يُعتَبر الملف النووي الإيراني، واحداً من أكثر ملفات الشرق الأوسط تعقيداً. فلعقودٍ طويلة، لم يستطع المجتمع الدولي بقيادة الولايات المتحدة، تقييد السعي الإيراني لامتلك تقنية عسكرية نووية، رغم مبدأ الاحتواء المزدوج (dual containment) الذي تبنّته إدارة كلينتون تجاه العراق وإيران في تسعينيات القرن الماضي، في وقتٍ كانت الولايات المتحدة (وحليفتها إسرائيل) على أُهبَة الاستعداد للقضاء على أية بُنى أولية لمشاريع نووية في العراق وسورية وليبيا في ذات الفترة، ما يدفع كثيرين إلى الشك في النهج الأمريكي في التعامل مع الملف النووي الإيراني.
اعتمد النهج الأمريكي على سلسلة طويلة من العقوبات أنهكت النظام والشعب الإيراني منذ عام 1979، مع تهديدٍ عسكري بين الحين والآخر (العصا الغليظة)، دون أن يترافق هذان المساران بعمل عسكري فعلي تجاه المشروع النووي، أو ردٍ على تدخل وكلاء إيراني في الشرق الأوسط، أو حتى دفاعاً عن حلفاء الولايات المتحدة عندما تعرضوا لاعتداء عسكري إيراني (سواءً أكان مباشراً أم غير مباشر).
وكان الاختراق الفعلي في هذا النهج، فترة إدارة أوباما، عبر مسار ثالث، تمثّل في المسار الدبلوماسي، الذي قاد الطرفين (ومن خلفهما مجموعة 5+1 والمجتمع الدولي)، إلى التوصل إلى الاتفاق النووي والمعروف بـ (JCPOA). كان هذا الاتفاق بمثابة اختراق حقيقي في أحد الملفات شرق الأوسطية المستعصية، ما جعل تطوير القدرات النووية الإيرانية تحت المراقبة الدولية من جهة، وسمح لإيران بالانخراط التدريجي في البيئة الدولية من جديد، وخصوصاً في المجالات التجارية والاقتصادية الدولية. وكان بالنسبة لإيران منجزاً بالغ الأهمية، حيث سيسمح لها بعد بضعة سنوات لاحقة من المراقبة، بشرعنة جهودها النووية في البيئة الدولية.
لكن هذا الاتفاق لم يترافق بتسويات شرق أوسطية أوسع، تتعلق ببرنامج الصواريخ البالستية، والتدخلات العسكرية في دول المنطقة، والتهديد المستمر لهذه الدول. ربما كان مشروع أوباما حينها قائماً على فكرة أساسية هي "تشارك المصالح في الشرق الأوسط بين إيران والسعودية"، إلى جانب القوى الإقليمية الأخرى بالطبع. لكن الطرفين آنذاك (إيران والسعودية) رفضا عرض أوباما، لما اعتقدا أنهما قادرين على هزيمة كل منها الآخر في المنافسة الإقليمية.
وهنا يبرز أهم فارق بين إيران والقوى العربية الكبرى، وهو أن لدى إيران مشروع طويل الأمد، قائم على نزعة تاريخية-مذهبية-قومية، يهدف إلى مد النفوذ وإعادة تشكيل الهوية والديموغرافيا بل والجغرافيا في عموم المشرق العربي، وإن أمكن مدّ هذا المشروع إلى أبعد من ذلك (الجزيرة العربية وشمال إفريقيا). وهو فعلاً ما استطاعت إيران إنجاز شيء منه في عقدين من الزمن (2003-2023)، حيث تجاوز نفوذها بغداد وبيروت إلى دمشق وصنعاء، فيما تتحضر إلى ما بعد ذلك. في حين أن المشاريع العربية كانت ردود فعل آنية غير متكاملة، وفاقدةً للبعد الهويتي المُوَازِن للبعد الهويتي في المشروع الإيراني.
في المقابل، يرى بعض المراقبين العرب، أنّ انسحاب ترامب من الاتفاق النووي، وفرض نهج "الضغط الأقصى maximum pressure"، هو نهج أفضل بكثير من نهج أوباما الدبلوماسي. لكن ترامب نفسه لم يتخذ أية إجراءات لحماية حلفائه وشركائه في الشرق الأوسط (وخصوصاً السعودية والإمارات عندما تعرضتا لهجوم عسكري إيراني عام 2019)، كما أنّه لم يتخذ أية إجراءات للحدّ من نفوذ إيران في العديد من الدول العربية. كما أنّ انسحاب ترامب سمح لإيران –بالتدريج– بالتحلّل من التزاماتها الدولية بخصوص ملفها النووي، والعودة إلى تطوير برنامجها بشكل سري وعلني، ومدني وعسكري.
لم تُفلِح إدارة بايدن في ضبط تطوّر المشروع الإيراني، رغم محاولة بايدن استعادة نهج أوباما الدبلوماسي. فكان برنامج بايدن في التعامل مع إيران، ضعيفاً، وغير مجدٍ، وفاقداً لأدوات الإكراه التي كان يمتلكها أسلافه.
تتحمل إدارة بايدن جزءاً مهماً من الإخفاق في ضبط مشروع إيران النووي، لكن جزءاً آخر يتعلق بفقدان الثقة بين الطرفين بعد انسحاب ترامب، وجزء ثالث يأتي نتيجة المتغيرات الدولية بالغة الأهمية. هذه العوامل جميعها، جعلت إيران تنتقل من برنامج نووي تحت إشراف دولي (فترة رئاسة أوباما)، إلى دولة عتبة نووية (فترة رئاسة بايدن)، بعد أن استطاعت تخصيب اليورانيوم بنسبة تفوق (60% أو حتى 80%)، وباتت على بُعدِ أسابيع قليلة من إنتاج أول قنبلة نووية إيرانية، والتي هي رهن إجراءات تقنية من جهة، وإرادة سيادية إيرانية من جهة ثانية، وليس للعامل الدولي اليوم سوى مساعي تأخير وعرقلة هذه اللحظة لا أكثر.
بالمحصلة، كان إخفاق إدارة بايدن في هذا الملف واضحاً في سنوات حكمه السابقة، كما أنه فقد خيار العمل العسكري (والذي ربما كانت آخر فرصة له عام 2019 حين استهدفت إيران السعودية والإمارات فترة حكم ترامب. حينها كان هناك مبرر شرعي، وقوى إقليمية متضامنة في مواجهة إيران، وبيئة دولية مساندة. لكن الظرف الدولي اختلف كلياً)، فلم تعد دول المنطقة مستعدة للانخراط في عملية عسكرية قد تمتد لسنوات طويلة، وتستنزف مشاريعها التنموية المستقبلية، ومدخراتها ونموها الاقتصادي واستقرارها الحالي، وربما لم يتبقَ سوى إسرائيل التي تدفع نحو هذا الخيار.
بالعودة إلى الظرف الدولي الذي يتحمل جزءاً من هذا الإخفاق، فمنذ عام 2022، وتحديداً منذ الغزو الروسي لأوكرانيا، لم تعد البيئة الدولية ذاتها، وبدا واضحاً مرونة النظام الدولي "الأحادي"، الذي بدأت معالم التغير فيه تبدو واضحة منذ وصول ترامب للسلطة، لكنها أصبحت واقعاً مفروضاً على السياسيات الدولية بعد عام 2022. فمع تمرد روسيا على النظام الدولي، وتسارع صعود الصين نحو المنافسة القطبية، لم يعد بالإمكان القول إنّ الولايات المتحدة قادرة أو راغبة على التحرك العسكري في الشرق الأوسط كما كانت في العقود الماضية.
يعزّز هذا النهج، تطور علاقات روسيا والصين مع دول المنطقة، وبروز نهج الاستقطاب المرن لدول المنطقة خصوصاً، ودول ما كان يعرف بالعالم الثالث (أو عالم الجنوب) عموماً. وبالتالي فإن البيئة الدولية اليوم تبلور بدائل عن الإكراه الأمريكي الذي كان سمة أساسية لعقود خلت، وكان نوعاً من الأوامرية الأمريكية بعد الحرب الباردة. تتعزّز هذه المرونة/السيولة الدولية، مع مساعي دول إفريقية جنوب الصحراء للخروج عن الوصاية الغربية (الفرنسية)، بالتعاون مع روسيا والصين كذلك.
هذه البيئة الدولية التي ستنتج في السنوات/العقود القادمة نظاماً دولياً جديداً ومختلفاً (سيبقى للولايات المتحدة دور مهم فيه)، لم تعد بيئةً مواتية للعمل العسكري الأمريكي المنفرد، ولن تشرعن حرباً أمريكية، رغم استمرار إدارة بايدن بالتلويح بعصا لم تعد بتلك الغلاظة المعهودة. في حين باتت أولويات الولايات المتحدة موزّعةً بين شرق أوروبا وجنوب شرق آسيا ومناطق أخرى أقل أهمية. وتدرك إيران تماماً هذه المتغيرات الدولية، وتحاول –كما كثير من دول المنطقة– إيجاد مكان ملائم فيها لمصالحها.
هذه المتغيرات، عقّدت أكثر فأكثر عملية التوصل إلى اتفاق نووي، وبات واضحاً أن الطرفين (الأمريكي والإيراني) بعيدين عن تسوية تعيد إيران إلى ما قبل وضع "دولة عتبة نووية"، بل ربما أصبح الأمر غير قابل للتطبيق. لكن الطرفين بحاجة ماسة إلى منجزات تفاوضية (مكاسب مؤقتة)، تسند الحملة الانتخابية لبايدن، وتبرِّد أزمات النظام الإيراني.
يمكن اعتبار صفقة تبادل الأسرى، صفقة بديلة عن الصفقة النووية التي كانت مفترضة، بحيث تقدّم للطرفين "مكسباً مؤقتاً"، وتحافظ على استمرار علمية التفاوض غير المباشر بينهما في الفترة المقبلة. وهو نهج أمريكي مستحدث، مرتبط بالمتغيرات الدولية المذكورة.
لا يمكن التنبؤ بمسار العلاقات بين الطرفين بعد الانسداد التفاوضي، ولا يمكن البناء على صفقة التبادل هذه، كما أن نجاح بايدن في الانتخابات لن يقود –كما يبدو– إلى نهج تفاوضي جديد، فيما نجاح خصم جمهوري متشدد، قد يعيد المشهد إلى شيء مشابه لما كان فترة ترامب، وخصوصاً عامي 2019-2020، ما يعني دفع إيران إلى مزيد من التعنت التفاوضي، وتطوير القدرات العسكرية.
أدركت القوى الإقليمية الرائدة في الشرق الأوسط، مسار هذه التطورات، وتخفيض الالتزام الأمريكي تجاه المنطقة، فسارعت إلى تعديل نهجها هي الأخرى، فيما بات يعرف بالنهج متعدد التحالفات (Omni Aligned)، حيث وسّعت السعودية والإمارات ومصر علاقاتها مع روسيا والصين من جهة، وأعادت ترتيب تنافساتها الإقليمية عبر سلسلة مصالحات عابرة للإقليم مع قطر وتركيا، ثم إسرائيل، ومؤخراً مع إيران، فيما يشبه عملية تبريد واسعة لأزمات الشرق الأوسط المستعصية، مع عجز كل الأطراف عن إيجاد حلول لتلك الأزمات، وخصوصاً في الدول المنهارة/الفاشلة/الهشة (العراق، سورية، لبنان، فلسطين، اليمن، ليبيا، السودان).
وربما تكون المصالحة العربية مع إيران، الحدث الأكثر استثناءً في هذا المسار، وخصوصاً أن إيران كانت العدو الأكثر خطراً على المنطقة العربية خلال العقد الماضي من جهة، وأن تدخل إيران العسكري (عبر وكلائها) في المنطقة العربي ما يزال مستمراً على قدم وساق، فيما لا يزال التهديد النووي والبالستي الإيراني حاضراً دائماً في حسابات القوة في الشرق الأوسط.
ختاماً، فإنه مع إخفاق الإدارات الأمريكية المتلاحقة في ضبط السلوك العدواني الإيراني، وإخفاقها في دفع إيران نحو مسار دبلوماسي فعّال وخلّاق، فإن فرص الدول العربية –ومن ورائها الصين– لضبط السلوك الإيراني أقل بكثير من الفرص الأمريكية. ما يعني ضرورة التحوّط لموجة تدخل إيرانية جديدة، تستهدف فيها بيئات عربية جديدة، عبر أدواتها السابقة، وأدوات مستحدثة. كما لا يمكن الركون إلى وضع إيران الحالي، فالبيئة الدولية باتت أكثر استعداداً لتقبل إيران النووية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*رئيس المكتب الاستشاري لشؤون الشرق الأوسط
ابق على اطلاع على النشرة الإلكترونية