وجّهت السيدة مريم رجوي، رئیسة الجمهورية المنتخبة من قبل المقاومة الإیرانیة، نداءً في أغسطس/آب 2016 إلى الشعب الإيراني وأعضاء وأنصار المقاومة، أعلنت فيه عن إطلاق حركة مقاضاة بحق مرتكبي مجزرة السجناء السياسيين في يوليو/تموز عام 1988، التي راح ضحيتها أكثر من 30 ألف معتقل سياسي.
وكان من بين مطالب هذه الحركة: محاكمة جميع الآمرين والمنفذّين لهذه المجزرة، ونشر أسماء وهويات ومدافن جميع من أعدمهم النظام فيها، والكشف عن هوية كل متورّط في هذه المجزرة من متخذي القرار والمنفذّين.
وسرعان ما انتشرت حركة المقاضاة داخل إيران وخارجها، وتحوّل موضوع مجزرة السجناء السياسيين إلى موضوع الساعة في المجتمع الإيراني بوجه النظام. فهذه الحركة أجبرت قادة النظام على كسر صمتهم بعد ثلاثة عقود واتخاذ مواقف بشأن هذه الجريمة البشعة.
كما أثار استقبال عوائل الشهداء وجهودهم في نشر أسماء الشهداء والوثائق والأدلة المتعلقة بالجريمة، موجة واسعة داخل إيران.
وعلى المستوى الدولي، أدّت إقامة مؤتمرات عديدة من قبل المقاومة الإيرانية والحقوقيين إلى إدانات دولية لهذه الجريمة الكبرى والدعوة إلى محاكمة المسؤولين عنها.
الكشف عن "لجنة الموت"
في عام 2016، قام أحمد منتظري، وهو نجل المرجع الشيعي الراحل حسين علي منتظري، بنشر تسجيل صوتي في موقعه الإلكتروني عن المذبحة، تضمن اتصالات بين والده وعدد من رؤساء المحاكم الثورية والمسؤولين الإيرانيين في ذلك الحين، من ضمنهم وزير العدل الفعلي بور محمدي وعلي فلاحيان وزير الاستخبارات أيام حكم رفسنجاني وغيرهم من المسؤولين الكبار، وأكد جميعهم أن الأوامر أتت مباشرة من الخميني نفسه، لتصفية جميع المعارضين، لكي يكونوا عبرة لكل من يريد أن يعارض الثورة.
وقام أحمد منتظري بحذف الملف من موقعه بعد ضغوط تعرض لها من الأجهزة الأمنية للنظام، لكن بعض المحطات الناطقة باللغة الفارسية قامت بإعادة نشره على الهواء وعلى الإنترنت وفي شبكات التواصل الاجتماعية.
وكشفت مذكرات منتظري عن نسخة من "الفتوى" السرية التي أصدرها الخميني في أواخر يوليو/تموز من عام 1988، بتعيين لجنة للنظر في قضايا سجناء مجاهدي خلق، وإعدام جميع السجناء الذين ظلوا "ثابتين" على دعمهم للجماعة، وكذلك رسائل احتجاج كتبها إلى الخميني واللجنة المكلفة بتنفيذ الفتوى.
وقال منتظري: "بعد رسالتي الاحتجاجية الثانية إلى الخميني، لم يطرأ أي تغيير واستمرت (الإعدامات). في 15 أغسطس/آب 1988، التقيت بالسيد نيري، الذي كان قاضي الشرع في إيفين، والسيد إشراقي الذي كان المدعي العام، والسيد بور محمدي الذي كان ممثل وزارة المخابرات. قلت لهم إنهم يجب أن يوقفوا الإعدامات في شهر محرم. رد السيد نيري: "أعدمنا حتى الآن 750 شخصًا في طهران، وحددنا 200 آخرين. اسمح لنا بالتخلص منهم وبعد ذلك سنستمع إليك!".
واعتبر الخميني السجناء السياسيين "مرتدين عن الإسلام"، مشيرًا أيضًا إلى نشاطاتهم القتالية في البلاد و"تعاونهم" المزعوم مع الرئيس العراقي آنذاك، صدام حسين، و"إن الموجودين منهم حاليًا في السجون وما زالوا متمسكين بنفاقهم يعتبرون محاربين ويحكم عليهم بالإعدام".
وأضاف أن "الحزم الإسلامي حيال أعداء الله من الأحكام التي لا مجال للتردد فيها في النظام الإسلامي. أتمنى أن تكسبوا رضا الله بحقدكم وغضبكم الثوري ضد أعداء الإسلام. على السادة الذين يتولون المسؤولية أن لا يترددوا في ذلك أبدًا وأن يسعوا ليكونوا "أشداء على الكفار"، فإن التردد في مسار القضاء الإسلامي الثوري إهمال لدماء الشهداء الزكية".
ولتنفيذ هذه الفتوى، ذكرت المنظمة أنه أنشئت لجنة مكونة من ثلاثة أشخاص عرفت بين الناجين من عمليات الإعدام بـ "لجنة الموت".
كيف انكسر الصمت؟
بعد مضي أشهر على توزيع التسجيل الصوتي للقاء أحمد منتظري، عن "لجنة الموت"، اضطر المرشد علي خامنئي ومن معه إلى كسر الصمت، وأبدوا خوفهم من احتدام مشاعر الكراهية والنفور وإدانة هذه الجريمة داخليًا ودوليًا. وأعربوا عن قلقهم من الكشف عن الوجه الحقيقي لموسوي الخميني، الذي أمر بتنفيذ هذه المذبحة داخل النظام، ودعم منظمة مجاهدي خلق في الداخل، وعلى الصعيد الدولي. الأمر الذي جعل نظام ولاية الفقيه برمته أمام تحد حقيقي.
وبدأت وقائع المذبحة، بعد نهاية الحرب الإيرانية- العراقية، أمر الخميني بإعدام جميع أعضاء وأنصار مجاهدي خلق المعتقلين وقتها في السجون الايرانية. وأدت هذه الموجة الرهيبة إلى إعدام ما لايقلّ عن ثلاثين ألفًا من السجناء السياسيين.
وكان جميع المسؤولين في النظام متورطين في هذا الجريمة الكبرى. لكن المجتمع الدولي بقي متفرجًا على هذه المجازر ولم يبد أي ردّ فعل تجاهها. لأن هذه المجازر وقعت بعد وقف الحرب الايرانية العراقية، وكان العالم منشغلًا بخير سارّ وقتها، وهو أن نظام الملالي خضع أخيرًا أمام مطلب دولي كبير.
طبّق النظام سرية تامة على هذه المجازر، حيث انقطعت جميع إمكانيات التواصل مع السجناء فلم يعرف العالم ما ذا حدث في غياهب السجون. والمعلومات حول هذه الجرائم جاءت تحت الضوء شيئًا فشيئًا ومن خلال مضي سنوات.
وفور صدور فتوى الخميني، بدأت اللجان - المحاكم- المشكّلة بموجب الفتوى أعمالها بتوجيه سؤال بسيط للسجناء المجاهدين معصوبي العينين: لأي جماعة تنتمي؟ وكل من ردّ على هذا السؤال بـ «مجاهدي خلق» كان مصيره إلى المشانق. ومن ردّ بـ«المنافقين» توجه له أسئلة أخرى. وفترة المحاكمة لم تتجاوز دقيقتين أو أقل. وتعلّق ستة أشخاص معًا على كل مشنقة. هذه الوتيرة بدأت في طهران وتوسعت إلى مختلف المحافظات الايرانية.
كان معظم الضحايا من مجاهدي خلق - أي ما يقارب تسعين بالمائة منهم- وبعد التخلص من المجاهدين قاموا بتصفية المعارضين الآخرين أيضًا. الملفت أن النساء من الجماعات الأخرى لم يتم إعدامهن لأن المرتدات لايمكن إعدامهن في فقه الملالي، لكن النساء المجاهدات تم إعدام جميعنّ لأنهن تم تصنيفهن بـ "المحاربات".
وكان هذا المشهد مشهد اختبار لمجاهدي خلق وعزيمتهم أمام نظام الظلم والدجل، فالأغلبية الساحقة من السجناء لم يركعوا أمام النظام المتجبّر الطاغي واختاروا الاستشهاد والإعدام بدل الذلّ والاستسلام. ولا شك أن هؤلاء السجناء في صمودهم ومقاومتهم كانوا يعبرون عن عزيمة وشكيمة الشعب الايراني وعدم تركيعه أمام النظام الحاكم.
بعد أشهر من هذه المجازر، مات الخميني وحلّ محلّه خامنئي بصفة الولي الفقيه وزعيم النظام. لكن العالم ينظر بعد خميني إلى رفسنجاني الذي يلبس عمامة بيضاء بأنه أخذ بيده مقاليد السلطة. إذن يجب فتح الطريق أمامه وعدم عرقلة أدائه عسى أن يكون معتدلًا واصلاحيًا.
وجميع المتورطين في هذا الجريمة الكبرى لا يزالوا يتربعون على المناصب القيادية في النظام، ما عدا الخميني. وجميع كبار المسؤولين في السلطة القضائية هم الذين كانوا متورطين مباشرة في هذه الجريمة.
مقاضاة السفاحين
في يناير/كانون الثاني 2022، دعا مسؤولون أمميون سابقون، وفريق من الفائزين بجائزة "نوبل"، مكتب حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، للتحقيق في إعدامات جماعية طالت سجناء سياسيين في إيران سنة 1988.
ودعت رسالة مفتوحة تم نشرها، مجلس حقوق الإنسان إلى إطلاق تحقيق دولي في مقتل نحو 30 ألف معتقل في 1988. وأشارت الرسالة بالاسم إلى الرئيس الحالي إبراهيم رئيسي، ورئيس السلطة القضائية غلام حسين محسني إيجائي، بوصفهما من المتهمين، بالوقوف وراء الإعدامات، والذين يستمرون في الإفلات من العقاب.
وقالت الرسالة إن "آلاف السجناء السياسيين الذين رفضوا التخلي عن معتقداتهم أعدموا، لقد دفن الضحايا في مقابر جماعية منتشرة في أنحاء البلاد. ونعتقد أن الوقت حان منذ فترة طويلة لكي يحقق مكتب مفوضة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان ميشيل باشليه في مجزرة 1988".
وكان من بين الموقعين على الرسالة، شخصيات سابقة في الأمم المتحدة مثل يواخيم روكر، رئيس سابق لمجلس حقوق الإنسان، وكلود هيلر، رئيس سابق لمجلس الأمن الدولي.
وفي أغسطس/آب 2022، أعلنت المعارضة الإيرانية في الخارج عن إقامة دعوى قضائية في المحكمة الجزئية بنيويورك على الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي لمحاسبته على ارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم إبادة ضد العديد من السجناء السياسيين عام 1988 خلال عمله في الادعاء العام الإيراني.
ونظم المجلس الوطني للمقاومة الإيرانية، مؤتمرًا في واشنطن، شارك فيه محامون وسجناء سابقون وناجون من مجزرة عام 1988.
وخلال المؤتمر، روى الناجون من المجزرة، وهم مواطنون من الولايات المتحدة وكندا وألمانيا قصصهم مع النظام الإيراني. وتشير أوراق الدعوى إلى أن رئيسي كان مشاركًا في «لجنة الموت» مع ثلاثة قضاة آخرين، وهم الذين أمروا بتنفيذ آلاف عمليات الإعدام وتعذيب أعضاء منظمة مجاهدي خلق.
وأقام شخصان تعرضا للتعذيب من جماعة مجاهدي خلق، إضافة إلى شخص آخر أُعدم شقيقه، الدعوى أمام المحكمة بنيويورك، وتزامنت هذه الدعوى أمام محكمة نيويورك مع دعاوى أخرى، أقيمت في كل من إنجلترا واسكوتلندا.
وقالت منظمة "هيومن رايتس ووتش"، في تقرير لها صدر يونيو/حزيران 2022، أنه يمكن محاكمة إبراهيم رئيسي بموجب القوانين القضائية الدولية بمجرد تركه للمنصب، بسبب دوره في عمليات الإعدامات الجماعية في إيران العام 1988.
وأعدت المنظمة في تقريرها حول الإعدامات في إيران، وثيقة أسئلة وأجوبة للنظر في الحقائق المعروفة عن الإعدامات الجماعية، ولماذا ينبغي تصنيف الإعدامات على أنها جرائم ضد الإنسانية، والسبل المحتملة لمحاسبة الجناة الأحياء.
وحول كيفية محاكمة رئيسي عن دوره في إعدامات عام 1988 في إيران، قالت المنظمة: "قضت محكمة العدل الدولية، في قضية يروديا، التي تواجهت فيها بلجيكا وجمهورية الكونغو الديموقراطية بشأن مذكرة توقيف ضد وزير الخارجية الكونغولي، بأن رؤساء الدول وبعض الوزراء يتمتعون بحصانة من الملاحقة القضائية أمام المحاكم الوطنية لدولة ثالثة خلال وجودهم في المنصب". وأضافت: "يمكن محاكمة رئيسي بموجب قوانين الولاية القضائية العالمية بمجرد تركه للمنصب".
واستندت "هيومن رايتس ووتش" إلى قضايا حقوقية سابقة للوصول إلى نتائج بشأن رئيسي. ففي قضية بارزة حديثة، حاكمت المحاكم السنغالية حسين حبري، الرئيس التشادي السابق، على جرائم ارتكبت في ذلك البلد في الثمانينيات. كانت هذه القضية الأولى من نوعها التي تنظر فيها المحاكم الوطنية لبلد ما ضد رئيس سابق لدولة أخرى. وبالتالي "لا يوجد ما يمنع المسؤولين القضائيين الوطنيين من إجراء التحقيقات أو جمع الأدلة ضد أي فرد متورط في جرائم خطيرة، بغض النظر عما إذا كان يتمتع بالحصانة وقت التحقيق".
وجددت المقاومة الإيرانية دعوتها دوليًا، لملاحقة ومحاكمة آمري ومرتكبي مجزرة عام 1988 هذه الجريمة ضد الإنسانية في إيران. هؤلاء الذين لا يزالون باقين على السلطة، ويحتلون المناصب القيادية. ومن بينهم المرشد علي خامنئي (الرئيس في عهد الخميني آنذاك)، وحسن روحاني (الذي كان آنذاك مساعد القائد العام للقوات المسلحة بالإنابة)، وأعضاء "لجنة الموت" مصطفى بور محمدي (وزير الداخلية ووزير العدل الأسبق في عهد حسن روحاني)، وحسين علي نيري (رئيس المحكمة التأديبية العليا للقضاة في عهد روحاني)، ومرتضى إشراقي (المدعي العام آنذاك)، والرئيس الحالي إبراهيم رئيسي (رئيس سابق للقضاء).
ابق على اطلاع على النشرة الإلكترونية