ما يزال الملف النووي الإيراني، عالقاً منذ أن ألغى ترامب الاتفاق السابق، ولم تثمر سنوات من الجهود التفاوضية بين الأطراف المعنية، في إعادة صياغة اتفاق جديد، أو العودة إلى الاتفاق السابق. وهنا تبرز كثير من المتغيرات السابقة التي تمّ تحديثها، ومن ثمّ ربطها بالملف النووي الإيراني، منها على سبيل المثال: ملف الصواريخ الإيرانية، والتدخلات الإيرانية في الشرق الأوسط، وملف حقوق الإنسان وإن كان بدرجات أدنى بكثير من سواها، فهو ليس مطلباً أمريكياً ملحّاً، في حال التوصل إلى تسوية.
في المقابل، فإنّ الولايات المتحدة بشكل خاص، بغض النظر عن ميول حلفائها (نحو إيران أو ضدها)، تتطلّع إلى منع انضمام إيران إلى نادي القوى النووية، لما في ذلك، من تغيير في معادلات القوة شرق الأوسطية، ومنها العالمية. ولا نعني هنا أنّ إيران ستصبح تهديداً نووياً لكامل الإقليم، بل ستعيق ترتيبات الردع القائمة حالياً، وقد تدفع دولاً أخرى نحو معضلة أمنية، وسباق تسلح نووي.
ما نقصده بأنّ إيران لن تستخدم قوتها النووية المفترضة، تجاه الإقليم، هو افتراض على ما سبق، أي أنّ القوى النووية كانت رشيدة حتى الآن (حتى كوريا الشمالية)، بحيث لم تلجأ إلى استخدام السلاح النووي ضد خصومها، وإنما اكتفت به تهديداً وردعاً، وتثقيلاً لمكانتها في سلم القوى العالمية. لكن هذا الافتراض قائم على الرشادة في اتخاذ القرارات الخارجية، وهنا سيقع كثير من الشك في رشادة صناع القرار في طهران، وهم من قاد دولاً في الشرق الأوسط إلى الخراب الكلي.
وحتى الآن، يضحي قادة إيران باقتصاد بلادهم، ومستقبله، وبناه التحتية، وما تبقى من دعم شعبي، من أجل الوصول إلى صيغة تفاوضية مع الغرب، تحفظ لإيران قوتها. وهنا نعتقد أنّ هذا التوجه ليس خاصاً بنظام الملالي وحده، وإنما هو رغبة قومية إيرانية، بغض النظر عن طبيعة النظام وتوجهاته، وهو بالأساس مطلب أساسي لكل دولة ترغب في التحوّل نحو القوى العالمية، وفي تغيير موازين القوى الإقليمية. وخصوصاً أنّ إيران محاطة بعدة قوى نووية (باكستان، الهند، روسيا، إسرائيل)، ولا يمكن لها أن تنافسها على المستوى الإقليمي إلا في حال تغيير معادلات القوة، هذا عدا عن قوى مرشحة لتصبح نووية في المستقبل، في حال امتلكت إيران السلاح النووي، ونعني هنا كلاً من مصر والسعودية وتركيا.
عدا عن أن سعي إيران للتسلح النووي، وبغض النظر عن قيوده المحلية أو الدولية، أو عن ادعاء النظام الإيراني بحرمانيته، فنحن لا يجوز لنا هنا أن نثق بتصريحات القادة الإيرانيين، ولا بنواياهم المستقبلية. عدا عن ذلك، هناك مثال تستند إليه القوى الصاعدة، والراغبة في الحصول على سلاح نووي، وهو مثال أوكرانيا، حيث قامت بالتنازل عن سلاحها النووي الموروث من الاتحاد السوفييتي، في مقابل ضمانات أمنية غربية وروسية لأمن أوكرانيا وسلامتها، ثمّ تمّ نقض تلك الضمانات، أولاً باقتطاع القرم ودعم الانفصاليين في شرقها، ثمّ في جعل الأمة الأوكرانية بأسرها تحت خطر الإلغاء الروسي.
لذا، لن تثق كثير من القوى الصاعدة، بالضمانات الأمنية التي يمكن أن يقدها لها المجتمع الدولي، وهي تدرك تماماً، أنّها وحدها المسؤولة عن ضمان أمنها، في عالم من الفوضى الدولية. وتدرك أيضاً أن السلاح النووي اليوم، هو أساس الردع الواسع، والضامن لأمن الدولة.
لكن في ظلّ هذه المتغيرات، لا يمكن لنا أن نتغاضى عن متغير بالغ الأهمية، وهو حرص القوى النووية على عدم الحصول على جار نووي جديد، ففي ذلك كما ذكرنا تعطيلاً لميزان القوى الإقليمي. الموضوع هنا لا يتعلق بإسرائيل وحدها، فلا روسيا ولا باقي الدول أيضاً، قد تقبل بأن ترى جاراً نووياً جديداً (إيران)، وخصوصاً أن هناك تشابكاً مصلحياً بين تلك القوى وإيران، على امتداد آسيا، والغلبة فيه لأصحاب القوة النووية. وبالتالي، في حال امتلكت إيران القوة النووية العسكرية، فإنها ستطالب حتماً بإعادة توزيع حصص المصالح في آسيا (شرق المتوسط، قزوين، وسط آسيا، وربما أبعد من ذلك).
وهذا أمر مفروغ منه، فإيران تطمح لأن تصبح قوة إقليمية كبرى، لتعزيز مصالحها المستقبلية، وهذا ما يدفع قادة إيران إلى التضحية باقتصاد البلاد وحاضره رغبة في المصالح المستقبلية، وهنا يمكن أن يقال إن النظام رشيد في سياساته، أو يفتقد إلى الرشادة، حسب منهج التحليل الذي سيتم استخدامه.
أما محاولات التصعيد المستمرة من قبل إسرائيل تحديداً، ومن قبل الولايات المتحدة بشكل أقل حدة، بخصوص احتمال استخدام القوة العسكرية عبر شن حرب على إيران، فما نزال نعتقد أنه من باب التهديد والضغط على النظام الإيراني، وأنه منذ أن انخفضت قيمة الحرب في العلاقات الدولية (آخر حرب فعلية كانت 2003)، لم يعد مطروحاً استخدام القوة المسلحة بين الدول. ذلك لا يعني أن الحروب قد انتهت، لكنها في ظل الترتيبات الدولية القائمة حالياً، تبقى مجمدة. وأي استدعاء للحروب الدولية، يعني تغيراً في الترتيبات الدولية.
ونبني على ذلك، ما يشهده النظام الدولي على مستوى قمته، أو القطبية، من انتقال تدريجي من القطبية الأحادية المرنة، إلى مراحل قد تكون تمهيداً لتعددية قطبية، وإن كان هناك متسع من الوقت قبل ذلك. فكثير من الأكاديميين الأمريكيين يعتقدون أننا ولجنا حرباً باردة جديدة منذ عام 2019 على الأقل، قطباها هما الولايات المتحدة والصين، وأنه من غير المعلوم مدى انتشار هذه الحرب، وأسلحتها، ورقعتها، ونتائجها، لكنهم يجمعون على أنها أكثر سوءاً من سابقتها.
ليست الصين وحدها من يلج هذه القطبية، بل نلاحظ أن هناك تصاعداً في مكانة روسيا الدولية أيضاً، وبالتالي، في شكل القطبية الدولية. ربما هناك شكل جديد غير معهود من النظام الدولي سنكون شهداء عليه في السنوات القليلة القادمة، غير ما كان معتاداً من أحادية أو ثنائية أو تعددية أقطاب. لكن تغييرات حقيقية قد انطلقت منذ عدة سنوات، وهي بالغة الأهمية في مسألة النووي الإيرانية والقوة الإيرانية.
في حالة التعددية (القطبية أو أي شكل آخر)، فإن آليات التفاوض في البيئة الدولية ستشهد تغييراً، لناحية اشتغال بعض القوى الدولية على اكتساب حلفاء، أو دعم أطراف في مواجهة خصومها، أو خلخلة الميزان الدولي، بهدف تعزيز صعودها، وهنا نعتقد أن إيران تحاول الاستفادة من هذا المتغير الجديد أيضاً.
كثيرة هي المتغيرات التي يمكن أن نضيفها إلى ملف القوة الإيرانية، وليس فقط إلى ملفها النووي، وهنا يمكن أن نقترح البناء على أسوء السيناريوهات، وهو سيناريو امتلاك إيران للسلاح النووي، سواء نتيجة المتغيرات الدولية، أو نتيجة إخفاق الضبط الأمريكي لإيران. وعليه، سيكون لإيران مطالب جديدة فيما تعتبره فراغاً استراتيجياً (العالم العربي)، تسعى لاستغلاله مع منافسيها، بناء على ما اكتسبته من قوة جديدة. أي إن تنسيق المصالح القائم بين روسيا وتركيا وإيران، كل حسب قوته ونفوذه، في منطقة شرق المتوسط (العالم العربي)، قد يشهد تغييراً جديداً لصالح إيران.
لذا نعتقد أنه من الضروري تسريع ملف امتلاك دولة عربية أو أكثر لسلاح نووي (السعودية ومصر تحديداً)، في ظل الفوضى الإقليمية والتغيرات الدولية، بما يضمن ردع إيران عن مزيد من الاجتياح غير المباشر للعالم العربي. وهنا نرجح النظرية التي ترى أن السلاح النووي هو مدعاة السلام الحقيقية، وأنه يخلق توازناً حقيقياً بين القوى المتنافسة، ويمنعها من الاعتداء على مصالح بعضها البعض. ولا نرجح النظرية الداعية إلى جعل الشرق الأوسط منطقة خالية من السلاح النووي، فلن يكون أبداً كذلك.
* باحث وأكاديمي سوري
ابق على اطلاع على النشرة الإلكترونية