في رحلة البحث عن الخلود والأمان... خصوصية منتهكة

- 4 نوفمبر 2024 - 119 قراءة

سعت البشرية منذ نعومة أظافرها بتوجيه غرائزي بداية ومن ثم مع تشكل أولى لبنات الفكر وصولًا إلى أرفع درجات المعرفة والعلوم والتكنولوجية رحلة البحث عن الأمن والأمان في سيرورة دائمة.

بعد رحلة طويلة وشاقة ومحفوفة بالمخاطر والتضحيات والمقاومات ابتكر الإنسان  فكرة الخلود، وقدم من أجلها مئات الآلاف من الأرواح والقرابين من جهة، والمعرفة والدين والفلسفة والعلم وجميع أنواع الابتكارات من جهة أخرى. ولعل خير تجسيد لذلك هو في بنائه الأهرامات وغيرها من الشواهد التاريخية المكتشفة... وما زالت رحلة البحث عنها مستمرة.

اكتشاف الخلود شكّل مرحلة متطورة في رحلة البحث عن الأمن والأمان والطمأنينة في مسيرة البشرية وفي الهروب من الموت والمجهول، وقد استمرت هذه المرحلة  أزمنة كانت تعيش البشرية فيها على هذا الاكتشاف في راحة وطمأنينة وهدوء بالٍ، وهي متيقنة من ضمانها الحياة الأبدية.

مع تقدم جميع أنواع المعارف والتكنولوجيا لم تعد فكرة الخلود تجدي نفعًا، وبدأ الإنسان في عملية البحث عن جديد ليشفي فضوله ويُشبع نهمه في امتلاك العالم وما فيه. بدأ رحلة البحث مجددًا في ابتكار واختراع وسائل وأدوات جديدة تضمن حياة الإنسان وتحصنه وتأمن له الراحة، فكانت رحلة بحث دائمة عبر تأمين مسكن مؤمن وصحي، وإجراءات تقيه من الأمراض والعوامل المناخية، وتوفر له الأغذية الصحية والعقاقير الطبية بما يضمن أمنه وخصوصيته.

مع التطورات والمستجدات المتسارعة التي شهدتها البشرية خلال العقدين السابقين وهما -إن لم نكن مبالغين- يعادلان قرونًا من الحضارة البشرية. ولكن في المقابل: بقدر ما وفرت هذه التطورات وسائل الراحة والتسهيل اخترقت خصوصيات الإنسان، وهي علاقة بين التطور والاختراق يمكن وصفها بالعلاقة الديالكتيكية، حيث كانت كل خطوة تقدم وتطور تكنولوجي يقابلها انحسار للخصوصية والأمن البشري.

حتى باتت البيوت التي تأسست في الأصل لحماية وأمن الإنسان من العوامل الخارجية والمناخية عالمًا مشاعًا.

لعل الأحداث الأخيرة لحادثة أجهزة بيجر وما خلّفته من صدمة وضعت الإنسان في حيرة من أمره، وجعلته يبدأ رحلة بحث جديدة، من بعد أن تحول الإنسان إلى تابع ومستعبَد للتكنولوجيا، لما وفرت له من وسائل الراحة والوقت والمجهود وسهولة للحياة بقدر ما تحمله من تعقيدات والتزامات واختراق للخصوصية.

طالما شكلت مرحلة المشاعية من تاريخ البشرية مرحلة ذهبية نتطلع إلى استردادها ضمن سياقات التطور التي وصلت إليها الحضارة البشرية إلى يومنا هذا، لما كانت تتمتع وتتميز به تلك المرحلة بالعدالة الاجتماعية والعيش المشترك والحياة الندية التشاركية بحسب الخبرة والمعرفة البشرية ضمن سياقات تلك العصور.

على هذا الأساس طورت العديد من الفلسفات والتوجهات لاستعادة تلك المرحلة بلبوس عصري أكثر تقدمًا وتطورًا في ظل التطورات المرعبة التي وصلت إليها البشرية من ابتكارات واختراعات، حولت حياة البشر إلى بدائية، بعدما كنا نتحدث عن مشاعية المجتمع لأجل تحقيق العدالة الاجتماعية وشيوع الحقوق والواجبات.

السؤال الذي يطرح نفسه هو: حتى نضمن الخصوصية والأمن والأمان الإنساني هل علينا العودة إلى الحياة البدائية والانكفاء على الذات والانقطاع عن عالمنا الخارجي؟ إلى بداياتنا البشرية حيث كان الفرد فيها على علاقة تفاعلية داخل مجتمعه الصغير، أما اليوم فالفرد هو فرد عالمي في ظل الانفتاح والتطور التكنولوجي والذكاء الاصطناعي.

على الأقل حالة الطمأنينة التي رافقت فكرة الخلود كانت تضمن للفرد امتلاك مقتنياته الثمينة في حياته الأبدية. اليوم مشاعر الإنسان وفكره وتوجهاته ورغباته ليست ملكه. بات الإنسان عبدًا للتكنولوجيا والشركات المتحكمة بالعالم، وأصبحنا اليوم بلون واحد في الفكر والتوجه والذوق. حياتنا توجهها بوصلة الشركات من دون وعي.

لم نعد نمتلك ذواتنا، حتى تفكيرنا ومشاعرنا باتت مبرمجة. بتنا نخشى من ذواتنا ونعيش حالة رعب وقلق دائمين. لم نعد ننتمي لذواتنا، بل نعيش حالة اغتراب حقيقية. عشر سنوات من الأزمة التي سادت بالمنطقة كانت كفيلة بإعادة التفكير بكل شيء لم يعد وجود لما هو ثابت. الثابت فقط هو أننا أصبحنا عبيدَ متابعة الفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي لمتابعة المستجدات والتطورات المتسارعة  التي لم يعد بمقدورنا تحليلها أو إبداء رأي أو موقف منها في هذا العالم المرعب من كثرة التطورات والتغييرات المتسارعة. ففي تطوير أساليب الحرب كنا نتحدث عن زوارق ومسيرات اليوم الهجوم السيبراني الجماعي الذي تجلى  من خلال أجهزة بيجر وضع العالم أمام مرحلة تاريخية مفصلية يترتب عليها إعادة النظر بكل ما هو موجود كما نحن بحاجة إلى إعادة برمجة وهيكلة من جديد.

هل سنتمكن من امتلاك خصوصية بعد أن تحولت حياتنا إلى مشاعية عالمية. أعتقد بأنّ الجواب ليس بالسهل ربّما، ولكنه في الوقت نفسه ليس مستحيلًا.

 ويبقى سؤال هل نحن في حاجة إلى اختراع مشابه لفكرة خلود ميتافيزيقية خارج هذا العالم، تحقق نوعًا من الهدوء والطمأنينة الداخلية في ظل فقدان الأمل بعالمنا المحسوس؟ أم سنبقى أسرى هذا العالم المرعب بعدما كان ملجأ لنا؟ وتبقى الحقيقة الواحدة الثابتة في عالمنا المتغير هي البحث عن الأمان في مسيرة التطور المرعبة لاستعباد الإنسان؟

ــــــــــــــــــــــــ

ممثلة مجلس سوريا الديموقراطية – القاهرة

 

النشرة الإخبارية

اشترك في النشرة الإخبارية

ابق على اطلاع على النشرة الإلكترونية

معلوماتك فى امان معنا! إلغاء الاشتراك في أي وقت.