لتغريب الهوية الأنثوية عن جوهرها... ابتدعوا في أساليب الحرب الناعمة

- 20 يونيو 2025 - 57 قراءة

نحن اليوم نتحدث عن الحرب الناعمة (الخاصة) التي تعود تسميتها إلى تسعينيات القرن المنصرم للعالم الأمريكي جوزيف ناي. لكن يمكننا القول إن هذه الحرب مورست منذ تشكل المعرفة، ومعها ابتكرت أساليب الحرب الناعمة. وخاصة مع بداية تشكل المجتمع الطبقي والسلطة وصولًا إلى النظام الرأسمالي بكل ما يتضمن من مفرزات نيوليبرالية وعولمة وحداثة.

وكانت المرأة بالنسبة إلى صانعي هذه الحرب هي الأداة الاستراتيجية لتي يمكن تحقيق النتائج المرجوة عبرها. لإدراكهم أنه لا يمكن النيل من المجتمع إلا عبر المرأة، لما تشكله من أهمية عظيمة في بناء وتطوير المجتمعات. لذا كان أول ما مورس في حقها هو محاربتها فقط لكونها أنثى.

حيث تعرضت منذ فجر التأريخ إلى يومنا هذا لشتى أنواع العنف والاضطهاد، لتغريبها عن حقيقة هويتها الأنثوية. بداية كان بتشويهها والحط من شأنها لإرضاخها وكسر إرادتها، ومن ثم حتى تتمكن المرأة من نيل القبول المجتمعي، وفرض عليها الامتثال لصور نمطية لصفات ابتدعوا في خلقها التي يجب أن تتحلى بها، والأدوار التي ينبغي القيام بها.

بدءًا من الميثولوجيا التي صورتها على أنها أصل الشرور والخطايا والفساد، وتصويرها على أنها شيطانة على هيئة امرأة. وهناك أمثلة كثيرة مثل ليليت وباندورا وغيرهما من الأساطير التي حيكت حولها.

ومن ثم الفلسفة على أنها صورة مشوهة عن الرجل، وأقل مرتبة منه، وأنها خُلقت لخدمة الرجل وإنجاب الأطفال، وأنها جسد من دون عقل وأحاسيس. مثلًا سقراط مؤسس الفلسفة القديمة الذي أحدث نقلة نوعية في نقل الحضارة الإنسانية وأسهم في تحرير البشرية من وهم الخرافة والأساطير، والذي أعاد تفسير الطبيعة والنفس البشرية على أسس عقلية، فقد كان يرى أن المرأة مثل الشجرة المسمومة التي يكون ظاهرها جميلًا، لكنّ الطيور تموت عندما تأكل منها.

أما تلميذه أفلاطون مؤسس الجمهورية الفاضلة (المثالية)، حيث الديمقراطية والعدالة الاجتماعية على أساس المجتمع الطبقي، لم يجد للمرأة مكانة بين تصنيفاته الثلاثة (الحكماء، الجيش، العبيد). وقال إنها أقرب إلى العبيد. وأن العدالة تتحقق عندما يستسلم ويرضخ كل فرد للعيش ضمن طبقته ووضعيته الاجتماعية. حيث كان يرى أن المرأة أدنى من الرجل في العقل والفضيلة، وكان يأسف أنه ابن امرأة، ويزدري أُمّه لأنها أنثى.

أرسطو مؤسس المنطق حيث التفكير الصحيح، وصاحب مقولات من قبيل "المقدمات الخاطئة لا تؤدي إلى نتائج صحيحة".  لم يجد للمرأة مكانة في قاموسه المنطقي والفكري، لأنه كان يرى بأن المرأة آلة لا يمكنها أن تمارس الفضائل الأخلاقية مثل الرجل، فهي مجرد مخلوق مشوه أنتجته الطبيعة.

هذه النظريات والفلسفات في تفسير شخص المرأة كانت من أكبر الحروب الناعمة، وأشد أساليب العنف والتعذيب النفسي التي مورست بحق المرأة. وكانت المرأة تُحارب فقط لكونها أنثى، أنوثتها سبب مأساتها ومعاناتها ولتتخلص من تلك المعاناة والآلام التي لازمتها منذ ولاتها. وحتى تتمكن من الهروب من حقيقتها وجوهرها الأنثوي وتعيش رحلة اغتراب حقيقية عن طبيعتها، تقمصت الأدوار والصور النمطية التي تم تصديرها لها عبر الميثولوجيا والفلسفة ومن بعد ذلك الأديان... ولا ننسى من التفاسير المغالطة بأنها سبب خروج آدم من الجنة وأنها نجسة لا يأكل من يدها وهي في الحيض وأنها قاصر، وخلقت من ضلع الرجل، وغيرها استكمالًا لما قدمته الأساطير والفلسفات من الصور النمطية. ضمن تلك السياقات المفروضة على المرأة وبالرغم من خضوعها لها لنيل بعض من القبول الاجتماعي وحتى تتمكن من التأقلم الاجتماعي، لكنها لم تسلم من العنف واتهامها بأنوثتها كأنه جرم. أمام هذه الضغوطات والحرب النفسية لم تسكت المرأة. لذا وجدنا بين الفينة والأخرى ظهور أسماء سيدات ثُرنَ على تلك المفاهيم والأفكار والصور النمطية. لكون الإنسان بطبيعته وفطرته حر. لذا مهما طال زمن الفرض والاستعباد لابد من الرفض والثوران.

بالرغم من جعل الأدوار التقليدية المفروضة على كلا الجنسين في المجتمع، فكانت توكل للمرأة فقط الأعمال الجسدية أما الرجل فكانت الفكرية من نصيبه... على الرغم من ذلك ظهر أمثال الفيلسوفة هيباتيا، هذه السيدة التي نالت بعض الفرص لكونها من طبقة أرستقراطية، وابنة فيلسوف كان لديها فرصة للتعلم، ليس لكونها أنثى إنما لتشرف على تعليم أبنائها في حال غياب الأب، لكون المهن كان تتوارث من الآباء للأبناء الذكور. هذه الفيلسوفة نهلت من فكر أفلاطون وأرسطو وغيرهما من الفلاسفة، لكنها ثارت على أفكارهم وبرعت في الرياضيات. فكرها أرعب الكنيسة فانتقموا منها شرَّ انتقام، لأنهم وجدوا فيها خطرًا على المجتمع، وخطورتها كانت تكمن في إزالة الستار وكشف الحقيقة وإنارة العقول.

النظرة الدونية حيال المرأة ظلت سائدة في العصور الوسطى حيث وصفها القديس توما الأكويني (1224-1274)، وهو عالم مسيحي، مشيرًا إلى أن النساء؛ "غير قادرات، من الناحية العقلية، على تولي منصب السلطة".

وبالرغم من النجاحات التي حققتها المرأة في العديد من المجالات العلمية في العصر التنويري، والتي كانت حكرًا على الرجل، إلا أن النظرة الدونية لها وإقصائها من الحياة العلمية والاجتماعية ظلا مستمرين حتى في القرن الثامن عشر، حيث عمل بعض من المفكرين والفلاسفة على تقديس الثقافة البطرياركية الأبوية السلطوية وحاكميتها على المرأة أمثال جان جاك روسو (ولد في جنيف 1712 – 1778) وهو صاحب كتاب "العقد الاجتماعي" وكتاب "في التربية: إميل نموذجًا". لم يجد للمرأة مكانًا لا في الشأن العام حيث تنظيم العلاقة بين الشعب والسلطة، ولا في التربية لأنها مجرد مربية تلقن أبناءها الثقافة الذكورية الأبوية. ويكرس الفصل الكلي بين العمل الفكري للذكور والمنزلي (الجسدي) للمرأة.  حيث كان يرى أنّ دور المرأة مقصور على الأمومة وخدمة الزوج. لأنه كان يخشى من تعرض الرجال للاضطهاد من قبل النساء. لكون الرجال سيكونون ضحايا بسبب السهولة التي تثير بها النساء حواس وغرائز الرجال.

والمرأة المثالية ورمز الأنوثة هي التي يحكمها زوجها، الرجل المثالي يكون سيد نفسه. حينها ستكون العائلة مثالية وتتحلى بالقيم الأخلاقية وفق منظوره.

والبحث عن الآليات التي تكرس النظرة الدونية للمرأة مستمرة وقد كانت إحدى هذه الآليات الأعراف والمعايير المجتمعية وكذلك القوانين سواء الوضعية منها أو المستندة إلى الشرائع الدينية. وأحيانًا كانت المرأة تقع ضحية الإثنين معًا. مثلًا عندما تعتمد منظومة حاكمة لشرائع ديانة محددة تفرض على أصحاب الديانات والمعتقدات الأخرى لجوأها إلى التحكيم في الخلافات خارج محاكم الدولة إلى التحكيم الذي يتم وفق المعتقد أو العرف الاجتماعي، وفي كلتا الحالتين كانت المرأة ضحية ما بين فكي كماشة القانون أو/والتشريع والموروث الثقافي من الأعراف والتقاليد. وهذه الحالة مازالت سارية في العديد من الدول حول العالم.

وخلصت بعض دراسات ووثائق القرن التاسع عاشر إلى أن الذكور أكثر تفوقًا من النساء ووجدوا بناء على ذلك أنه يتناسب مع قدرات النساء من الذكاء والمعرفة العمل المنزلي. أمثال توماس جيسبورن في عام 1801، قال إن النساء يتناسبن بشكل طبيعي مع العمل المنزلي وليس المجالات الملائمة للرجال مثل السياسة أو العلم أو الأعمال التجارية. عام 1875، قال هربرت سبنسر إن النساء غير قادرات على التفكير المجرد ولا يستطعن فهم قضايا العدالة. في عام 1925 ذكر سيغموند فرويد أيضًا أن النساء أقل تطورًا أخلاقيًا في مفهوم العدالة، وعلى عكس الرجال، كنّ أكثر تأثرًا بالشعور من التفكير العقلاني.

الكثيرون بنوا نظريتهم بناء على دراسات الدماغ الأولية التي قارنت الكتلة والحجم بين الجنسين، ووجدت أن النساء كنّ أدنى من الناحية الفكرية، لأنه لديهنّ أدمغة أصغر وأخف وزنًا. ويعتقد الكثيرون أن الفرق في الحجم يجعل النساء أكثر إثارة وعاطفية وحساسية، وبالتالي غير مناسبات للمشاركة في مجال السياسية. بالرغم من إثبات العديد من النظريات عدم صحة هذه الفرضية إلا أنها مازال الكثيرون يأخذون بها.

ومع تطور الصناعة ومن ثم العلم والتكنولوجيا والطفرة في عالم الفضاء والرقمنة والذكاء الاصطناعي والعولمة والتطور المعرفي والنجاحات التي حققتها المرأة في كسر الصورة النمطية، وأيضًا ضرورة خروج المرأة للعمل ليس إيمانًا من حقها في العمل إنما لحاجة السوق إلى ذلك، لم يكفوا عن تطوير الأفكار التي تكرس الصور النمطية للمرأة، لكن هذه المرة بأشكال أكثر عصرانية واستهلاكية، وتصديرها لنماذج الجمال والموضة والشكليات وتسليع المرأة وتشييئها أكثر مما هي عليه. مع تطور عالم الموضة والعمليات ومساحيق التجميل نكاد نشاهد النساء كأنهنّ نسخ مستنسخة شكليًا لنيل القبول الاجتماعي وعدم الامتثال لتلك المعايير تصنف في خانة التخلف وخارج المدنية والحضارة.

لاحظوا الكم الهائل من الحروب الناعمة الخاصة التي تشن على النساء، التي جعلت جميع اهتماماتها وتفكيرها بالشكليات فقط والبعيدة عن المعرفة والفكر. اليوم نحن نعيش نموذج المجتمع التافه الخالي من المعنى والهدف. نشاهد بشكل يومي ألوف المحتويات على وسائل التواصل الاجتماعي والبرامج التلفزيونية والإعلامية المحتويات التي بلا معنى وهدف. وحتى النتاجات الفكرية في الكثير من الأحيان تكون سطحية وتستند إلى الدعاية والترويج، لجمع اللايكات والمشاركات، والتي تستهدف بالدرجة الأولى القيم المجتمعية وذاكرة الشعوب والأمم من جهة، ومن جهة أخرى تكريس عبودية الإنسان. وتم تحويل الانسان إلى روبوت لا همَّ له سوى أن يلهث وراء كل ما هو جديد.

وبالرغم من النجاحات العظيمة التي حققتها المرأة على كافة الأصعدة والتي تفوقت فيها وقدمت نماذج يحتذى بها، إلا أنها مازالت تواجه وجهًا لوجه القيم المجتمعية التقليدية المتوارثة والنيوليبرالية التي تحط من شأنها. وحتى الدول التي تصنف على أنها ديمقراطية وتطالب العديد من المجتمعات الاحتذاء بها، لم تتخلص من نظرتها الدونية للمرأة. أمريكا على سبيل المثال التي كانت من الدول السباقة التي سمحت للمرأة بالتصويت والترشح منذ 1920، لم تتمكن المرأة فيها إلى اليوم من الوصول إلى قيادة الدولة لكونها غير مؤهلة، وعلينا ألا ننسى أن أمريكا دولة تأسست في الأصل على الطبقية.

لذا، ولتفكيك تلك الحرب التي استنزفت قوى المرأة وكرست استبعادها واستعبادها إلى يومنا هذا بأشكال مختلفة وصدرتها ضمن صور نمطية على أنها الحالة الطبيعية. نحن اليوم بأمس الحاجة إلى علم المرأة لإعادة النظر بتاريخ المرأة والتحولات التي اعترت مسيرتها التاريخية وصولًا إلى يومنا هذا. عبر تسليط الضوء على الأسباب التي جعلت من المرأة أن تكون وقودًا لهذه الحرب العبثية وأداتها الاستراتيجية ونشر العنف بكافة أشكاله.

 

ممثلة مكتب سوريا الديمقراطية في القاهرة

النشرة الإخبارية

اشترك في النشرة الإخبارية

ابق على اطلاع على النشرة الإلكترونية

معلوماتك فى امان معنا! إلغاء الاشتراك في أي وقت.