تعتبر منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا أكثر المناطق اضطراباً في العام، منذ مطلع القرن الحالي، نتيجة عوامل داخلية وأخرى إقليمية وثالثة دولية، دفعت بتلك المنطقة إلى أن تشهد مجموعة متغيرات باتت تشكل أحد معالم النظام الدولي القائم/قيد التغيير.
وإن كانت المنطقة الجغرافية لما يسمى بـ MENA، منطقة متسعة، فإننا سنكتفي بمنطقة الشرق الأوسط المتمثلة في المشرق والخليج العربيين وما يحيط بهما من قوى إقليمية متفاعلة ومؤثرة في هذه المنطقة، إلى جانب التوقف عند التنافس الدولي في مياه شرق المتوسط.
من المعلوم في أساسيات تحليل العلاقات الدولية، استخدام أطر التحليل الثلاثة: الدولي، الإقليمي، المحلي. ابتداءً من تحليل الإطار الدولي كونه الأيسر في فهمه، ثم نزولاً إلى الإقليمي فالمحلي، ولكننا سنفضل عوضاً عن ذلك، التنقل بين هذه الأطر الثلاثة حسب الحاجة التي تفرض ذاتها، حيث ساهمت المنطقة في استقرا النظام الدولي حيناً، وحيناً كانت انعكاساً لاضطراباته، وبيئة للمساهمة في عملية إعادة تشكيله، تلك العملية الجارية في السنوات الأخير، ونلحظ تداعياتها واضحة اليوم، في مناطق عدة من العالم.
وبداية، علينا التذكير بأن هذه المنطقة، تتشارك في سمة رئيسة مع منطقة شرق أوروبا، وهي أنها منطقة عبور/فصل حضاري بين مجموعة من القوى، وهو ما جعلها بيئة عالية المخاطر من جهة، وبيئة تنافس دولي من جهة ثانية، وهي سمة تمتد لقرون ماضية، جعلت المنطقة دائمة الاضطراب. ولكن عوضاً عن أن نستهلك الوقت الضيق المتاحة أمامنا في استعراض تاريخي، يعلمه جميعكم، سننتقل مباشرة إلى تقديم المخرجات/التغيرات، مع استعراض بالغ المحدودية لبعض المحطات التاريخية إن لزم الأمر. وذلك بعد المرور على تكوين المنطقة على مستوى القوى وعلى مستوى أبرز الإشكاليات القائمة.
ونطلق على هذه الدراسة عنوان "مل الفراغ الاستراتيجي"، والتي يقوم منهجها البحثي على منهج بنيوي لتبيان البنى الرئيسة المشكلة لسياسات الشرق الأوسط (قوى وإشكاليات ومصالح وتحالفات)، ودراسة سلوكها، لفهم واقع الشرق الأوسط.
حيث نفترض أن هناك فراغاً استراتيجياً، نتيجة:
فالسياسات الدولية متشابكة مع بعضها البعض، أمنياً ومصلحياً، ولا يمكن الفصل بينها، فزيادة حصة دولة من مصالح ما في البيئة الدولية، سيعني زيادة قوتها، التي ستعيد ترتيب موازين القوى مرة أخرى (تغذية رجعية). وبالتالي، فإن الدول تهتم دوماً بالبحث عن مصلحة سائبة (فراغ)، أو خلق فراغ لملئه، لتعظيم قوتها ومجمل مصالحها وتصحيح موازين القوى بما يخدم قوتها الإجمالية.
وعموماً تعتبر مناطق النزاعات، والدول المنهارة والضعيفة، أفضل بيئات لتوليد فراغ تسعى القوى الكبرى والإقليمية لملئه.
يمكن بداية تسجيل أربعة أشكال أساسية من الفراغ الاستراتيجي، الذي نبني عليه هذا البحث:
أولاً، أدت ثورات الربيع العربي إلى تداعيات سلبية في عدة دول عربية، حولت بعضها إلى دول فاشلة وأخرى إلى دولة منهارة (فراغ ذاتي)، وهو ما جعل هذه الدول (الدولة بكاملها)، مصلحة متاحة للتنافس الدولي بين القوى (الدول وغير الدول)، لتعظيم منافعها من جهة، وحماية أمنها من جهة ثانية، وهو ماسيتضح لاحقاً.
أتى ذلك ثانياً، في وقت لم يكن هناك قيادة عربية مشتركة لقضايا الشرق الأوسط، ولم يكن هناك تفاهمات أساسية لحماية الأمن القومي العربي، أي كان هناك غياب للفعالية العربية على مستوى الإقليم كاملاً، وليس على مستوى مناطق في الإقليم شرق الأوسطي. (فراغ قيادي)
ترافق هذا الفراغ المحلي والعربي، مع صعود إقليمي لكل من تركيا وإيران، وحضور دائم لإسرائيل، وعودة روسية إلى السياسات الدولية ومنها شرق الأوسطية. فيما يؤدى فك ارتباط الولايات المتحدة عن المنطقة ثالثاً، والذي بدأ في ظل رئاسة أوباما وتسارع في ظل ولاية ترامب ثم بايدن، إلى خلق فراغ يتمثل في أن الولايات المتحدة لم تعد الضامن الأمني في الشرق الأوسط، كما يتضح من مسارها الغامض في سورية خلال السنوات القليلة الماضية. بالإضافة إلى ذلك، أدى التقارب الواضح لترامب مع قادة أقوياء وغير ديمقراطيين مثل بوتين وأردوغان إلى خلق حالة من عدم اليقين لحلفائه الأوروبيين وفرصاً لفاعلين جدد. (فراغ دولي)
كما ظهر نوع رابع من الفراغ في أوائل عام 2020، إثر استحواذ جائحة كوفيد-19 على طاقات معظم الحكومات الغربية، وبطريقة ما، جمّد أعمالها جزئياً في منطقة البحر الأبيض المتوسط. وهو ما ستستغله تركيا وروسيا مباشرة، وبحزم، وخصوصاً في منطقة البحر المتوسط ([1]). (فراغ دخيل)
كما أوردنا، بات الشرق الأوسط، أكثر المناطق اضطراباً على مستوى العالم، سواء في داخله، أو في محيطه على السواء. وذلك على عدة مستويات أولها الإشكال الأمني طويل الأمد، ففي داخله تقبع ثلاث دول منهارة تتمثل في: الصومال واليمن وسورية، وأخرى فاشلة، تتمثل في السودان والعراق وليبيا، بينما يتجه لبنان نحو الفشل مؤخراً. وفي محيطه هناك دول فاشلة كأفغانستان وجنوب السودان، وعدد من الدول بالغة الهشاشة أبرزها إثيوبيا وإريتيريا.
هذه البيئة مُنتِجةٌ للفوضى بحد ذاتها، وتهديدٌ أمني لمحيطها، ومحطّ أطماع الدول ذات القدرة على التدخل فيها (فراغ). وهي ما يمكن أن نطلق عليها تعبير المفكر السوري طيب تيزيني: "ليس لخارج ما أن يتدخل في داخل ما إلا من خلال أقنيته". أي أن البيئة شرق الأوسطية، منهارة إلى درجة ستسمح فيها بتدخل قوى متعددة بغية تعظيم مصالحها وحماية أمنها.
لكن مع ملاحظة أننا في هذه الورقة، لا نناقش أسباب انهيار الدول وفشلها، بقدر ما نرنو إلى تبيان المتغيرات الواقعة في الشرق الأوسط، ومآلاتها وفق ذلك.
شكل رقم (4)
خريطة مؤشر الاستقرار/الهشاشة في الشرق الأوسط (The Fund of Peace)
شكل رقم (5)
أسوء الدول على مؤشر الاستقرار/الهشاشة (The Fund of Peace)
أما الإشكال الثاني، فهو إشكال عسكري، حيث تشهد المنطقة سباق تسلح متصاعد بين عدة قوى، يشمل سباقاً نووياً متصاعداً، وآخر تقليدي.
فعلى مستوى السلاح النووي، يحاط الشرق الأوسط بعدة قوى نووية: باكستان والهند والصين وروسيا، فيما يضم دولة نووية واحدة: إسرائيل. ومن المتوقع أن إيران باتت على حافة الانضمام إلى النادي النووي، وتشتغل تركيا على امتلاك قدرات نووية عسكرية على المدى المتوسط. وفيما تمتلك الإمارات قدرات نووية سلمية، فإن تسريبات عدة ترى أن السعودية تعمل على تطوير قدرات نووية عسكرية خاصة بها مستقلة عن "المظلة الباكستانية النووية" الافتراضية.
شكل رقم (6)
القوى النووية حول العالم (Arms Control Association)
أما على مستوى القدرات التقليدية، فإن القوى الإقليمية متقاربة فيما بينها، وهي في حالة سباق متصاعد، وفق الجدول التالي:
شكل رقم (7)
أبرز القوى العسكرية في الشرق الأوسط، تقليدياً (Global Firepower)
شكل رقم (8)
الإنفاق العسكري في بعض دول الشرق الأوسط (Global Firepower)
تعتبر إشكالية جيوبولتيك النفط في الشرق الأوسط، إشكالية قديمة، يمكن أن نحدد تاريخ تمشكلها مع أزمة النفط عام 1973، وإن كانت الحدود الجغرافية لعدد من دول المنطقة كان قد تم رسمها بناءً على اكتشافات نفطية، وتثقيلاً لمصالح دولة غربية على أخرى. وامتدت هذه الإشكالية طيلة العقود الماضية لتتمظهر في إشكالات هويتية وسياسية وتمويلية وعسكرية وبنيوية وثقافية، لا يمكن حصرها.
وحيث كان للنفط، وتحديداً مشاريع الغاز في المنطقة، دوراً في المتغيرات الدافعة نحو الثورات العربية، إلا أنه يبقى دوراً محدوداً مقارنة بإشكالية الغاز في شرق المتوسط، والتي بدأت بالتمظهر تدريجياً منذ الاكتشافات الإسرائيلية الأولى عام 1999، ولتبلغ ذروتها في الفترة الحالية.
فعلى مدى العقد الماضي، تم اكتشاف احتياطيات كبيرة من الغاز الطبيعي شرق البحر المتوسط. وهي من الناحية النظرية، قادرة على إفادة دول المنطقة من خلال تلبية احتياجاتها من الطاقة وتوليد عائدات تصدير، ومساعدة الاتحاد الأوروبي على تنويع إمدادات الطاقة الخاصة به. يمكن للغاز أيضاً أن يدعم اقتصاد قبرص الموحدة يوماً ما، في حال تم حل النزاع الذي قسم الجزيرة منذ عام 1974. فيما يتم بالفعل استغلال بعض احتياطيات الغاز في المنطقة، حيث تستخدم مصر وإسرائيل مخزوناتهما للاستهلاك الداخلي، كما تقوم إسرائيل بتصدير الغاز إلى الدول المجاورة. وفي السنوات العشر الماضية، تم اكتشاف احتياطيات كبيرة منه في المياه العميقة لشرق البحر المتوسط. وبحسب تقديرات الخبراء فإن حجم الاحتياطيات القابلة للاستخراج لعشرة حقول غاز طبيعي مكتشفة تصل إلى 2.24 تريليون متر مكعب. حيث يعتبر أكبرها: حقل ظهر المصري Zohr باحتياطي 850 مليار متر مكعب، وحقل ليفياثان الإسرائيلي Leviathan باحتياطي 623 مليار متر مكعب، وحقل أفروديت Aphrodite القبرصي باحتياطي 170 مليار متر مكعب ([2]).
ومع اكتشاف المزيد من الغاز بالقرب من قبرص، منحت الدولة المزيد من تراخيص الاستكشاف للشركات. فيما سعت تركيا إلى عرقلة الجهود المبذولة لتطوير وتسويق الغاز القبرصي، ونشرت قواتها البحرية لتعطيل جهود الاستكشاف، وأرسلت سفنها الخاصة للبحث عن الغاز في المنطقة المتنازع عليها. وقال وزير الخارجية التركي في مؤتمر أعمال في فبراير 2020: "لا يمكن فعل أي شيء على الإطلاق في البحر الأبيض المتوسط بدون تركيا". وقد أدت الرغبة المشتركة في تطوير واستغلال الغاز في المنطقة، ومواجهة إصرار تركيا المتزايد، إلى توطيد تحالف غير رسمي بين قبرص ومصر واليونان وإسرائيل. حيث تتمتع قبرص واليونان بعلاقة متوترة مع تركيا منذ عقود، وتشعران بالتهديد من تصرفات أنقرة في بحر إيجة وشرق البحر المتوسط، والتي تضمنت عمليات توغل في المجال البحري اليوناني. كما أدت الشراكة المزدهرة بين قبرص واليونان وإسرائيل إلى توثيق العلاقات السياسية والاقتصادية والعسكرية، حيث تجري الدول الثلاثة تدريبات عسكرية مشتركة بانتظام ([3]).
وفي يناير 2019، أطلق وزراء الطاقة من سبع دول منتدى دولياً: منتدى غاز شرق المتوسط (EMGF)، لتولي زمام المبادرة في التعاون في مجال الغاز حول شرق البحر الأبيض المتوسط، من كل من: مصر وإسرائيل وجمهورية قبرص وفلسطين وإيطاليا والأردن واليونان. بالإضافة إلى ذلك، حضر ممثلون من فرنسا والاتحاد الأوروبي والبنك الدولي ووزير الطاقة الأمريكي الاجتماع الوزاري الثاني لـ EMGF في يوليو 2019. وفي سبتمبر 2020، وقعت الدول الأعضاء ميثاقاً يمنح المنتدى وضعاً رسمياً كمنظمة حكومية دولية ([4]).
ومن الواضح أن هذا المنتدى، كان في أحد جوانبه، رداً على الاتفاق الذي وقعته حكومة الوفاق الوطني الليبية المعترف بها من قبل الأمم المتحدة في طرابلس، في أواخر نوفمبر 2019، مع تركيا، مقابل قيام الأخيرة بمساعدتها في معركتها ضد القائد العسكري خليفة حفتر. وحددت الاتفاقية التركية-الليبية حدوداً بحرية بين البلدين لا تأخذ في الاعتبار جزيرة كريت، وتتداخل مع المنطقة الاقتصادية الخالصة لليونان. ووفرت حافزاً لقبرص واليونان وإسرائيل لإبرام صفقة في يناير 2020 لبناء خط أنابيب بطول 1900 كيلومتر لنقل الغاز من الرواسب في إسرائيل وقبرص إلى اليونان وإيطاليا: "خط أنابيب شرق البحر المتوسط" ([5]).
شكل رقم (9)
الحدود البحرية في شرق المتوسط
شكل رقم (10)
الحدود البحرية في شرق المتوسط، وفق الترسيم التركي، والاتفاقية مع ليبيا
أثّر الربيع العربي في الاستقرار الجيوسياسي للدول التي شهدت أحداث تغيير النظام والفوضى التي أعقبت ذلك. وأدى هذا الوضع إلى نشوء أحزمة جيوسياسية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بسبب انهيار هياكل الدولة وإنشاء دول فاشلة.
وعلى الرغم من وجود تحالفات مصالح متعارضة في ليبيا بين تركيا وروسيا، في شكل مستشارين رسميين من كلا البلدين، إلا أن هناك أيضاً استخداماً للقوات بالوكالة (القوات العسكرية غير النظامية، والمتعاقدين العسكريين الخاصين، وإمدادات الأسلحة للجانبين المعنيين)، وامتد ذلك ليشمل مصالح عربية متعارضة في ليبيا عبر ذات الأدوات.
يتعلق الجانب الآخر بطرق إمداد الغاز، والتي قد تؤدي السيطرة عليها إلى تعزيز الإمكانات الجيوسياسية لأي بلد بشكل كبير. ويؤدي هذا في بعض الأحيان إلى اختلافات تتفاقم عادةً بسبب العداء التاريخي والجغرافي والثقافي والديني والجيوسياسي بين مختلف الموضوعات في العلاقات الدولية. وقد يصبح إعادة تشكيل ممر الطاقة الجنوبي الشرقي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، واحدة من أهم العمليات التي ستؤثر نتيجتها في توازن إمدادات الطاقة، وفي التوزيع الجيوسياسي للقوة في دول هذه المنطقة.
حيث تستفيد تركيا من موقعها الجغرافي من أجل التحكم في الحد الأقصى لعدد خطوط الأنابيب الممتدة إلى دول الاتحاد الأوروبي من الاتجاه الجنوبي الشرقي، ويأتي دعم قطر للإخوان المسلمين، بما في ذلك في ليبيا ومصر ليكمل استراتيجية تركيا في المنطقة.
ونظراً لأن حكومة الوفاق الوطني تدعمها وحدات شبه عسكرية من جماعة الإخوان المسلمين، فإنها تعزز مواقف تركيا فيما يتعلق بمنعها لمشاريع الطاقة التي طورتها اليونان وقبرص وإسرائيل وربما مصر. كل هذا يلبي مصالح قطر. كما يرتبط التصعيد في ليبيا ارتباطاً وثيقاً بتقاطع معقد إلى حد ما لمصالح مجموعة واسعة من الدول، على الأقل تلك الموجودة في شرق البحر الأبيض المتوسط ومنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
يمتلك الشرق الأوسط مجموعة من القوى الفاعلة فيه من الدول، ويمكن وضعها وفق الشكل التالي:
شكل رقم (11)
القوى الفاعلة وبيئات الفراغ الاستراتيجي في الشرق الأوسط
يعتبر وجود الفاعلين المسلحين من غير الدولة رغم إرادة الدولة، بل إنها غير قادرة على تحجيم هذا الوجود أو إلغائه إلا باستخدام القوة المسلحة، والتي قد يترتب عليها نزاعات محلية طويلة الأمد. لذا فإن هذا الفاعل قادر على تحدي سلطة الدولة بشكل حقيقي.
وتتنوع أشكال هذا الفاعل وفق التقسيم التالي:
طالما كان الشرق الأوسط محطة صراعات محلية أو إقليمية أو دولية، مترافقاً مع بروز الدولة الوطنية في النصف الأول من القرن الماضي، والتي عانت من إشكالية الهوية الوطنية من جهة، وإشكالية حدودية مع دول الجوار من جهة ثانية، وإشكاليات تتعلق بالبيئة العربية والإقليمية لا مكان لذكرها. لذا فإن ما شهده الشرق الأوسط في العقدين الماضيين لم يكن استثناءً في تاريخ الاضطراب شرق الأوسط، وبالأخص شرق المتوسطي. وهو ما سيخلق لدينا منطقة فراغ استراتيجي، سينظر إليها بأنها منطقة جذب مصلحي-أمني عالية الأهمية، وستتدافع القوى المحيطة بها والقوى الدولية إلى اكتساب حصة من المصالح في هذه المنطقة.
وأبرز معالم هذا الفراغ الاستراتيجي:
هذا النفوذ سيشهد تبايناً في حدته ومدى انتشاره من دولة إلى أخرى، وفق الشكل التالي:
نتيجة ضخامة حجم الفراغ الاستراتيجي، المصلحي والأمني، في الشرق الأوسط، شهدت عمليات التنافس الدولي صداماً مباشراً بين بعض القوى، كادت أن تؤدي إلى حروب بينية، كما حصل بين القوات الروسية والتركية، وبين التركية والإيرانية، وهو ما دفع هذه القوى لتنسيق مصالحها تجنباً لمثل تلك الاشتباكات في سورية والعراق، لكن ستظل على صدام غير مباشر في ليبيا حتى الاتفاق الداخلي الليبي. فيما لا تزال القوات الإسرائيلية تستهدف القوات الإيرانية في المنطقة، وما تزال الولايات المتحدة تستهدف تنظيم داعش. ورغم هذه الاتفاقيات، إلا أن هذا لا يعني استهداف إحدى تلك الدول لجماعات مدعومة من دولة أخرى، كما يحصل في سورية مثلاً.
ويمكن الحديث عن عدة أشكال من التحالفات القائمة في الشرق الأوسط، تبلورت في العقد الماضي، وهي على الشاكلة التالية:
شكل رقم (12)
التنسيق الثلاثي التركي-الإيراني-الروسي
شكل رقم (13)
حلفاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط
شكل رقم (14)
أعلام الدول المشاركة في التحالف العربي
تعتبر سورية إحدى الدول المنهارة في العالم، وثالث أفشل دولة على مستوى العالم، والأكثر سوءاً في شرق المتوسط، ومنطقة جذب كل القوى الخارجية (دول وفاعلين من غير الدول). وباتت منطقة تقاطع كل القوى المشتغلة في الشرق الأوسط، أو ما نطلق عليه مركز الفراغ شرق الأوسط، حيث تلتقي فيها كل حدود التنافس المصلحي الدولي، ونعتقد أن هذا التعقد في المشهد السوري يتسبب في تعقيد كامل المشهد شرق الأوسطي، والعكس صحيح، أي أن كافة التعقيدات شرق الأوسطية تزيد من تعقيد المشهد السوري، حتى بات مستعصياً على الحل في المدى المنظور.
وذلك نتيجة لما تشهده البلاد، وأبرز ملامحه:
شكل رقم (15)
ميزان القوى المحلي في سورية
شكل رقم (16)
ميزان القوى الدولي في سورية
رغم أن المشهد السوري هو الأكثر تعقيداً، ولا يمكن توقع إيجاد مخارج فعلية له في المدى المنظور، إلا أن المشهد الإقليمي بأسره هو الآخر بالغ التعقيد، بل يمكن القول: إن تعقيد الملف السوري يساهم في تعقيد الملفات الإقليمية الأخرى، والعكس صحيح. وفق نظريات تأثير الدولة الفاشلة ([8])، وهذا ما نلاحظه في التهديدات الأمنية المنبثقة من داعش والميليشيات الإيرانية، واستخدام سورية ساحة لتعديل ميزان القوى الدولي/الإقليمي، أو محطة انطلاق إقليمي لهذه القوى، عدا عن استمرار سورية كعبء بشري وأمني على جوارها.
فيما يزال العراق يقع بين توازنات طائفية تثقّل مكانة القوى الشيعية السياسية والعسكرية الموالية لإيران، وتضمن نفوذ إيران طويل الأمد في العراق، بينما انحدرت قوات تنظيم داعش إلى أدنى مستوياتها، لكنها تبقى حاضرة في المشهد العراقي. يضاف إلى ذلك، تعزيز خصوصية إقليم كردستان العراق، ضمن نظام الحكم الذاتي، بعيداً عن المركز بغداد.
ويتجه لبنان نحو مزيد من التدهور، وقد يتحول في المدى المنظور إلى دولة فاشلة، وخصوصاً عقب إدراك سعد الحريري عدم جدوى الجهود التي استهلكت منه 17 عاماً، وخذلان الحلفاء في تقديم دعم حقيقي في مواجهة هيمنة ميليشيا حزب الله على البلاد.
أما في اليمن، فيمكن الحديث عن شمال تهيمن عليه القوات الحوثية المدعومة من إيران، ويشهد مأساة إنسانية بالغة الحدة، وحرب مستمرة مع قوات التحالف العربي. وجنوب موزع بين عدة قوى: الحكومة الشرعية، الانفصاليون الجنوبيون وهم عدة فرقاء، القاعدة، والسعودية والإمارات.
وبينما كادت ليبيا أن تنتقل إلى مرحلة جديدة من الاستقرار السياسي، يبدو أن المشهد تمت إعادة حرفه نحو الفوضى من جديد، بعد فرض روسيا حضورها في المشهد الليبي، وتعثر الانتخابات النيابية والرئاسية ([9]).
ولا يبدو أن الوضع السوداني متجه نحو استقرار فعلي، بل من المرشح أن يشهد انفجارات متتالية، فيما يبرز تهديد القاعدة/الشباب من جديد في الصومال المقسم بالأساس إلى عدة كيانات. أما أريتيريا فمن المتوقع أن تتخذ مسارات مقاربة لمسارات دول الجوار في حال وفاة زعيمها (انهيار دولة الفرد).د". ([10]) في يوليو 2021 أقرَّ وزير الدفاع الروسي، بأنَّ الجيش
ويبقى الاحتقان الطائفي حاضراً في البحرين والسعودية، وقد نشهد إعادة تفجيره من قبل إيران في أية لحظة. يترافق ذلك مع تكثيف الاستهداف الإيراني (بالوكالة) للسعودية والإما
ابق على اطلاع على النشرة الإلكترونية