هذا هو العدد الأول من مجلة "كردستان"، وهي مطبوعة جديدة وفريدة من نوعها في الإعلام العربي المعاصر، مهمتها هي دعم الشعوب المقهورة الساعية للحرية والاستقلال، وبيان الوجه الحقيقي المضيء للقضية الكردية، التي لا يعرف القارئ العربي عنها الكثير، رغم التاريخ المشترك العريق للعرب والكرد الذين عاشوا جنبًا إلى جنب في وئام وسلام لأحقاب طويلة.
ومن المسلّم به، أن القضية الكردية ليست قضية احتلال بالمعنى الكلاسيكي المتعارف عليه، وإن كانت تنطوي على الاضطهاد القومي، بل هي نتاج خرائط رسمتها قوى دولية في ظل توازن دولي محدد ارتسم بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية.
وتعد القومية الكردية من أكبر القوميات من حيث عدد السكان التي ليس لها كيان قومي. وتكاد لا توجد قومية أخرى بهذا العدد من السكان، وبهذا الغنى من الثروات في أماكن وجودها، منعتها سياسات الدول الغربية، والتفاعلات الداخلية لتلك السياسات، من تشكيل دولتها القومية الخاصة، حيث لم يسمح الاستعمار التقليدي المباشر في حينه بوجود دولة كردية مستقلة، بل تعمد إبقاءها مشكلة مفتوحة.
الفضاء السياسي والجغرافي للقضية الكردية- حتى ما قبل التحولات في ميزان القوى الدولي والإقليمي الجديد للقوى بفعل الأزمة الرأسمالية العامة والشاملة- هو دول الرأسمالية الطرفية، حيث النهب المزدوج والتفاوت الطبقي الحاد والمستوى المتدني من الحريات السياسية، مضافاً إليها ظلم قومي تكرس مع التقسيمات الاستعمارية، ولم ينته في ظل ما اصطلح عليه بالدولة الوطنية.
القضية الكردية قضية دولية موضوعيًا، بسبب توزعها بين بلدان عدة، اختلفت في تحالفاتها الدولية منذ تكونها. وإن أي تحريك للملف الكردي في إحدى هذه البلدان منفردة كانت له على الدوام ردود أفعال من أربعة بلدان، ومن الدول المتحالفة مع البلدان الأربعة، بشكل غير مباشر، مما جعلها ساحة تنافس دولي دائمًا.
من جهة ثانية، فإن القضية الكردية واحدة من أهم القضايا الدولية المعاصرة، فقد تعرّض الشعب الكردي خلال سنواتٍ طويلة لأشرس وأوسع الحملات ضد تطلعاته، وكان الكرد دائمًا ضحيةً للتوافقات الدولية، ومصالحهم تصطدِمُ دائمًا بمطامع الدول الإقليمية الكبرى.
رغم ذلك، فإن للقضية الكُردية أهمية كبيرة، فهي تحملُ معها العديد من انتهاكات حقوق الإنسان من قبل الأنظمة السياسية في الشرق الأوسط. ولعل القضية الكردية تكون لها انعكاسات أمنية خطيرة على الأمن الإقليمي في الشرق الأوسط والأمن الدولي أيضًا، في حال عدم إيجاد الحلول المناسبة لها، فهي قضية واضحة وتمتلك كل عناصر القضية العادلة، ومضى عليها العديد من السنوات وهي بانتظار حل عادل طبقًا للقانون الدولي.
ولا جدال أنه من حيث المبدأ التاريخي والسياسي والأخلاقي فإن من حق الكرد أن تكون لهم دولة مستقلة ذات سيادة، مثل بقية دول المنطقة، فهم شعب أصيل من شعوب المنطقة. غير أن الجغرافيا السياسية في الإقليم التي فصلتها الدول الاستعمارية الغربية من خلال ما بات يعرف باتفاقيات سايكس بيكو، حالت دون تحقيق الحق الكردي، لتكرسه لاحقًا سياسات الحكومات في الدول التي يتواجدون فيها.
ويعيش الكرد اليوم أوج حلمهم بإنشاء كيان خاص بهم، وهذا حقهم لا ينازعون فيه من حيث المبدأ، فالكُرد لهم وجودهم القومي في المنطقة عبر التاريخ. في العراق ساهم الاحتلال الأمريكي في عام 2003 بخلق ظروف ملائمة لإنشاء كيان كردي شبه مستقل في شمالي العراق.
كما إن ظروف الصراع المسلح في سوريا أيقظت لدى كُرد سوريا الحلم بإنشاء كيان خاص بهم في شمالي سوريا. لكن هنا، وعلى عكس ما حصل في العراق، يصعب حل المسألة الكردية بالطريقة ذاتها لأسباب عديدة. بداية ليس كل الكرد بالانتماء هم كرد بالهوية، إذ أن بعضهم قد استعرب إلى حد كبير، أو لا يهتم بانتمائه القومي. وثانيًا لا يوجد تواصل جغرافي بين المناطق ذات الأغلبية الكردية في شمالي سوريا. وثالثًا لا تتوافر مقومات اقتصادية كافية لاستقرار الكانتونات الكردية خارج سوريا. ورابعًا، وهذا مهم جدًا وحاسم، تبدي الحكومة التركية حساسية عالية ضد كرد سوريا، بحكم الروابط التاريخية بينهم وبين مواطنيها من الكرد.
لا ينبغي الاكتفاء بما يسمى حق تقرير مصير الكرد الجزئي جغرافيًا، بل ينبغي العمل لتقرير المصير والسيادة لشعوب المنطقة كلها، بمن فيهم الكرد كلهم بمختلف أماكن وجودهم في البلدان الأربعة، بمعناهما الحقيقي، أي انعدام التبعية لأي من المراكز الإمبريالية.
إن الأشكال أو الخطوات الانفصالية، أحادية الجانب، ستكون معرقلة لهذا المسار الموضوعي بحكم الصراعات الثانوية التي ستحدثها.
الشكل العملي لتنفيذ هذا الحق يتعلق بشكل تغير وتطور موازين القوى الدولية والإقليمية اللاحقة، وبحجم الأزمات في كل بلد.
لن يتبلور هذا الحق ويدخل حيز الوجود إلا ضمن التفاهم الطوعي الإرادي لشعوب المنطقة كلها، بشكل يعمق تآخيها ويوحد نضالها ضد الإمبريالية عدوة كل الشعوب.
ويعتبر النظام التركي أي انفصال لكُرد سوريا، أو منحهم أي شكل من أشكال الإدارة الذاتية خطًا أحمر لن تسمح بتجاوزه، وهي بهذا الموقف تتفق مع موقف النظام السوري. ولذلك فهي تسعى، مستفيدة من الأزمة السورية وتحولاتها، لإقامة منطقة عازلة بعمق ثلاثين كيلو متر على امتداد الحدود السورية معها، أو للتفاهم مع النظام لضبط الحدود المشتركة. في إطار هذه المعطيات الواقعية يبقى جواب وحيد ممكن لسؤال المسألة الكردية السورية هو العمل مع مختلف فئات الشعب السوري لإنشاء دولة ديمقراطية علمانية لامركزية على أساس مبدأ المواطنة، تتيح لجميع مكوناتها نوعًا من الإدارة المحلية لشؤونها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية بنفسها. بغير ذلك سوف يظل السؤال الكردي في سوريا مفتوحًا على إجابات عسكرية لا مصلحة لأحد فيها.
ويؤكد المراقبون، أن أفضل صيغة لحق تقرير المصير للشعب الكردي في المرحلة الانتقالية الراهنة، تكمن في أن يكون الشعب الكردي في قلب المعركة إلى جانب الشعوب الأخرى، من أجل عملية تغيير جذرية لكامل البنية السابقة، وما أنتجته من قهر اجتماعي وقومي، باتجاه شكل من أشكال الاتحاد القائمة على الاعتراف المتبادل بالحقوق، وليس جعلها أداة توتير جديدة، من خلال أوهام الدعم الغربي عموماً، والأمريكي خصوصًا.
وفي الواقع، شكّل سياق القضية الكردية منذ نشأتها وحتى الآن علاقةَ تفاعلٍ واستخدامٍ متبادلة بين الكرد والقوى الإقليمية والدولية؛ أي أنّ هذه القوى لم تستخدم قضية الكرد كورقة ضغط ومساومة انطلاقًا من مصالحها فحسب، وإنّما أيضًا كانت هناك رغبة لدى القادة الأكراد لاستخدام ورقتهم؛ أملًا في الاستفادة من ظروف تنافس القوى الإقليمية والدولية في المنطقة، وللحصول على الدعم الملائم الذي يمكن أن يعظّم المكاسب الكردية، ولتحقيق المطامح التاريخية بتأسيس كيانٍ كرديٍ يتمتع بدرجة كبيرة من الاستقلالية أو حتى مستقلٍ تمامًا إن سمحت الظروف بذلك.
ولأن القضية الكردية، بكل المقاييس، قضية عادلة، سيظل القائد والمفكر الكردي المناضل عبد الله أوجلان، زعيم حزب العمال الكردستاني، رغم مرور 24 عامًا على اعتقاله بمعرفة جهاز المخابرات الإسرائيلي "الموساد" وسجنه في تركيا، سيظل أيقونة ورمزًا إنسانيًا للكفاح الوطني من أجل التحرر والعدالة، ليس فقط بالنسبة للكُرد، بل لشعوب الشرق الأوسط الباحثة عن الحرية والعدالة.
ابق على اطلاع على النشرة الإلكترونية