وقائع «الحرب الاستخباراتية» بين الرباط وطهران

- 27 سبتمبر 2023 - 277 قراءة

إيران نزلت بثقلها المالي والديني في دول غرب إفريقيا لجعلها "حديقة خلفية" للتوغل في القارة السمراء

 

الحرب الاستخباراتية الباردة ظاهرها كسب النفوذ السياسي والاقتصادي... وباطنها الصراع بين المذاهب

 

 

باتت بلدان غرب إفريقيا المسلمة خلال الأعوام الأخيرة مسرحًا لحرب استخباراتية باردة، بين المغرب وبين إيران، ظاهرها كسب النفوذ السياسي والاقتصادي، وباطنها الحرب الدينية بين المذاهب، حيث دافع المغرب عن امتداده التاريخي والروحي في هذه البلدان، معتبرًا إياها عمقه الاستراتيجي الذي يجب أن يحافظ على النموذج السني الصوفي، في حين تعمل إيران لاستثمار المهاجرين اللبنانيين من خلال "حزب الله" بهدف بناء شبكة نفوذ ديني، يكون ولاء المنتسبين إليها للمرشد الإيراني علي خامنئي.

وفي مطلع مايو/آيار 2018 قرر المغرب رسميًا قطع علاقاته الدبلوماسية مع إيران، إذ طلب من سفيرها مغادرة الرباط، واستدعى سفيره من طهران، في خطوة كانت كلمة السر فيها هي "الصحراء المغربية"، حيث أعلن وزير الشؤون الخارجية ناصر بوريطة حينها أن نظام الملالي يقدم دعمًا ماليًا ولوجيستيًا لجبهة البوليساريو الانفصالية، عن طريق "حزب الله" اللبناني الذي يوفر أيضًا تدريبات عسكرية للانفصاليين.

غير أن هذه الأزمة لم تكن الوحيدة في تاريخ العلاقات بين البلدين، اللذين دخلا في أعقاب "الثورة الإيرانية" سنة 1979 صراعًا مُعلنًا، تغذيه محاولات إيران بسط نفوذها الاقتصادي والسياسي على منطقة غرب إفريقيا من مدخل نشر المذهب الشيعي، مقابل محاولات المملكة صد الاختراقات الإيرانية المتنامية في القارة السمراء وحماية النموذج السني الصوفي الذي تدافع على بقائه منذ قرون.

هذا الصراع ظهر بشكل أكثر وضوحًا منذ 2009 حين أعلن المغرب عن قطع علاقاته مع إيران، مركزًا حينها على 3 أمور رئيسية، الأول يتعلق بالتهديدات الصادرة عن مسؤولين إيرانيين تجاه البحرين والتي اعتُبرت "ماسة" بسيادتها، والثاني هو دعم إيران لانفصاليي البوليساريو، أما الثالث فهو دور السفارة الإيرانية بالرباط في نشر المذهب الشيعي بالمملكة، أو ما سمي حينها "استهداف الأمن الروحي للمغاربة" وفق التعبير الرسمي.

لكن الصراع حول النموذج الديني بين البلدين لم يبق محصورًا داخل حدود المغرب، بل إن صداه تردد خارجه، إلى المحيط القاري للمملكة، وتشعب في منطقة غرب إفريقيا، حيث الامتداد الديني والروحي والسياسي والاقتصادي للمملكة، خاصة مع تمكن إيران وحزب الله من التغلغل بقوة في نيجيريا، البلد الأكبر من حيث عدد السكان في القارة، هناك حيث تشير بعض التقارير إلى أن 7 ملايين نسمة من مسلمي هذه الدولة البالغ مجموعهم حوالي 90 مليونًا، صاروا يعتنقون المذهب الشيعي.

"حزب الله" النيجيري

حاول المغرب تفادي قيام نموذج آخر شبيه بحركة الداعية الشيعي النيجيري إبراهيم يعقوب زكزاكي، المعروفة بـ "حزب الله النيجيري"، وهي الحركة التي استفاد مؤسسها من دعم إيراني منذ 1979 ومن حضور قوي للآلاف من الشيعة اللبنانيين في نيجيريا، بالإضافة إلى استفادته من صراع الدولة مع جماعة "بوكو حرام" السلفية السنية المتطرفة، في ظل خلو البلاد من قوة دينية سنية مُعتدلة توازن قوة زكزاكي الذي حظي بإشادة علنية من حسن نصر الله زعيم ميليشيات حزب الله.

وبدت رغبة المغرب في عدم تكرار هذه التجربة في دول أخرى بالمنطقة واضحة، خاصة في الدول الفرنكوفونية التي تربطها مع المملكة علاقات اقتصادية وسياسية واجتماعية وطيدة، والتي تضم الآلاف من أفراد الجالية المغربية في القارة السمراء، مثل السنغال التي قال "المجمع العالمي لأهل البيت" إنها تضم نصف مليون شيعي، والكوت ديفوار التي أقامت فيها الجالية اللبنانية الشيعية إحدى أقدم جمعياتها الثقافية سنة 1977.

بدا التوجه المغربي واضحًا منذ عام 2015، من خلال إنشاء "مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة"، التي نص بيان تأسيسها على أنها ستعمل من أجل "المحافظة على وحدة الدين الإسلامي وصد التيارات الفكرية والعقدية المتطرفة"، بالإضافة إلى "حماية العقيدة الإسلامية والوحدة الروحية للشعوب الإفريقية من كل النزاعات والتيارات والأفكار التضليلية التي تمس بقدسية الإسلام ومقاصده"، قبل أن يفتح "معهد محمد السادس لتكوين الأئمة المرشدين والمرشدات" أبوابه لتدريب المئات من الطلبة الأفارقة على النموذج الديني المغربي الملكي المرتكز على العقيدة السنية الأشعرية.

وهناك عوامل كثيرة تدفع المغرب إلى النظر بعين الريبة والحيطة والحذر من مخططات إيران داخل القارة الإفريقية؛ ليس فقط بسبب العلاقات الدبلوماسية المقطوعة بين الرباط وطهران منذ سنوات، واتهام المغرب لإيران بدعم جبهة البوليساريو الانفصالية، ولكن أيضًا بالنظر إلى محاولات حثيثة لإيران في نشر التشيُّع؛ لا سيما في منطقة غرب إفريقيا.

ولم يُخف المغرب توجسه من الأطماع الإيرانية في الغرب الإفريقي عبر نشر المذهب الشيعي؛ وهو ما جعله يطرح في أكثر من مرة موضوع توطيد "الأمن الروحي" للقارة الإفريقية، كإحدى الأولويات التي تروم التصدي لأطماع طهران في القارة السمراء؛ خصوصًا أن المغرب شيد في إفريقيا خزانًا روحيًا كبيرًا عبر ترويج نموذجه الديني القائم على الاعتدال والتصوف.

الحرب الاستخباراتية المغربية- الإيرانية الدائرة في منطقة غرب إفريقيا لم تقتصر على الجانب المذهبي فحسب، بل امتدت إلى مجالات أخرى في مقدمتها المجال الاقتصادي، ففي الوقت الذي أصبحت فيه المملكة توجه الكثير من استثماراتها نحو الدول الإفريقية، وجدت حضورًا ماليًا وسياسيًا قويًا لشيعة لبنان الذي يوالي عدد كبير منهم "حزب الله" وتُمثل استثماراتهم "غطاء" لتوفير الدعم له وفق ما كشفت عنه تقارير أمريكية.

مخططات الاستخبارات الإيرانية

تشتغل الاستخبارات الإيرانية بشكل كبير على دعم قنواتها المالية في غرب إفريقيا، من خلال التجار اللبنانيين الشيعة المستثمرين في هذه البلدان، خصوصًا في السنغال والكوت ديفوار والجابون.

وبتواجد المئات من رجال الأعمال من أصول لبنانية في بلدان غرب إفريقيا، مهد ذلك لـ "حزب الله" اللبناني، وبدعم مالي من إيران بِناء شبكة وقاعدة خلفية لتابعيه في هذه البلدان التي يتواجد فيها المغرب بقوة من حيث الحضور الديني عبر الزوايا، أو من خلال الاستثمارات الضخمة التي يقوم بها في هذه البلدان، وكذا لقوة جاليته الحاضرة في دول السنغال والكوت ديفوار والغابون.

كل هذه المعطيات، أفرزت شبكة من العلاقات الاجتماعية المعقدة بعد بروز العديد من حالات الزواج المختلط بين اللبنانيين من المذهب الشيعي ومن المغربيات العاملات في هذه البلدان، وأغلبهن من المذهب المالكي على مذهب بلدهم المغرب.

وإن كانت علاقات الزواج المختلط بين المغربيات واللبنانيين قد أفرزتها الهجرة إلى هذه البلدان الإفريقية، فنتائج هذه الزيجات بدأت تقلق المغرب لاعتماد الأزواج اللبنانيين على تربية أبنائهم من المغربيات على المذهب الشيعي، وإدخال أغلب زوجاتهم لهذا المذهب، وهو ما يجعلهم قاعدة خلفية لنشر التشيّع بين الجالية المغربية في بلدان غرب إفريقيا، وكذا امتداده إلى المغرب عبر العلاقات العائلية والاجتماعية، وهو ما جعل الاستخبارات المغربية تحذر من هذا التغيير المذهبي للمغاربة من الجالية في هذه البلدان، التي أصبحت إيران تلعب فيها دورًا كبيرًا، ونزلت بثقلها المالي والديني، لجعلها "حديقة خلفية" لها للتوغل في إفريقيا، وخصوصًا في منطقة الساحل، حيث البلدان هشة أمنيًا واجتماعيًا.

ويؤكد الدكتور أحمد موسى، الباحث في الشأن الإيراني، أن المتتبع لأنشطة إيران في القارة السمراء يجد آثار هذه المخططات ماثلة للعيان في الكثير من دول القارة؛ حيث استغلت إيران الهشاشة وسوء الأوضاع الاقتصادية بهذه البلدان لكي تُبرم معها اتفاقيات ظاهرها اقتصادي وتجاري وإنساني؛ لكنها في العمق نشرٌ للتشيُّع وترويجٌ له تمهيدًا لتحقيق الأهداف المعلنة، فشرعت في إرسال الوفود السياسية والثقافية والمذهبية إلى هذه القارة واستقبال وفود هذه الأخيرة على أرضها؛ لتعبئتهم وإعدادهم لنشر المذهب الشيعي بين بني جلدتهم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

المصادر:

1- المغرب وإيران.. حرب استخباراتية باردة ساحتها إفريقيا والدين ووقودها حزب الله والبوليساريو، موقع الصحيفة، 26 ديسمبر/كانون الأول 2021.

2- حكومات تتغير وأهداف ثابتة.. ما وراء استراتيجية إيران في إفريقيا، موقع مركز فاروس، 22 فبراير/شباط 2022.

3- المغرب يواجه خطط إيران لنشر التشيع في الغرب الإفريقي، موقع كيو بوست، 18 يوليو/تموز 2022.

النشرة الإخبارية

اشترك في النشرة الإخبارية

ابق على اطلاع على النشرة الإلكترونية

معلوماتك فى امان معنا! إلغاء الاشتراك في أي وقت.