في مطلع فبراير/شباط 1979 عاد موسوي الخميني إلى طهران قادمًا من منفاه في باريس، بعدما تعهد من هناك بالحفاظ على المبادئ التي اتفق عليها الإيرانيون، الذين كانوا يتوقون للتخلص من حكم الشاه محمد رضا بهلوي.
وبعد الثورة، توقع الجميع أن إيران ستشهد بناء نظام ديموقراطي يحمي حقوق الإنسان، لكن "الخميني" كان لديه مشروعه الخاص والذي تخلى من أجله عن وعوده، وانقلب على رفاقه القدامى.
الحراك الثوري في إيران عام 1979 كان يضم أطيافًا سياسية شتى، وليس رجال الدين الشيعة من الملالي فحسب، بل كان هناك أيضًا تيار ليبرالي عريض من شرائح المثقفين القوميين الديمقراطيين المتأثرين بالثقافة الغربية، وعلى رأسهم أبو الحسن بني صدر، الذين لعبوا دورًا كبيرًا في إنجاح الثورة. غير أن الملالي قفزوا على السلطة فيما بعد، ونكّلوا برفاقهم فأودعوهم داخل السجون والمعتقلات، وقتلوا منهم عشرات الآلاف.
وكان من رموز التيار القومي، وقتها، شاه بختياري، وهو آخر رئيس وزراء في عهد الشاه محمد رضا بهلوي، والمهندس مهدي بازركان، الذي أصبح أول رئيس وزراء في حكومة الثورة؛ فضلًا عن التيار الاشتراكي الذي ضمّ فصائل اليساريين بشتى مشاربهم، ووصل عددها إلى 24 فصيلًا، من بينهم ماركسيون، واشتراكيون، ويساريون إسلاميون.
وخلال فترة قصيرة من نجاح الثورة، تم التنكيل بـ أبي الحسن بني صدر ورفاقه، الذين رأوا في الخميني من قبل ثوريًا صادقًا، وإن اختلفوا مع رؤاه الدينية، لأنّهم كانوا أقرب لرؤى ما يُسمّى بـ "الفكر الإسلامي الديمقراطي"، ولأنّهم عارضوا استبدال الدكتاتورية العلمانية بأخرى دينية.
إسقاط التحالف الوطني
شهدت المرحلة الأولى من الثورة الإيرانية، وتحديدًا بعد رحيل الشاه، نوعًا من تقاسم السلطة، قبل فيه التيار الدينى أن يتصدر الساسة المدنيون المشهد، فكانت رئاسة الجمهورية من نصيب أبي الحسن بنى صدر، وكانت حكومته مدنية بالكامل.
لم يكن "الخميني" يرغب فى تصدُّر المشهد رسميًا، حتى لا يخسر قوى اليسار، وفئات عديدة فى المجتمع الإيرانى كانت تلتقي في معارضة حكم الشاه محمد رضا بهلوى، ولكنها لا تقبل بأن يكون البديل حكمًا دينيًا.
ولكن، لم يمض سوى فترة قصيرة على اندلاع الثورة، حتى أحكم "الخميني" وأنصار تياره الديني المتشدد قبضتهم على مقاليد الحكم، وعمد هذا الحكم الديني المنفرد إلى قمع أي معارضة، وأعلن "الخميني" في مطلع أبريل/نيسان من عام 1979، عن تأسيس نظام جديد تحت اسم "الجمهورية الإسلامية"، بمرجعية "ولاية الفقيه".
وقتها، أبعد "الخميني" كلًا من اليساريين والعلمانيين الذين شاركوا رجال الدين الشيعة فى معارضة حكم الشاه. وأصبح من الواضح أن "الجمهورية الإسلامية" لن تسمح بالحريات، ولن تحقق أغلب مطالب المثقفين كما كانوا يأملون، لذلك ظهرت معارضة شديدة لحكم الملالي، أدت إلى صدام مع السلطة.
عارض "الخميني"، بني صدر كثيرًا لتبنيه أفكارًا ديمقراطية، إذ كان "الخميني" وقتها يرى الديمقراطية "فكرة غربية لا يجب الاقتداء بها". واشتد الخلاف بين الرجلين، وعلم "أبو الحسن" أن هناك نية من رجال الدين للتخلص منه، فهرب إلى مكان سري في طهران وهو لا يزال رئيسًا للبلاد.
وبعد أقل من عامين، نُفي أبو الحسن بني صدر إلى الخارج. ولم يمرّ سوى شهرٍ على التصويت لصالح إقامة دولة إسلامية في إيران بنسبة 98%، حتى جاء الأمر بمرسوم من "الخميني" بتشكيل "الحرس الثّوري" لحماية الثورة من أصدقائها قبل أعدائها!
أسقط "الخميني" وأتباعه هذا التحالف الوطني الكبير، من ليبراليين وسنة وشيعة ويساريين وغيرهم، لصالح خطابه الديني. وشكّلت هذه الخطوة، قفزةً عن مقومات وأطراف الثورة، وجلبت المقصلة سريعًا إلى شوارع إيران.
غير أن الشعب الإيراني بتنوع أعراقه وقواه السياسية، قابل قرارات الخميني بالرفض عمومًا، لكن عدم وجود تاريخٍ للديمقراطية ومؤسساتها في طهران، سهّل على الخميني وأنصاره من رجال الحوزات الدينية في إيران، استخدام القمع والقتل ضد رفاقهم من الثوريين القدامى.
ويؤكد المؤرخون، أن الأحزاب اليسارية ومن بينها "حزب توده" الشيوعي، والقوى الشعبية الأخرى المطالبة بالحقوق الاقتصادية والإنسانية، أخطأت بتحالفها مع الخميني ورجال الدين على أساس أنه "عدوٌ للإمبريالية"؛ ذلك أنّ الخميني فيما بعد حظر الحزب ووجه رجاله لإعدام واعتقال عشرات الآلاف من كوادره وأتباعه، وإعدام قادته التاريخيين بعد تعذيبهم وإذلالهم بالظهور على شاشة التلفزيون للاعتراف أنّهم كانوا "عملاء للسوفييت"، وأنّهم ارتكبوا جرائم لا تُغتفر ضد الخميني، بل وضد الإسلام.
إعدام الرفاق القدامى
حين تمكن "الحرس الثوري" ذراع الخميني الباطشة من السيطرة على مقاليد الأمور في البلاد، تم حظر حزب "توده"، شريك الثورة رسميًا، وإرغام كبار قادته الذين ساندوا الخميني في إشعال الثورة على الإدلاء باعترافات كاذبة، وإعدامهم، وطيّ صفحة الحزب تمامًا.
ومثل المصير المأساوي لحزب "توده" العريق، كان مصير "منظمة العمال الثوريين" التي رأت أن ممارسات الخميني رجعية، وكذلك كان مصير "الجبهة الوطنية الديمقراطية"، وهو حزب سياسي يساري ليبرالي تأسس أثناء الثورة وشارك بفاعلية في الإطاحة بالشاه، حيث كانت كوادره من النخبة المثقفة ومن نشطاء حقوق الإنسان، كما قام بتأثير ثقافي لافت بين الشباب خصوصًا، وهذا الحزب كان هو أول من استشعر خط الخميني السياسي، وحذّر منه.
ولم يكتف نظام الملالي بإعدام اليساريين فقط، ففي سبتمبر/أيلول 1982 أُعدم صادق قطب زادة، رميا بالرصاص فى سجن إيفين شمال إيران، بتهمة التآمر على الثورة، وقيادة انقلاب ضد الخميني. وكان قطب زادة مستشار للخمينى ومترجمه الخاص فى منفاه بالعاصمة الفرنسية باريس.
وتم تعيين "زادة" وزير خارجية للحكومة المؤقتة حتى أغسطس/آب 1980 بعد أن عاد مع الخميني، وكان يجلس في الكرسى الملاصق له خلال رحلة العودة إلى طهران على متن طائرة "إير فرانس"، وتولى مسؤولية الإذاعة والتلفزيون، وحصل على عضوية بمجلس الثورة.
وفي عام 1982 أعلن التلفزيون الرسمي الإيراني أن وزير الخارجية السابق متهم بالتآمر للإطاحة بنظام الحكم، وقتل الخميني عن طريق تفجير منزله، وتلقيه مبلغ 40 مليون جنيه من جماعات محسوبة على نظام الشاه، فاعتُقل وحُرم من توكيل محامٍ للدفاع عنه، وصدر حكم بإعدامه رميًا بالرصاص، وأُجبر على الظهور في التلفزيون والاعتراف بتلك التهمة.
وحتى رجال الدين الشيعة الذين اختلفوا مع الخميني في توجهاته السياسية، لاقوا المصير ذاته، ومن بينهم رجل الدين عبد الرضا حجازي الذي كان أحد رموز الثورة، وأُعدم عام 1983. واستمر النظام في سياسات الإعدام التي بلغت ذروتها عام 1988 عندما أعدم نحو 3800 شخص من نشطاء الثورة في السجون، وهي الحادثة التي تقدر بعض المصادر ضحاياها بنحو 30 ألف شخص.
ــــــــــــــــــــــــ
المصادر:
1- من كتاب الدماء المنسية: كيف أكلت الثورة الإيرانية أبناءها اليساريين؟ موقع حفريات، 19 مايو/أيار 2020.
2- إيران 1979: مصير 7 أشخاص رافقوا الخميني في رحلة عودته إلى إيران، موقع بي بي سي، 1 فبراير/شباط 2019.
3- الثورة تأكل الأبناء، موقع الوطن، 11 يونيو/حزيران 2021.
4- هكذا بلع الخميني يسار إيران، موقع المصدر أونلاين، ١٦ أغسطس/آب 2014.
ابق على اطلاع على النشرة الإلكترونية