفاً، العمل الذي قام به عبيد الله بن زياد بعد يوم كربلاء كان أمراً له مقاصده السياسيّة، ولم يكن المطلوب منه أو المقصود منه أن تكون النساء مملوكات. لذلك أنا أتحفّظ على لفظ السبايا، كان هناك عمل سياسي ومقاصده سياسيّة (6)

 فالشيخ المهاجر هنا ينكر مسألة السبي ويتحفظ عليها.

كذلك ذكروا في كتبهم مع ما ذكروه في الطعن بيزيد أنه استلطفهم ونفذ لهم ما يريدون بل أن يزيد قد أكرمهم على عكس ما ينشره دعاة التشيع في محاضراتهم ومقاتلهم من أنه أهانهم وأسكنهم في مكان خرب، وهذه كتبهم المعتمدة تبين هذه الحقيقة التي يحاولون طمسها بمرور الزمن، وسنرى ذلك بين طيات الدراسة.

والحقيقة أن كل ما جرى لهم هي مؤامرة كبرى قام بها الثالوث المعادي للإسلام والمتمثل باليهود والنصارى والمجوس مما سنبينه في طيات البحث.

الطريق الذي سلكه الركب الحسيني من الكوفة إلى الشام

لم يعيَّن الطريقُ الذي سلكه هذا الركب في كتب التاريخ والسيرة عند الشيعة فضلاً عن غيرهم، ولذلك فإنّ من المحتمل سلوك أيٍّ من الطرق الممتدّة بين الكوفة ودمشق في ذلك العصر. وقد حاولت (العتبة الحسينية الجزم بأن الطريق هو الطريق السلطاني الذي يصعد من الكوفة الى تكريت الى الموصل الى سنجار ثم نصيبين التركية ثم يدخل الشام الى دمشق والذي يحاولون إثباته الان في مشروعهم وبناء هذه المقامات المزعومة في هذا الطريق)، إلّا أنّ مجموعة القرائن لا توصلنا إلى الاطمئنان الكافي للجزم بأحد الطرق.

قال محدث الشيعة عباس القمي: (اعلم أن ترتيب المنازل التي نزلوها في كل مرحلة باتوا بها أم عبروا منها غير معلوم ولا مذكور في شيء من الكتب المعتبرة، بل ليس في أكثرها كيفية مسافرة أهل البيت إلى الشام) (7)

وفيما يلي نذكر بدايةً الطرقَ المؤدّيةَ إلى الشام، ثمّ ندرس القرائن المقدّمة. ومن الضروري قبل الخوض في هذا البحث أن نذكر أنّ الطرق بين الكوفة ودمشق كانت ثلاثة طرق رئيسية، إلّا أنّ كلاًّ من هذه الطرق كانت له فروع عديدة قصيرة وطويلة في بعض الطريق، وهو أمر طبيعي.

الطريق الأول: طريق البادية (الطريق المستقيم - طريق عرب عقيل).

     يبلغ العرض الجغرافي للكوفة حوالي 32 درجة، والعرض الجغرافي لدمشق حوالي 33 درجة، وهذا يعني أنّ الطريق الطبيعي بين هاتين المدينتين يكاد يقع على مدار واحد ولا حاجة إلى الصعود والنزول على الأرض، إلّا في مستوى أقلّ من كسر من الدرجة. وعلى هذا المدار طريق يعرف ب «طريق البادية» هو أقصر الطرق بين هاتين المدينتين ويبلغ حوالي 923 كيلومتراً.. المسافة بين الكوفة والشام إذا لوحظت بخطّ مستقيم بلغت 867 كيلو متراً.

     والمشكلة الرئيسية لهذا الطريق القصير هي مروره بالصحراء الممتدّة بين العراق والشام والمعروفة منذ قديم الأيّام باسم «بادية الشام». ومن الواضح أنّ هذا الطريق لم يكن يسلكه سوى الذين يمتلكون الإمكانيات الكافية - وخاصّة الماء - لاجتياز المسافات الطويلة بين منازل الطريق الصحراوي المتباعدة، (وبالتأكيد فإن ركب يحمل اسارى أهل البيت مع الشهداء وذاهب الى الحاكم الاموي فإنه بالتأكيد سيأخذ احتياطاته الكاملة والامكانيات الكافية للوصول) رغم أنّ سرعة المسافر كانت تدفعه أحياناً إلى اجتياز هذا الطريق. وممّا يجدر ذكره أن لا وجود للمدن الكبيرة في الصحاري، ولكن هذا لا يعني عدم وجود الطرق، أو بعض القرى الصغيرة. (8)

وهو طريق يمكن قطعه في مدّة أسبوع لكونه مستقيماً

وممّن ذهب إلى أنّ أهل البيت رضي الله عنهم سلكوا هذا الطريق عند رجوعهم من الشام الى العراق محسن الأمين في موسوعته الكبيرة (أعيان الشيعة) حيث قال: «.. والمشهور أنّهم وصلوا إلى كربلاء في العشرين من صفر، ومنه زيارة الأربعين الواردة عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام للحسين عليه السلام.

وقد يستبعد ذلك بأنّ المسافة بين العراق والشام تقطع في نحو من شهر، ولابدّ يكونوا بقوا في الشام مدّة، فكيف يمكن استيعاب الذهاب والإياب والبقاء في الشام، والذهاب للكوفة والبقاء فيها، أربعين يوماً؟!

ويمكن دفع الاستبعاد بأنّه يوجد طريق بين الشام والعراق يمكن قطعه في أسبوع لكونه مستقيماً، وكان عرب عقيل يسلكونه في زماننا . وتدلّ بعض الأخبار على أنّ البريد كان يذهب من الشام للعراق في أسبوع، وعرب صليب يذهبون من حوران للنجف في نحو ثمانية أيّام. فلعلّهم سلكوا هذا الطريق وتزوّدوا ما يكفيهم من الماء، وأقلّوا المقام في الكوفة والشام، واللّه أعلم.» (9)

فمن خلال كلام محسن الأمين ممكن أن نستنتج الاتي:

1- أن محسن الأمين كأنه يشير الى اثبات بطلان سيرهم في الطريق السلطاني عند ذهابهم من العراق الى الشام بعد واقعة الطف.

2- يبين بطلان اعتراض من اعترض على سلوك هذا الطريق بحجة الصحراء.. فهو يقول لهم هاهم أهل البيت من النساء والأطفال الذين تزعمون استحالة مرورهم بهذا الطريق من العراق الى الشام.. قد جاءوا بنفس الطريق من الشام الى العراق وقد أخذوا ما يحتاجونه من مؤن. فمن باب أولى سهولة استعداد قافلتهم من الكوفة الى الشام التي كانت بطلب من خليفة المسلمين. والحقيقة أنهم سلكوا الطريق المتعارف على سلوكه بين الشام والعراق.

3- لم ينقل أبداً أنهم رجعوا في الطريق السلطاني مرة أخرى عند من يرى سلوكهم هذا الطريق عند سفرهم بعد واقعة الطف مباشرة.. ولم ينقل أنهم زاروا من مات منهم في طريق السبايا كما يسمونه مما يبين أنهم لا يعرفون هذا الطريق ولا مروا به من قبل.

ويرجح محقق الشيعة محمد جعفر الطبسي في موسوعته (انهم قد سلكوا ببقية الركب الحسيني في سفرهم من الكوفة إلى الشام أقصر الطرق مسافة، سواء أكان طريق عرب عقيل أو غيره، ونستبعد أنّهم سلكوا ما يُسمّى بالطريق السلطاني الطويل. (10)

ويذكر الطبسي كما يذكر غيره مبررات سلوكهم هذا الطريق دون غيره من الطرق الأخرى:

هو حرص يزيد وابن زياد ومن معهم على وصول الركب الى الشام بأسرع وقت ممكن للتشفي وللحصول على الجائزة وللخوف من الثورة عليهم وأخذ رأس الحسين منهم.. انتهى بنصه (11)

ولكن ذهاب قافلة أهل البيت عليهم السلام من هذا الطريق لا يتوافق ولا ينسجم أبداً مع القرائن والشواهد التاريخيّة كما ذكر في كتاب نهضة عاشوراء، كما لا يتلاءم أبداً مع كلام السيّدة زينب عليها السلام عند خطابها ليزيد) (12)

هكذا يرفضون هذا الطريق المعقول لأنه يتعارض عندهم التأريخ الروائي مع الجغرافية لذلك هم في حيرة أي الامرين يصدقون.. هل يخضعون الى العقل والمنطق الذي يستحيل مرورهم في الطريق السلطاني مع ما ذكروه من حوادث كثيرة يحيل العقل قبولها في هذا الوقت القصير جداً كما نقل الطبسي عن محققهم الطباطبائي مما يعني ابطال كثير من الطقوس التي يعتمد عليها مذهبهم، أم يتركون العقل والمنطق جانباً ويتشبثون بالروايات المتناقضة لإثبات ما يدعونه من حوادث قام عليها المذهب!

ملاحظة هامة:

     يذكر الشيعة في كتبهم أن رجوع آل البيت عليهم السلام من الشام الى كربلاء كان من هذا الطريق الصحراوي السريع مما يدل بوضوح على أن هذا الطريق هو المتعارف عليه وأنه أقصر الطرق بين الشام والعراق... فقد سلكوه رغم أنه في الصحراء والحر الشديد ولابد أنهم تجهزوا بالمؤنة الكافية رغم أنهم لم يخططوا منذ البداية بالسفر الى العراق وإنما جاءتهم الفكرة في الطريق فكيف لا يقبلون نفس الطريق عند ذهاب الركب من الكوفة الى الشام ويتحججون بحجج وجود الصحراء والحر الشديد وقلة المياه رغم أن القافلة الأولى أيضاً كانت بأمر يزيد فأكيد أنهم قادرون وبكل سهولة على توفير كل احتياجاتهم.. فهاهم نفس الركب قد سلكوا نفس الطريق الصحراوي للدخول الى العراق... مما يدل أنه هو الطريق الذي مروا به سابقا.

     ولم يذكر أحد منهم أن الركب الحسيني عند رجوعهم الى كربلاء وبعد الانتهاء من مراسيم الأربعين التي يدعونها قد ذهبوا بعدها الى الطريق السلطاني لزيارة من دفنوه في الموصل وسنجار وحلب وبعلبك وغيرها... مما يدل أنهم لا يعرفون هذا الطريق ولا مروا به.

     ويمكن أن يعترض علينا معترض ويقول لم يسمحوا لهم بالذهاب في هذا الطريق وأنه بعيد جداً ولا يمر بالمدينة.

     نقول: أنتم ذكرتم حجتكم بذهاب أهل البيت الى كربلاء بأن يزيد سمح لهم بصورة غير مباشرة بالذهاب الى أي مكان يريدون قبل وصولهم الى ديارهم في المدينة المنورة.. فلذلك عندما طلبوا من قادة الركب بالعروج الى كربلاء للزيارة وافقوا بلا تردد لأن يزيد أمرهم أن ينفذوا كل طلبات الركب كما تذكرون.. فلو كانوا طلبوا ذلك لوافق مسؤلوا القافلة.. ولماذا لم يطلبوا ذلك وهي فرصة لزيارة أولادهم المزعوم موتهم في الطريق السلطاني كما تدعون.

الطريق الثاني: ضفاف الفرات‌

     يعتبر الفرات أحد نهري العراق الكبيرين، وينبع من تركيا ويصبّ في الخليج العربي بعد اجتياز سوريا والعراق. وكان الكوفيّون يسيرون على ضفاف هذا النهر للسفر إلى شمال العراق والشام؛ كي يكون الماء في متناولهم، ولكي يستفيدوا أيضاً من إمكانيات المدن الواقعة على ضفاف الفرات، ولذا كانت الجيوش الجرّارة والقوافل الكبيرة التي هي بحاجة إلى كمّيات كبيرة من المياه مضطرّة لسلوك هذا الطريق، ويتّجه هذا الطريق ابتداءً من الكوفة نحو الشمال الغربي بمسافة طويلة، ثمّ ينحدر من هناك نحو الجنوب وينتهي إلى دمشق بعد اجتيازه الكثير من مدن الشام. وقد كان لهذا الطريق تفرّعات عديدة، ويبلغ طوله التقريبي حدود (1190 إلى 1333 كيلومتراً)، وكان بديلاً مناسباً لطريق البادية الشاقّ وإن كان قصيراً، ويمكن أن نشبّه مجموع هذا الطريق وطريق البادية بمثلّث قاعدته طريق البادية. (13)

     وقال مؤلفوا نهضة عاشوراء (هو الطريق المعروف والمحدّد بين الكوفة والشام، وهو يمرّ من الساحل الغربيّ لشطّ الفرات عبر مدن مثل: الأنبار ـ هيت ـ قرقيسيا ـ الرقّة ـ صفّين. وهو نفس الطريق الذي سلكه جيش أمير المؤمنين عليه السلام للقتال مع معاوية. وهو الطريق الذي قطعه عسكر معاوية للوصول إلى منطقة (المسكن) من أجل مواجهة عسكر الإمام الحسن عليه السلام. ومن مميّزات هذا المسير أنّه ليس طويلا ً كالطريق السلطانيّ ولا يوجد فيه مشاقّ الصحراء المحرقة والقاحلة مثل طريق بادية الشام، ولذا فالظاهر أنّ احتمال اختيار هذا الطريق الوسطيّ سيكون أقوى باعتبار أنّه أقصر مسافة ومعروف ومحدّد. هذا، إضافةً إلى ما مرّ في الجواب عن الإشكال الأوّل للمحدّث النوريّ، بأنّ بعض المحقّقين قد ذكر شواهد تاريخيّة كثيرة تثبت أنّ هناك أشخاصاً قد قطعوا هذه المسافة، من الكوفة إلى الشام، خلال عشرة أيّام، بل في أقلّ من أربعة ٍمنها.) (14)

     فهنا أصحاب نهضة عاشوراء يؤيدون سلوك الركب الحسيني هذا الطريق كونه أقصر مسافة ومعروف ومحدد وهذا يعني كما يقولون (طبعاً، الشواهد الموجودة والكرامات الواردة عـــن رأس الإمــام عليه السلام وأهل البيت عليهم السلام في مدن (حلب ـ قنّسرين ـ حماه ـ حمص ـ دير الراهب) لن تكون شاهداً لأحد طريقي الوسطيّ والسلطانيّ؛ لأنّها مناطق مشتركة بينهما. نعم لو كانت هذه الشواهد قويّة، فإنّها ستنفي سلوك طريق بادية الشام حتماً.

     فكلامه واضح بالتشكيك في هذه المقامات الموجودة على الطريق السلطاني بشكل كبير لذلك نراه لا ينفي سلوك الركب في طريق البادية ويؤيد بشدة سلوكهم طريق الفرات وينفي سلوكهم للطريق السلطاني فيقول: من خلال ما سبق، يتّضح أنّه، وإن كان احتمال ذهاب أهل البيت عليهم السلام من الطريق الأوّل غير منتفٍ، ولكن لا يوجد أدلّة قويّة وشواهد محكمة لإثباته. وعليه فلا مجال بعد لحساب المسافات بين الشام والعراق والبحث حول طول هذا الطريق. ثمّ إنّ احتمال الذهاب من المسير الثالث أقوى باعتبار أنّه أقصر مسافة ومعروف ومحدّد (15)

الطريق الثالث: ضفاف دجلة (الطريق السلطاني)

     يعدّ دجلة النهر الكبير الثاني في العراق، حيث ينبع هو الآخر من تركيا أيضاً، ولكنّه لا يمرّ بالشام، فكان الذي يريد السفر إلى شمال شرقي العراق يختار ضفافه للسفر إلى هناك. ولم يكن هذا الطريق هو الطريق الرئيسي بين الكوفة ودمشق، وإنّما يسيرون مقداراً منه ثمّ ينحرفون تدريجيّاً نحو الغرب والالتحاق بطريق ضفاف الفرات بعد اجتياز مسافة ليست بالقصيرة، ثمّ دخول دمشق من ذلك الطريق. ويمكن اعتبار هذا الطريق ثلاثة أضلاع من مستطيل طوله طريق البادية، والأضلاع الثلاثة الاُخرى هي: المسافة المقطوعة من الكوفة نحو الشمال، الطريق المقطوع باتّجاه الغرب، ثمّ رجوع قسم من الطريق المقطوع نحو الجنوب، ولذلك فإنّه أطول من جميع الطرق الاُخرى، ويبلغ طوله حدود (1545 كيلومتراً) (16)

     وهو الطريق الذي ذكره الميرزا النوري في كتابه (اللؤلؤ والمرجان ص150) وذهب إلى أنّ بقيّة الركب الحسيني كانوا قد سلكوا هذا الطريق من الكوفة الى الشام، وعلى هذا كان الميرزا النوري قد استبعد أن تكون زيارة الأربعين التي زار بها بقيّة أهل البيت عليهم السلام قبر الحسين عليه السلام في الأربعين يوماً الأولى بعد مقتله في سنة 61 للهجرة. (17)

ويقول الطبسي: وهذا الطريق مع طوله وكثرة منازله لا يمكن لسالك يجدّ السير فيه ولا يلوي على أحد ولا يتوقّف في منزل أن يسلكه في أقلّ من عشرة أيّام، ولو أردنا أن نقبل بأنّ مسير الركب الحسيني كان على هذا الطريق، ونقبل جميع ما حدث لهم في منازله لاستغرق ذلك سنة من الزمان (18)

ومنازل هذا الطريق على ما ذهب إليه فرهاد ميرزا صاحب كتاب «قمقام زخّار» هي: حرّان، حصاصة، تكريت، وادي النخلة، برصاباد، الموصل، عين الوردة، قنسرين، معرّة النعمان، كفر طاب، الشيرز، الحمى‌ (حماة)، حمص، بعلبك. (19)   

وقد وردت أسماء منازل هذا الطريق في المقتل المنسوب لأبي مخنف‌ متفاوتة في الترتيب، مع إضافة ونقص. (20)

والمتأمّل في الخرائط الجغرافية يجدها لا تقبل بترتيب بعض تلك المنازل والسبب كما بينا سابقاً من كلام محدثهم عباس القمي :(اعلم أن ترتيب المنازل التي نزلوها في كل مرحلة باتوا بها أم عبروا منها غير معلوم ولا مذكور في شيء من الكتب المعتبرة، بل ليس في أكثرها كيفية مسافرة أهل البيت إلى الشام) (21)

من ذلك يتبين أنه لا يمكن منطقياً قبول رأي من يقول إن الركب الحسيني قد سُلك بهم هذا الطريق الى الشام لاعتبارات عدة:

1- المتعارف عليه أن القوافل التي كانت تذهب من الكوفة الى الشام لا يمكن أن تسلك هذا الطريق الطويل جداً بوجود طرق أخرى معروفة ومستخدمة سابقاً وأقصر مسافة بشكل كبير من الطريق السلطاني

2- من المنطق أن الجيش يريد إيصال النساء والأطفال الذين بقوا من معركة الطف الى الشام بأسرع وقت فلذلك عليهم أن يسلكوا أقصر الطرق وأكثرها أماناً وأقلها سكاناً خوف أن يثور عليهم أحد

3- ليس من المنطق أن قافلة تحمل معها النساء والأطفال والجرحى وهم خارجون من معركة أن يسلكوا بهم هذا الطريق الطويل جدا

4- وقد ذكر الطبسي : وهذا الطريق مع طوله وكثرة منازله لا يمكن لسالك يجدّ السير فيه ولا يلوي على أحد ولا يتوقّف في منزل أن يسلكه في أقلّ من عشرة أيّام، ولو أردنا أن نقبل بأنّ مسير الركب الحسيني كان على هذا الطريق، ونقبل جميع ما حدث لهم في منازله لاستغرق ذلك سنة من الزمان (22)

5- وذكر الطبسي: (لم يُذكر في واحد من الكُتب التاريخية المعتبرة - على مستوى التحقيق - أنّ أهل البيت عليهم‌ السلام في الطريق من الكوفة إلى الشام قد مرّوا بمدينة الموصل) (23)

6- سنرى تهافت حقيقة وجود هذه المقامات والمزارات تاريخياً والتي يستندون عليها بإثبات مرور الركب الحسيني الى الشام.

7- وذكر جعفر المهاجر في كتابه موكب الاحزان: (لسنا ندري كم بقي الرَّكبُ على الدّرب إلى"دمشق". ولكنّنا لا نظنُّ أنّه قطعه في أقلّ من شهر. ومن هنا فلا عِبرة بالأخبار التي تقول أنّ الإمام زين العابدين (عليه السلام) كان في اليوم الأربعين من شهادة أبيه عند ضريحه راجعاً من "دمشق". حيث التقى بالصحابيّ الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري (ت: 74أو78هـ/693أو697م) الذي كان يزورُ الضريحَ أيضاً. بل إنّ هذا الخبر من قبيل "حدّث العاقل بما لا يليق". فكيف يتأتّى لركبٍ كبيرٍ، يتحرّكُ بكامل أثقاله، أن يقطع ما يُناهزُ الأربعة آلاف كيلو متراً ذهاباً وإياباً (مع احتسابنا مدّة بقائهم في "الكوفة" ثم في "دمشق")، في مُدّة شهرٍ تقريباً؟ على أنّ هذا النقد لا ينفي أصلَ مُروره، لأنّ الإستشكال محصورٌ بالتاريخ فقط. (24)

هكذا نراهم حيارى في إثبات هذا الطريق من عدمه كونه يحدث تناقضاً كبيراً بين الجغرافية والتاريخ الروائي.

ــــــــــــــــــــــــ

المصادر:

1- لسان العرب. القاموس المحيط. المصباح المنير

2- الموسوعة الفقهية ج23 ص12-13

3- أبو يعلا محمد بن الحسين الفراء الحنبلي، الأحكام السلطانية، صحّحه وعلّق عليه محمد حامد الفقي، دار الكتب العلمية، بيروت،،2000 ص141-143) (الاحكام السلطانية للماوردي ص131)

4- مشكلة السبي في الإسلام واشكالاتها بين الماضي والحاضر. رسلان جاد الله عامر ص5

5- المجلسي في بحاره ج45 ص 156 , الطبرسي في الاحتجاج ج2 ص34 , الصدوق في الامالي ص231 , مرآة الزمان في تواريخ الاعيان لسبط ابن الجوزي ج5 ص289

6- مجلة شعائر / العدد21

7- نفس المهموم، عباس القمي، ج1 ص38

8- موقع السراج http://alserajmobile1.blogspot.com/2019/09/blog-post_28.html

9- أعيان الشيعة: القسم الأول ج4، محسن الأمين، وعنه كتاب تحقيق حول زيارة الأربعين ص193

10- مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة، محمد جعفر الطبسي، ج5 ص185 – ص187

11- نفس المصدر، ج5 ص187

12- الاحتجاج، الطبرسيّ، ج 2، ص 35 الخوارزميّ، مقتل الحسين، ج 2، ص 72 المجلسيّ، بحار الأنوار، ج 45، ص 134 وص 158 أبو الفضل أحمد بن أبي طاهر الطيفور، بلاغات النساء، ص 39 (مع اختلاف في العبارات).

13- موقع السراج http://alserajmobile1.blogspot.com/2019/09/blog-post_28.html

14- نهضة عاشوراء، ص48-49

15- المصدر السابق

16- موقع السراج http://alserajmobile1.blogspot.com/2019/09/blog-post_28.html

17- نهضة عاشوراء، ص46

18- مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة، محمد جعفر الطبسي، ج5 ص185

19- قمقام زخار، فرهاد ميرزا، ج2 ص548

20- المقتل المنسوب، أبي مخنف، ص180

21- نفس المهموم، عباس القمي، ج1 ص38

22- مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة، محمد جعفر الطبسي، ج5 ص185

23- مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة، محمد جعفر الطبسي، ج5 ص199

24- موكب الأحزان، د. جعفر المهاجر، ص37

 

 

 

 

 

النشرة الإخبارية

اشترك في النشرة الإخبارية

ابق على اطلاع على النشرة الإلكترونية

معلوماتك فى امان معنا! إلغاء الاشتراك في أي وقت.