في منتصف نوفمبر/تشرين الثاني 2019، اندلعت موجة احتجاجات كانت الأعنف من نوعها في إيران، احتجاجًا على قرار رفع أسعار الوقود، وذلك تحت شعار "انتفاضة البنزين"، حيث قوبل قرار رفع أسعار الوقود بردود فعل واسعة من قبل مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي، وكذلك بعض نواب البرلمان الإيراني، فيما وصف معارضون هذا القرار بأنه "إضرام النار في حياة الفقراء".
وأدى الضغط الأمريكي وحزم العقوبات الاقتصادية المفروضة على إيران، في العام السابق 2018، إلى حدوث موجة انفجار اجتماعي، فجاءت "انتفاضة البنزين" نتيجة عوامل دفع الضغوطات المتتالية لشل قدرة النظام الإيراني على الوفاء بالتزاماته الداخلية. وأدى ذلك إلى نشوء حالة نقمة شعبية ضد نظام الملالي.
وتخللت الاحتجاجات مواجهات عنيفة مع أجهزة الأمن القمعية التابعة لنظام الملالي، حيث قُتل وقتها ما لا يقل عن 80 شخصًا في المواجهات مع قوات الأمن، وانتشرت الاحتجاجات إلى أكثر من 140 مدينة في البلاد، بما في ذلك مناطق فارسية دخلت لأول مرة على خط الاحتجاجات، التي كانت تقتصر في السابق على مناطق القوميات غير الفارسية، مثل العرب والأكراد والبلوش.
اندلعت "انتفاضة البنزين" بعد ساعات من مصادقة البرلمان الإيراني على مشروع قانون تحت اسم "تقنين استهلاك الوقود". وبمقتضى ذلك، تم الإعلان رسميا عن رفع أسعار البنزين بنسبة 50% لأول 60 لترًا من البنزين يتم شراؤها كل شهر، و300% لكل لتر إضافي، فثارت ثائرة الإيرانيين، وأشعل "البنزين" حراكًا شعبيًا واسع النطاق، وعلت أصوات دعت إلى سقوط الطبقة السياسية الحاكمة في البلاد، دون أن تستثني المرشد علي خامنئي نفسه.
وأطلقت قوات الأمن الإيرانية الرصاص الحي وقنابل الغاز لتفريق المحتجين في ميدان الخميني بالعاصمة طهران، وأفادت وكالة «فارس» الرسمية باعتقال نحو ألف متظاهر في إيران خلال أول يومين من التظاهرات.
أظهرت مقاطع فيديو انتشرت آنذاك على مواقع التواصل الاجتماعي في إيران، شرطة "مكافحة الشغب" وهي تطلق الغاز المسيل للدموع وتستخدم العصي لتفريق المحتجين في مدن عدة، كما أظهرت مقاطع مصورة محتجين وهم يضرمون النار في بنك ومبانٍ حكومية، واشتباكهم مع قوات مكافحة الشغب.
وفي مقاطع فيديو أخرى، أغلق محتجون الطرق وأشعلوا الحرائق في شوارع بطهران ومدن أخرى، وردد البعض هتافات ضد كبار المسؤولين. كما ظهر عدد كبير من الشبان وهم يحرقون صورة المرشد الأعلى للنظام علي خامنئي ويهتفون: «الموت لخامنئي».
وأغلق المتظاهرون في جنوب طهران عددًا من الطرق، كما أغلقت السلطات المترو في طهران وأصفهان لمنع نقل المحتجين. وأفادت وكالة «فارس» بوقوع أضرار في 60 حافلة و5 محطات مترو في احتجاجات أصفهان.
فيما انطلقت مظاهرات لطلاب جامعة «سنندج» بمحافظة كردستان غرب إيران، كما شارك طلاب جامعة أصفهان في الاحتجاجات، وتجمهر المئات من طلاب جامعة طهران وهم يهتفون "الموت لخامنئي" و"تسلقوا الإسلام وجعلوا الشعب أذلاء" و"زاد سعر البنزين وزادت وقاحة الولي الفقيه".
وفي خطوة ذات دلالة سياسية كبيرة، انضم تجار "البازار الكبير" في طهران إلى حركة الاحتجاجات الواسعة التي عصفت بالعاصمة وغالبية المدن الإيرانية. ودخل التجار في إضراب عام واحتجاجات في سوق طهران الكبير، حيث أغلقت العديد من المتاجر في سوق طهران أبوابها، وأغلق البازار الكبير، وهو السوق المركزي التاريخي في إيران، أبواب المحال التجارية، وأظهرت لقطات مصورة تداولها رواد مواقع التواصل الاجتماعي العديد من المحال المغلقة، فيما تجمع عدد من المتظاهرين في جانب منه وقد أحاطت بهم قوات الأمن.
من جهته، هدد "الحرس الثوري" المحتجين باتخاذ إجراء "حاسم" إذا لم تتوقف الاضطرابات التي بدأت بسبب رفع أسعار البنزين. وقال الحرس في بيان نقلته وسائل الإعلام الرسمية إنه "إذا تطلب الأمر فسنتخذ إجراء حاسمًا وثوريًا ضد أي تحركات مستمرة لزعزعة السلام والأمن".
وأيّد المرشد الإيراني قرار زيادة أسعار البنزين، وتقنين توزيعه، وقال التلفزيون الرسمي الإيراني إن خامنئي ساند القرار منحيًا باللوم كما يحدث كل مرة فيما سمّاه "أعمال التخريب" على معارضي الدولة والأعداء الأجانب وقوى "الاستكبار العالمي"!
على الرغم من تحذيرات "الحرس الثوري" وتصريحات المرشد، اتسعت الاحتجاجات وامتدت إلى عدد كبير من المدن الإيرانية، حيث شوهد متظاهرون وهم يغلقون طرقا في طهران، بينما تجمع محتجون في أماكن أخرى من العاصمة حول سيارات محترقة. ووقعت حوادث إحراق متعمد لعدد من المقار الحكومية في مدينتي شيراز وأصفهان وسط البلاد.
وقالت وزارة الاستخبارات في إيران إنها ستتخذ إجراءات قوية بحق المتظاهرين، الذين شاركوا في «عمليات التخريب». ونقلت وكالة أنباء «إرنا» عن الوزارة قولها في بيان إنها «لن تدخر جهدًا» في مسعاها لضمان الأمن القومي للبلاد.
وقال المدعي العام الأول محمد جعفر منتظري: «بالتأكيد، يتم توجيه مثيري الشغب ومشعلي الحرائق، من الخارج، وأنشطتهم تعدّ غير مشروعة وإجرامية، ومن هنا فسوف نتخذ إجراءات مناسبة ضدهم».
فيما ذكرت منظمة "نت بلوكس" للأمن السيبراني الدولي، أنه تم إغلاق شبكة الإنترنت بشكلٍ شبه كامل في إيران منذ اندلاع "انتفاضة الوقود"، وأكدت الشبكة أن نسبة الاتصال الفعلي بالإنترنت في البلاد لم تتجاوز 7% خلال الأيام الأخيرة، مقارنةً بحجم الاستخدام الطبيعي، وذلك بعد مرور 12 ساعة من انقطاع الشبكة التدريجي، تزامنًا مع استمرار الاحتجاجات.
واعترف نائب إيراني سابق أنه كما في مواجهة انتفاضة 2017 – 2018، ربما تورطت بعض أجنحة النظام في استفزازات، وعمليات إحراق مقرات وتخريب بشكل إرادي، من أجل تبرير سحق الانتفاضة وتدميرها.
ويقول المراقبون إن انتفاضة البنزين بدأت لأسباب اقتصادية لكنها سرعان ما تحولت إلى شعارات سياسية تتعلق بالسياسة الخارجية للبلاد ومنها: "اترك غزة وفكر فينا"، و"لا غزة ولا لبنان روحي فداء إيران"، ما يعني أن الاقتصاد هو مجرد عرض، بينما المرض يكمن في السياسة الخارجية للبلاد، من وجهة نظر المتظاهرين.
وأكد جان بيار بيران، الكاتب والصحفي الفرنسي الخبير بالشأن الإيراني، أن "انتفاضة البنزين" في نوفمبر/تشرين الثاني 2019 التي شملت مئة وأربعين مدينة حسب أوساط المحتجين ومئة مدينة حسب السلطات، كانت مختلفة عن الانتفاضات السابقة في إيران، فقد شاركت بها الطبقتان الشعبية والمتوسطة والطلاب، وكان مسرحها مدن كبرى ومتوسطة وصغيرة، ولم تقتصر فقط على مناطق القوميات من العرب والأكراد والبلوش، بل وصلت إلى شيراز عاصمة محافظة فارس وطهران وغيرها.
وفي مواجهة الحجم غير المسبوق للانتفاضة، وزخمها وسقوط العشرات من الضحايا، بدا واضحًا أن طروحات الحكم في إيران بدأت تتساقط على محك الممارسة العملية، إذ أن ذرائع "المشروعية والثورة والحق الإلهي" لم تعد صالحة لإطعام الشعوب والتنمية والرخاء. وانقلب الأمر اليوم للدفاع عن المربعات الأخيرة، تحت عنوان حماية الأمن القومي والتلويح بالحزام الناسف وتفجير الإقليم منعاً للسقوط، ومن أجل تخويف وابتزاز دول الجوار والعالم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر:
1- أبعاد "انتفاضة البنزين" في إيران وآفاقها، موقع العربية، 23 نوفمبر/تشرين الثاني 2019.
2- روحاني: رفع أسعار البنزين يصب في صالح الشعب، موقع روسيا اليوم، 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2019.
3- انتفاضة البنزين في إيران.. أولى نتائج العقوبات الأميركية، موقع اللبنانية، 18 نوفمبر/تشرين الثاني 2019.
ابق على اطلاع على النشرة الإلكترونية