أثار اغتيال حسن نصر الله، الأمين العام لـ "حزب الله"، تساؤلات في داخل لبنان، حول الدور الذي سيلعبه رئيس مجلس النواب نبيه بري مستقبلًا، في ظل انطباع بأنّه قد يكون "البديل الشيعي" عن نصر الله، خصوصًا أن مؤيدي الجماعة الشيعية باتوا يستبقون اسم بري في تصريحاتهم بلقب "الأخ الأكبر"!
بري، لمن لا يعرف تاريخه، هو "الأخ الأكبر" في الإجرام بحق الفلسطينيين. ومن نسي ذلك، نذكّره بما فعله بالمخيمات الفلسطينية في لبنان عام 1985، حين أرغمت حركة "أمل" الشيعية بزعامة الأخ الأكبر المحاصرين الفلسطينيين وقتها على أكل لحوم الكلاب والقطط، ومن ولد بعد هذا التاريخ فليسأل من عاشه!
وفي ظل العدوان الإسرائيلي المستمر على لبنان، تتركز الأضواء على الشريك الثاني لنصر الله، نبيه بري، فيما تسمى "الثنائية الشيعية" في لبنان، ليس للحد من خسائر "حزب الله" العسكرية فحسب، بل لكي يعيد له مكانته داخل المعادلة السياسية اللبنانية، التي تضررت كثيرًا في الأشهر الأخيرة، وتضرر معها النفوذ الشيعي في البلاد، بما يشمل رئيس مجلس النواب نفسه.
تبدو سيرة نبيه بري الحياتية والسياسية الحافلة "وليدة الأعراف اللبنانية"، كما يقول الكاتب البريطاني المعروف روبرت فيسك في كتابه "ويلات وطن". فقد وُلد في عام 1938 في سيراليون، قبل خمس سنوات من نيل لبنان استقلاله. والده، وهو رجل أعمال ككثيرين غيره من الشيعة في الجنوب، كوّن ثروته في أفريقيا.
عاد نبيه بري إلى لبنان، وخلال ارتياده الجامعة اللبنانية لدراسة الحقوق، بدأت مسيرته السياسية، وهو لم يبلغ بعد العشرين من عمره. وكان يحمل حينها أفكارًا "بعثية"، إلى أن التقى بالإمام موسى الصدر، رجل الدين الشيعي، وأصبح مُقرّبًا منه.
وظهر بري في المشهد السياسي اللبناني بالغ التعقيد في منتصف سبعينيات القرن الماضي، وانخرط في صفوف "حركة المحرومين" التي أسسها موسى الصدر، وهي حركة اجتماعية كانت تهدف للدفاع عن الشيعة في بدايات الحرب الأهلية في لبنان (1975-1990).
ويروي الكاتب الفرنسي آلان مينارج في كتابه "أسرار حرب لبنان" أنه في زمن الحرب الأهلية، أرسل بري رسائل متوالية للرئيس أمين الجميل ولـ (إسرائيل) من أجل الاحتضان، لكنه قوبل بالإهمال، فوجدوه بعد فترة بين يدي الرئيس السوري حافظ الأسد.
وفي سياق الحرب الأهلية، تبيّن الرجل الذي رفع راية "مقاومة إسرائيل" سقى الفلسطينيين دماءهم في حرب المخيمات. وكانت هذه المجازر العبثية في سياق الرسائل الدموية الدائمة التي اعتاد حافظ الأسد "مداعبة" ياسر عرفات بها بين حين وآخر.
وباختفاء موسى الصدر، زعيم "حركة أمل" الشيعية، في ظروف غامضة خلال زيارة رسمية إلى ليبيا عام 1978، واستقالة خليفته على رأس الحركة النائب حسين الحسيني عام 1980، أصبح بري رئيسًا للحركة، التي ورثت "حركة المحرومين" بعد أن انبثقت عنها باعتبارها جناحها العسكري.
شارك بري في عدد من الحكومات اللبنانية بين عامي 1984 و1992، حيث تولى حقائب العدل والموارد المائية والكهربائية والإسكان وشؤون الجنوب والإعمار، قبل أن يصبح نائبًا في مجلس النواب عام 1992 ورئيسًا له في العام نفسه، وهو المنصب الذي بقي فيه لما يزيد على ثلاثة عقود، بعد أن أُعيد انتخابه سبع مرات، ليصبح من أطول رؤساء مجالس النواب في العالم على الإطلاق.
وعلى خلاف نصر الله، الذي كان يظهر دائمًا في زي رجال الدين، وبلحية كثيفة، وفي صفوف رجاله من مسلحي الحزب، لم يشاهد بري أبدًا مرتديًا زي رجال الدين الشيعة، بل ببدلات أنيقة، عكست طبيعة حياته اليومية والمناصب التي تقلّدها خلال العقود الأخيرة.
ويقول "فيسك" في وصف بري: "بالإضافة إلى تمثيله الشيعة في لبنان، فإنه ممن يتذوقون الحضارة الغربية، فيحب الألبسة الغربية الأنيقة ويفضّل السجائر الفرنسية وطريقة الحياة الأمريكية".
شكلت "ثنائية العمامة والبدلة" ما يمكن اعتبارها قصة صعود الشيعية السياسية في لبنان التي وجدت نفسها موزعة بين رجلين (نصر الله وبري) وحركتين سياسيتين (حزب الله وحركة أمل)، لكن العلاقات بين الجانبين لم تكن على ما يرام دومًا.
وإذا كانت سيرة الرجلين تبدو على طرفي نقيض طبقيًا واجتماعيًا ومرجعيات ثقافية، فإنّها تحمل أيضًا محطات خلافية مفصلية، كما جرى حين خاضا حربًا شرسة، سُمّيت بـ "حرب الشقيقين"، وذلك خلال المراحل الأخيرة من الحرب الأهلية اللبنانية.
وعُدّت هذه الحرب واحدة من المعارك "الشرسة"، إلا أنّها انتهت باتفاق سلام رعته كلّ من سوريا وإيران، تكرّس على مرّ السنوات، بعدما وجد الرجلان أنّ ما يجمعهما قد يكون أكبر، حيث ظلّا يبحثان عن مكان تحت الشمس لبيئاتهما- الأم في المجتمع والدولة اللبنانيين.
هكذا، تشكّل منذ ذلك الوقت ما بات يعرف بالثنائي الشيعي، على وقع تقدم "حزب الله" الذي تزايد نفوذه، وأصبح مع الوقت قوة عسكرية عابرة للحدود، ويحسب لها الحساب إقليميًا، بينما اكتفت حركة أمل ورئيسها نبيه بري بالمكاسب السياسية في البرلمان خصوصًا وفي إدارة لعبة التجاذبات الداخلية، بما يحمي ظهر حزب الله، ويقيه من السقوط الذي من شأنه لو حدث، أن يبدد مكتسبات الطائفة برمتها لا حركة أمل ورئيسها فقط.
باختصار، يمكن القول إنّ بري، أو "ثعلب السياسة اللبنانية" كما يوصف، ورجل التوازنات والمهمات الصعبة، حافظ على مرّ السنوات على علاقات قوية مع نصر الله، حيث كانا يتكاملان على نحو ما في تمثيل شيعة البلاد لدى قطاع كبير منهم.
وفي المحصلة، تحوّل بري في رحلة سياسية مستمرة منذ ستة عقود، من زعيم ميليشيا مسلّحة إلى شخصية سياسية إشكالية، يختلف اللبنانيون حولها، حيث يحمّله كثيرون جزءًا من مسؤولية الفساد والمحسوبيات واستغلال النفوذ في الدولة. وقد رفع لبنانيون في تظاهرات أكتوبر/تشرين الأول 2019 صوره كأحد المسؤولين عن الانهيار الاقتصادي، ثم لاحقته اتهامات بالتورط في التستر على المسؤولين عن تفجير مرفأ بيروت في أغسطس/آب 2020.
بدأت أدوار بري في التراجع، عامًا بعد آخر، وبات تأثيره محدودًا في الطائفة الشيعية، خاصة مع تضخّم حالة "حزب الله"، وتحوّله إلى لاعب إقليمي في الحرب السورية، وفي أدوار أسندتها إليه إيران في الإقليم.
ويؤكد الكاتب السعودي أحمد عدنان، الخبير في الشأن اللبناني، أن بري أصبح "رمزًا للفساد السياسي"، حيث استخدم منصبه لتحقيق مكاسب شخصية، مما أثر سلبًا في مصداقيته بين اللبنانيين، معتبرًا أن "تاريخه في مجلس النواب يعكس عدم قدرته على إحداث تغييرات حقيقية، بل على العكس، استمراره في السلطة كان على حساب الإصلاحات الضرورية."
وأضاف عدنان: "هناك شعور متزايد بأن بري لم يعد يمثل مصلحة اللبنانيين، بل يسعى إلى تعزيز سلطته فقط، مما جعله هدفًا للانتقادات من مختلف الأطراف السياسية".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ابق على اطلاع على النشرة الإلكترونية