يثير شهر فبراير لدى الإيرانيين مشاعر متناقضة تجاه حدثين مفصليين في تاريخ بلادهم، الحدث الأول انقلاب عسكري قام به رضا بهلوي، الذي يعود إلى يوم 22 فبراير 1921م، وأتى بقادة المؤسسة العسكرية إلى الحكم، والحدث الآخر ثورة شعبية بزعامة موسوي خميني، يوم 11 فبراير 1979م، دفعت بفقهاء المؤسسة الدينية إلى قمة السلطة.
صحيح أنه لم يجمع المؤسستين أي اتفاق أو توافق على مدى القرن العشرين، إلا أن كليهما كان يبحث عن حل لوضع إيران المتأزم، الذي لم يعجب أيا منهما. فرأت المؤسسة العسكرية أن الحل يكمن في استدعاء عظمة التاريخ ومفاخره الآرية؛ لبناء أمة قوية تتمتع بمكانة محترمة بين الأمم المتقدمة، بينما رأت المؤسسة الدينية أنه يكمن في العودة إلى الحاضنة المذهبية لبناء أمة مركزية ذات ولاية دينية وسياسية، واستدراج الجماهير الغاضبة للإطاحة بالنظام البهلوي وإقامة جمهورية إسلامية.
ولكن مع مرور الوقت أصبحت هذه الثورة، التي دفعت الفقهاء إلى حكم بلد عريق مثل إيران، تثير في الوعي الجمعي مشاعر عميقة من الندم على الإطاحة بنظام حقق للإيرانيين ما لم تستطع الجمهورية تحقيقه، وهو الأمر الذي يرجح أن تسترد إيران ذاتها يوما ما، وتستعيد هويتها الوطنية في المستقبل، الذي لن يكون لفقهاء المؤسسة الدينية أي دور سياسي فيه.
وقع هذا الانقلاب، فجر يوم 22 فبراير 1921م، ليُحدث تحولا كبيرا في إيران، خاصة أنه جاء من حيث التوقيت، بعد مضى أربع سنوات تقريبا على قيام الثورة البلشفية في روسيا القيصرية، والتي تركت بدورها تأثيرات عدة على دول القارة الآسيوية، ومنها إيران. إذ امتد هذا التأثير البلشفي على أقاليم إيران الشمالية المتاخمة لجنوب روسيا، فأعلن أحد طلاب العلوم الدينية، يدعى ميرزا كوچک خان قيام "جمهورية اشتراكية" بمحافظة جيلان 1920م، كما أعلن الشيخ محمد خيابانى قيام جمهورية مماثلة بمحافظة أذربيجان.
والحقيقة أن هذا الامتداد الثوري القادم من روسيا السوفييتية كان يمثل في مجمله مصدر قلق لبريطانيا؛ نظرا لإيمانها أنه إذا احتل السوفييت شمال إيران، فسوف يتسللون تلقائيا إلى جنوبها أيضا؛ مما يعرض مصالحها النفطية بخوزستان للخطر، وعلى رأسها شركة النفط الأنجلوـ فارسية، التي كانت تمثل أهم مصدر لمد البحرية البريطانية بالطاقة. ومن ثم، باتت بحاجة إلى حاكم يضمن لها مصالحها السياسية والعسكرية في إيران، فضلا عن أن يكون قادراً على حماية حدودها المتاخمة للهند.
وبناء عليه، اتخذت عددا من الإجراءات في هذ الشأن، فألغت الاتفاقية التي فرضها اللورد كيرزون على إيران عام 1919م، خاصة أنها نالت من سمعتها لدى الشعب الإيراني، وعهدت إلى الجنرال إدموند أيرونسايد قائد القوات البريطانية بالعراق لاتخاذ الترتيبات اللازمة، فعين رضا بهلوي قائدا للواء القوزاق بمحافظة قزوين، وقدم البنك الإمبراطورى الفارسى، الأداة الأكثر أهمية لهيمنة رأس المال البريطاني على إيران في ذلك الوقت، الدعم المالي المطلوب لتعزيز قوة القوزاق.
وتمهيدا لإنشاء حكومة إيرانية مركزية، قادرة على حماية المصالح البريطانية بإيران، تم ترشيح صحفي يدعى ضياء الدين طباطبائى ليكون بمثابة المكون المدني المشارك لرضا بهلوي في القيام بأول انقلاب عسكري في تاريخ إيران الحديث والمعاصر.
وبالفعل، نجح قائد الانقلاب رضا بهلوى فى القضاء على حركات التمرد العرقي وفرض سيادة الدولة على جميع أنحاء البلاد، في غضون أربع سنوات؛ الأمر الذي أثار إعجاب الجميع، فرسم له البريطانيون، خلال هذه المدة، صورة ذهنية تماثل صورة بسمارك ونادر شاه أفشار، وراح الشعراء الإيرانيون ينظمون في مديحه القصائد، فتغنى باسمه الشاعر والملحن عارف قزويني. بينما لعب أساطين الثقافة من أمثال علي أكبر داور وعلي دشتي دورا في تهيئة الرأي العام لتقبل هذا المستبد المستنير ملكا جديدا للبلاد، كما أسهمت صحف مثل شفق سرخ في إثارة مخاوف القراء من أنه لو فرطوا في رجل كهذا، فسوف يبتلع الشيوعيون وطنهم، وعندها لن ينعموا بنظام أو أمن أو حتى دين.
وعلى هذا، تولى رضا بهلوي العرش بجدارة في أجواء احتفالية أواخر عام 1925م، ولم لا فقد كان رجلا وطنيا عالي الهمة، قضى عمره في بناء إيران الحديثة حتى يوم 25 أغسطس 1941م، الذي أجبرته القوات البريطانية والروسية على التنازل عن العرش لولي عهده محمد رضا، ونفيه إلى جوهانسبرج حتى قضى نحبه، يوم 26 يوليو 1944م، وتم نقله إلى القاهرة ليدفن بمسجد الرفاعي، الذي دفن فيه ابنه بعد ذلك عام 1980م. ولا تزال الشواهد على انجازات رضا بهلوي في جميع المجالات خالدة في الوعي الجمعي الإيراني وتثير لديهم الحنين، الممزوج باللوعة، لعهد الوطنية والفداء لإيران.
انطلقت هذه الثورة، منتصف عام 1977م، وانتصرت يوم 11 فبراير عام 1979م، في بيئة دولية غير مستقرة، فقد كانت حدود إيران الشرقية تشهد أحداثا متزامنة ذات مغزى عميق تعزز من فرضية العلاقة بين الثورة الإسلامية والبيئة المتغيرة بمحيطها الجغرافي. ومن بين هذه الأحداث وقوع انقلاب عسكري في باكستان، يوم 5يوليو 1977م، بزعامة الجنرال محمد ضياء الحق؛ أطاح فيه بـ ذو الفقار على بوتو. تلاه أيضا وقوع انقلاب آخر في أفغانستان، يوم 27 أبريل 1978م بزعامة نور محمد تراقي، الذي أطاح فيه بالرئيس محمد داود بطريقة كشفت نوايا الاتحاد السوفييتي للسيطرة على أفغانستان، خاصة أن معاهدة الصداقة والتعاون التي وقعها البلدان آنئذ أجازت للقوات السوفييتية دخول أفغانستان في حال طلبت ذلك.
وفي المقابل، عندما غزت القوات السوفييتية أفغانستان، في 27 ديسمبر 1979م، منح محمد ضياء بدوره الولايات المتحدة حق استخدام الأراضي الباكستانية، مركزا لنقل إمدادات الأسلحة والمعدات اللازمة لجهاد القوات السوفييتية الغازية.
بينما كان العراق الواقع على حدود إيران الغربية، يشهد تحولات ملفتة للغاية من حيث التوقيت، تمثلت في استقالة الرئيس أحمد حسن البكر، يوم 16يوليو 1979م، ليصبح صدام حسين الرئيس الجديد للعراق.
وفي هذا الإطار، يمكن القول إن إيران لم تكن بمعزل عن هذه البيئة المتغيرة، فقد كان هدير الثورة فيها يتزايد، والحملات الدعائية المنظمة التي تمهد لقفز الفقهاء عليها تتصاعد، لإقناع الجماهير الإيرانية الثائرة بأن ثورتهم إسلامية، على الرغم من أن القاعدة العريضة منهم كانت تنتمي لحركة الحرية، والجبهة الوطنية، ومجاهدي خلق وحزب توده، وفدائيي خلق، وحزب كومالا، والتي لم تهدأ بالا حتى عصفت بشرعية نظام الشاه، ومنحت الثورة مشروعيتها أمام العالم أجمع.
والحقيقة أن الثورة الإسلامية لم تكن مجرد ثورة إطاحة بنظام ملكي عاتٍ فحسب، بقدر ما كانت تمثل تحولا فقهيا كبيرا حقق الفقهاء بموجبه الغلبة للمؤسسة الدينية في علاقاتها المتوترة بالسلطة السياسية، وأقام أول سلطة شيعية في العصر الحديث، تعتمد لنفسها نظرية ولاية الفقيه ومكوناً جوهرياً لبنية الدستور، ولهياكل الدولة مؤسساتها وأجهزتها، ولمبادئ علاقاتها الخارجية؛ الأمر الذي نقل السلوك الإيراني الخارجي إلى نطاق اللامحدود الجغرافي الذي يؤمن بعالمية الإسلام، وضرورة العمل على نقل المستضعفين من زوايا التهميش وهوامش المعارضة، إلى أرائك السلطة ومقاعد الحكم.
وكم كان هذا التحول الفقهي في إيران مدعاة لزيادة الاهتمام بهذه القراءة الثورية للإسلام الشيعي، سواء كان ذلك من منطلق التعاطف أو العداء. خاصة أن هذه الثورة الإسلامية جعلت من مبادئها منارة متوقدة للاستقلال بشعار "لا شرقية ولا غربية"، داعية دول العالم إلى الإطاحة بالرأسمالية والنفوذ الأمريكي والقضاء على الظلم، كما ساندت ثوار الساندسيتا في نيكاراجوا، والجيش الجمهوري بإيرلندا، وحركة النضال الوطني ضد الفصل العنصري بجنوب أفريقيا، ناهيك عن تقديم الدعم والمساندة للمجاهدين الأفغان ضد الغزو السوفييتي.
من المعروف أن الثورة الإسلامية نجحت في استقطاب كتاب وصحافيين؛ حتى وضعها بعضهم في مصاف الثورتيّن الفرنسية والروسية، بينما وصفها آخرون بـ "الزلزال الذي أبهر العالم " وهو ما لم يعد أحد يصدّقه اليوم؛ بعد أن باتت هذه الثورة جزءا من التاريخ، الذي أتاح لنا بدوره الفرصة للتبصر في وقائعها والتمعن في تسلسل أحداثها؛ لتبيان الفرق بينها وبين هاتين الثورتين، من حيث طبيعة التأثير الذي تركته على وجه التاريخ الإنساني.
إذ إن الثورة الفرنسية (1789ـ1799م) في نظر المؤرخين، هي واحدة من الأحداث المهمة التي غيرت مسار التاريخ الحديث؛ فهي التي رفعت شعار "الحرية، والمساواة، والإخاء" وأرست إعلان حقوق الإنسان والمواطن عام 1789م، التي كانت محصلة لعصر التنوير ومقولات كبار المفكرين من أمثال: جان جاك روسو، وجون لوك، وفولتير، ومونتيسكيو.
كما لم تكن مجرد ثورة أسقطت نظاماً ملكياً مستبداً، واستبدلته بآخر جمهوري جسدّ مفهوم الدولة الحديثة، بقدر ما كانت دينامية أفكارها وقيمها تمثل مصدر إلهام وقوة دفع كبيرة نحو إسقاط الملكيات المطلقة في كثير من دول العالم. فضلا عن أن عنفوانها كان دافعا لأن تعمل على التوسع الخارجي والانضمام لركب الاستعمار وبناء الإمبراطورية؛ الأمر الذي تسبب في إشعال صراعات عالمية امتدت من البحر الكاريبي إلى الشرق الأوسط.
كذلك الثورة الروسية (1917م) تعد هي الأخرى من أكثر الأحداث جدلاً وكان لها دور بارز في تغيير مجرى التاريخ المعاصر، بعد أن أنهت الحكم القيصري، واستعاضت عنه بنظام جمهوري اشتراكي يقوم على فلسفة كارل ماركس، ولينين الذي رفع شعارها: الأرض والخبز والسلام. فضلا عن أفكار المنظر الثائر ليون تروتسكي مؤسس الجيش الأحمر، وصاحب فكرة تصدير الثورة بقوة السلاح الأيديولوجي والعسكري. فضلا عن أفكار مكسيم جوركي مؤسس مدرسة الواقعية الاشتراكية التي تجسد النظرة الماركسية للأدب.
أما الثورة الإيرانية، فكانت محصلة لفكر طائفي منغلق وانتماء قومي ضيق، استلهم المعارف النقلية عن بعض الفقهاء من أمثال: العلامة الحِلّي (ت1325م) وشمس الدين العاملي (ت1384م) والعلامة النراقي (ت1829م) وكل من "آيات الله" خميني، وطباطبائي، ومطهري. فضلا عن استلهام أفكار الحداثيين من أمثال: على شريعتي وجمال زاده وجلال آل أحمد وغيرهم. وهي التي شكلت في مجملها المرتكزات الفكرية لـ إسلامية الثورة وأيديولوجيتها.
ومع هذا يتعين علينا ألا نغفل أن الثورة "الإسلامية" كانت جزءا من معادلة الإحياء الإسلامي، أو الصحوة التي اعتمدتها الولايات المتحدة درعا لمنع تغلغل السوفييت إلى مناطق نفوذها الممتدة من أفغانستان، وصولا إلى مصر مرورا بباكستان وإيران. وهي الصحوة الذي مثلت ظرفا مؤاتيا لهيمنة الاتجاهات الداعية لاسترداد هوية المجتمع الإيراني من واقع ثقافته وقيمه الدينية، ورفض القيم الغربية ومحاربتها؛ باعتبارها وباء أو سمًّا طالما صرف الإيرانيين عن جذورهم القومية واستلب هويتهم الدينية والثقافية، على حد تعبير جلال آل أحمد في كتابة "الابتلاء بالتغرب"؛ ولذا كان الشعار الذي تغنت به الثورة هو: استقلال، حرية، جمهورية إسلامية
إذا أرجعنا البصر يوما مستفيدين من ملكة التبصر في الماضي، سندرك طبيعة الفرق بين الثورتين الإيرانية والفرنسية، فالثورة الفرنسية فصلت الدين عن الدولة وأزالت هالة القداسة عن الحاكم ودحضت مزاعم التفويض الإلهي لسلطته، بينما الثورة الإيرانية مزجت بين الدين والدولة، وأضفت هالة من القداسة على الحاكم بوصفه الولي الفقيه نائب الإمام الغائب.
ولذا، فقد مثلت مصدر إلهام طائفي لدى الأقليات الشيعية والجماعات الأصولية المتطرفة، ولكنها لم تكن يوما ملهمة للشعوب الإسلامية. في حين كانت الثورة الفرنسية تمثل بقيمها الإنسانية مصدر إلهام للحرية والمساواة والإخاء لدى شعوب العالم كافة.
ومن ناحية أخرى، إذا كانت قيم الثورة الفرنسية ذات الطبيعة الإنسانية، أو قيم الثورة الروسية ذات الطبيعة الاشتراكية قد انتشرت بتلقاء ذاتها أو حتى بالاستعمار والاحتلال، فإن ذلك حدث في ظرف تاريخي سمح لها بذلك. وهو ما لم يكن متوفرا للثورة الإيرانية، عشية قيامها؛ نظراً لأن المنتظم الدولي الذي تم إرساؤه، بعد الحرب العالمية الثانية، لم يكن يسمح لها بانتهاج ما كانت تطمح إليه من الانتشار والتمدد على غرار الثورتين الفرنسية والروسية.
إضافة إلى أن الحرب الباردة جعلت من الصعب على أي دولة أن تصدّر ثورتها، حتى وإن كان لديها من الإمكانيات ما يسهل لها ذلك؛ الأمر الذي حصر تأثير الثورة الإيرانية داخل حدود الطائفية الضيقة، وبالتالي لم تنجح في تحطيم جُدر الرفض لسلوكها العدواني؛ لاعتبارات دينية وسياسية واجتماعية. وبناء على هذا يمكن القول إن طائفية الثورة الإسلامية لن تسمح لإيران بأن تكون قوة إقليمية على المدى البعيد بأي حال من الأحوال.
بعد مضي أربعين سنة ونيف على تجربة الثورة الإسلامية، بات الإيرانيون يدركون اليوم أن سياسات الولي الفقيه لم تجلب إلى بلادهم سوى تآكل مكانتها بين الدول المحيطة بهم، بعد أن كانت مهابة الجانب. وإهدار ثرواتها في صراعات خارجية لا طائل من ورائها، بعد أن كانت في مصاف الدول الثرية، فضلا عن تردي حالتهم الاقتصادية.
وهي من الدواعي التي أدت إلى انحسار القاعدة الشعبية الأعرض المؤيدة لاستمرار النظام الحالي، للحد الذي يمكن القول معه إن بقاء نظام ولاية الفقيه قد فقد مبررات استمراره، واكتملت اليوم بواعث الإطاحة به. وذلك نظرا لأنه أخفق في تحقيق الدولة النموذج، وأصبح مصدر تهديد لأمن وسلامة البنية الإقليمية. وذلك على النحو الموضح أدناه:
ابق على اطلاع على النشرة الإلكترونية