طالما كانت أوروبا الشرقية والوسطى منطلق تشكيل النظام الدولي International Order، منذ الحروب النابليونية مطلع القرن التاسع عشر، أو حتى أبعد من ذلك. حيث حدّدت نتائج التنافس/الصراع في تلك المنطقة توزيع القوى الكبرى، ويبدو أنها ما تزال تؤدّي ذات الدور حتى يومنا هذا، في ظل الحرب الروسية-الغربية في أوكرانيا. فيما كان الشرق الأوسط بدوره، مرآة لشكل النظام الدولي، وطالما انعكس ميزان القوى الدولي على توزيع القوى وشكل السياسات وتوازناتها في الشرق الأوسط، ويبدو أنه هو الآخر ما يزال يؤدّي ذات الدور، مع اشتداد التنافس الدولي (الأمريكي-الروسي-الصيني) فيه.
فمنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، تبلورت مصالح الولايات المتحدة (إلى جانب الاتحاد السوفييتي حينها) في الشرق الأوسط، عبر مجموعة من العقائد الرئاسية الرامية لتحقيق جملة من الأهداف، بدءاً من تصفية النظام الدولي السابق عبر تصفية مستعمراته في المنطقة، مروراً باحتواء الخصم السوفيتي، وضمان تدفقات النفط من المنطقة، وما تطوّر لاحقاً من مشروع حماية إسرائيل (الشريك الاستراتيجي الرئيس)، والشركاء الآخرين في الإقليم، قبل أن تتبلور المصلحة الأمنية الجديدة بعد الحرب الباردة في مكافحة الإرهاب ومنع الانتشار النووي. لكن مستوى الالتزام الأمريكي ومستوى المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط شهد تراجعاً ملحوظاً طيلة العقد الماضي، وصولاً إلى ترك مساحات استراتيجيات سمحت لقوى أخرى بالعمل ضمن الشرق الأوسط (الفاعلين من الدول ومن غير الدول).
ويمكن وصف هذه المساحات بأنها فراغ استراتيجي سارعت عدة دول لملئه، ما أعاد ضبط/زعزعة ميزان القوى في الشرق الأوسط، انعكاساً للتغيرات الجارية في ميزان القوى الدولي. ما أدخل المنطقة في حالة نزاعٍ مسلّح ممتدٍّ جغرافياً وزمانياً، وخلق أزمات بنيويّة مستعصية على الحل، وأنتج مجموعة من الدول الفاشلة، عزّزت فكرة الفراغ الاستراتيجي، وخلقت مزيداً من التهديد الأمني لدول المنطقة، دفعتها للقبول بتسويات قائمة على نتائج تلك النزاعات، في عملية هي أشبه بالهُدَن لتبريد تلك الأزمات، لكنها غير قادرة على حلّها بطرق سلمية مستدامة، ما ينذر بعودة انفجارها في أي وقت.
التأسيس للحضور الأمريكي في الشرق الأوسط
كان اكتشاف أرامكو الحدث الأكثر أهمية في تاريخ النفط، وبالتالي غيّر وجه العلاقات الأمريكية-السعودية، ففي عام 1943، استفادت السعودية من المساعدة في اتفاقية الإعارة والتأجير (Lend-Lease) مع أنها لم تشارك في الحرب العالمية الثانية. وحينما وجّهت أرامكو الدعوة إلى شركتين أميركيتين أخريين (Mobil and Jersey Standard) للمشاركة في بناء خط النفط العابر للجزيرة العربية باتجاه البحر الأبيض المتوسط، ألغت إدارة ترومان اعتراضات مكافحة الاحتكار لوزارة العدل على أسس الأمن القومي، وبعد ذلك سمحت لـ CIA بالتخطيط لإطاحة حكومة القوتلي السورية التي كانت تعرقل المشروع (2).
وكانت الولايات المتحدة حاضرة في كل نزاعات الشرق الأوسط، بشكل مباشر أو غير مباشر، بدءاً من الحرب العربية-الإسرائيلية الأولى عام 1948، وليس انتهاءً باللحظة الراهنة.
وأدارت الولايات المتحدة حضورها في الشرق الأوسط عبر مبادئ/عقائد رئيسة تمثلت في:
"Aggressive containment, or a strategy of containment through sanctions and the occasional resort to force".
واحتواء إيران عبر سياسة الاحتواء النشط "active containment" عبر استبعاد استخدام القوة العسكرية والعمل على إقناع النخب الإيرانية بالتقارب مع الغرب (6).
كما عملت الولايات المتحدة عبر ترتيبات أمنية عديدة، بدءاً من منظمة المعاهدة المركزية (سينتو CENTO) التي وَقَع ميثاقها عام 1955 عدد من دول الشرق الأوسط بما في ذلك إيران (8). والإشراف على المنطقة عبر (سنيتكوم CENTCOM) أو القيادة الأمريكية المركزية للشرق الأوسط ووسط آسيا التي تم تأسيسها عام 1983. إلى جانب مجموعة من المهام الفرعية للجيش الأمريكي المنتشرة عبر المنطقة.
هذه المبادئ والآليات، وما رافقها من أحداثها، سمحت للولايات المتحدة بتأسيس قواعد عسكرية في خمسة عشر دولة عربية (9) –بغض النظر عن حجم هذه القواعد ومهامها وطول مدتها–، إلى جانب قواعدها في تركيا وإسرائيل وأفغانستان، لضبط الشرق الأوسط (انظر الخريطة). عدا عن أن سبع دول عربية (10) هم حلفاء للولايات المتحدة من خارج الناتو Non-NATO Allies إلى جانب إسرائيل (الحليف الاستراتيجي الرئيس منذ 2014)، من أصل ثمانية عشر حليفاً في ذات التصنيف. بينما تعتبر البحرين والإمارات شركاء أمنيين رئيسين للولايات المتحدة. وتضم قطر القاعدة المتقدمة للقيادة العسكرية الأمريكية لمنطقة الشرق الأوسط ووسط آسيا (CENTCOM). وترتبط الولايات المتحدة باتفاقيات تجارة حرة مع أربع دول عربية (11) وإسرائيل، من أصل عشرين اتفاقية تجارة حرة أمريكية حول العالم. وتشمل اتفاقيات الاستثمار المشترك خمس دول عربية (12) وتركيا. وتمتلك الولايات المتحدة اتفاقيات تأطيرية تجارية واستثمارية مع كل دول الشرق الأوسط باستثناء سورية وإيران. وتعتبر السعودية أكبر مشترٍ للسلاح الأمريكي على مستوى العالم. فيما تكلفت حروب الولايات المتحدة في العراق وسورية وأفغانستان وباكستان، قرابة 6.4 تريليون دولار، مضافاً إليها 2 تريليون دولار دفعات فوائد حتى عام 2030 (13).
الوجود العسكري الأمريكي حول العام
سيقع اختلاف كبير في تحديد شكل النظام الدولي الحالي، لكن ما قد يتم الاتفاق حوله، بأن النظام الحالي International Order، هو في حالة سيولة مفرطة تحضيراً للانتقال إلى شكل آخر في المستقبل المنظور. فالنظام الدولي أحادي القطبي الذي ساد فترة ما بعد الحرب الباردة، انتقل من مرحلة النظام الأحادي الصلب إلى المرن وصولاً إلى حالته السائلة اليوم fluid situation.
ولعل أبرز من تحدث في ذلك، فيلسوف الواقعية الهجومية ميرشهايمر John J. Mearsheimer، الذي يعتبر أن النظام الدولي انتقل من حالة الأحادية القطبية إلى التعددية منذ عام 2016، وأن ذلك كان بمثابة حكم إعدام على النظام الدولي الليبرالي (14). هذا التحول وإن لم يكن واضحاً حينها بذات الشكل القائم اليوم، إلا أنه أسس لتوجهات شرق أوسطية ستكون خارج النسق المضبوط أمريكياً.
بل يمكن العودة إلى أبعد من ذلك، لتأسيس حالة الانفكاك التدريجي بين الشرق الأوسط والولايات المتحدة، وبالتحديد إلى الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، والذي ربما كان أوضح حالة حرب عدوانية أمريكية في تاريخ الولايات المتحدة. تلك الحرب، مثلت ذروة الامتداد الأمريكي عالمياً، لكنها ستعني لاحقاً، الوصول إلى مرحلة التمدد الاستراتيجي الزائد (المرحلة القصوى في تمدد الإمبراطوريات)، مع قلق عالمي متسع حول تلازم المسارين العسكري والرسالي (فرض الدمقرطة والحريات عبر القوة العسكرية). فمنذ تلك اللحظة، شهد الشرق الأوسط ضغطاً هائلاً نحو مزيد من الفوضى، أو ما اعتبرته رايس Condoleezza Rice الفوضى الخلاقة creative destruction. وبدءاً من ذاك التاريخ سيشهد الشرق الأوسط ما يلي:
هذه المسيرة، كانت عملية دفع مستمر لحكومات الشرق الأوسط بعيداً عن الولايات المتحدة، وإن لم يتوفر خيار الانفكاك حينها، إلا أن السلوك الأمريكي، كان يعني إلزام دول الشرق الأوسط بتوفير أقصى حماية للمصالح الأمريكية، في وقت كانت الولايات المتحدة تضغط بشكل أوامري على هذه الدول، دون أن يكون هناك أي التزام أمريكي بالدفاع عن دول المنطقة.
وعليه، يمكن تفسير رأي ميرشهايمر بأن النظام الدولي الليبرالي انتهى عام 2016، بأنه متزامن مع وصول ترامب إلى السلطة وتخليه عن المشروع الرسالي (الدمقرطة واللبرلة)، وتعزيز ما يُعرَف بالانعزالية الأمريكية (أو بشكل أكثر دقة: الأحادية الأمريكية)، مُمهِّداً الطريق أمام العديد من شركاء/حلفاء الولايات المتحدة للبحث عن خيارات بديلة، في وقت كانت فيه روسيا والصين تتقدم على أنها بديل دولي "غير رسالي Value-Free Diplomacy"، وهو خيار أكثر مناسبة لكثير من دول الجنوب. بل إن روسيا من خلال التزامها العسكري الواسع بمشاركة نظام الأسد في العمليات العسكرية ضد الشعب السوري، ودفاعها المستميت عنه في المحافل الدولي، أثبت أنها حليف ثابت وملتزم أكثر من الولايات المتحدة (ترويج سياسي تحالفي) إلى جانب ترويج المبيعات العسكرية عبر استخدام سورية لتجربة أكثر من 300 نوع من الأسلحة الروسية الجديدة (15).
ونتيجة هذا الاضطراب الشديد في سياسات الشرق الأوسط، أو ما أسماها الرئيس الأمريكي الأسبق ريغان "السياسات غير العقلانية للشرق الأوسط the irrationality of Middle Eastern politics" (16)، فإن ميزان القوى الإقليمي اختل مرات عدة في العقود الثلاثة الماضية، مستبعداً دولاً كانت راسخة في معادلات القوة (العراق وسورية)، ومضيفاً دولاً متوسطة الحجم (الإمارات). لكن الميزان عموماً أصبح أكثر ميلاً نحو القوى الإقليمية (إيران وتركيا وإسرائيل). ولعل أبرز محاولات تصحيح هذا الاضطراب، كانت مساعي أوباما، لخلق توزان إقليمي سعودي-إيراني، لم يكتب له النجاح، لكنه ضبط السلوك النووي الإيراني، لفترة وجيزة على الأقل.
حددت دراسة لمركز راند الأمريكي RAND، عام 2022، عشر مصالح أمنية (على شكل تحذير من تهديدات محتملة) للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، تتمثل فيما يلي (17):
من هذه القائمة الواسعة، يمكن استدراك أن مصالح الولايات المتحدة في الشرق الأوسط لم تعد بذات الأهمية التي كانت قائمة قبل عقدين أو أكثر، وفي حال اعتمدنا المعايير التي وضعها وليام بيري وآشتون كارتر William Perry and Ashton Carter (18)، نجد أنها مصالح ليس لها علاقة بفئة التهديدات الأولى (Category A) المتعلقة بالتهديد الوجودي للولايات المتحدة، ولا بالفئة الثانية (Category B) المتعلقة بالتهديدات الوشيكة للمصالح الحيوية للولايات المتحدة، بل هي متعلقة أكثر منها بالفئة الثالثة (Category C)، والتي عرّفاها بأنها حالات طارئة مهمة تؤثر بشكل غير مباشر في أمن الولايات المتحدة، لكنها لا تهدّد المصالح الأمريكية بشكل مباشر.
يأتي هذا التغيير في مستوى الاهتمام الأمريكي بالشرق الأوسط، أو ما يعتبره البعض إعادة معايرة recalibration للمصالح الأمريكية في الشرق الأوسط عبر آليتي: تخفيض مستوى أهمية المنطقة deprioritizing، وتقليل الالتزام المالي والحضور العسكري فيها retrenchment، في ظل معطيين دوليين بالغي الأهمية:
أعاد هذان التغيران الدوليان ترتيب الأولويّات في السياسة الخارجية الأمريكية –منذ ولاية أوباما الثانية–، بما يتطلب إعادة معايرة أهداف الولايات المتحدة عالمياً، وتخصيص أكثر كفاءة لموارد الولايات المتحدة لاحتواء هذين التهديدين عاليي الخطورة –إن أمكن ذلك–، قبل التوجه إلى حرب مباشرة يبدو أن هناك العديد من القوى التي تدفع نحوها.
هذه المعايرة، تفرض على الولايات المتحدة التخلص من الأعباء الزائدة، العسكرية والمالية، لرفع مستوى الجاهزية على المستوى الدولي في مواجهة روسيا والصين. ويمكن أن نضع في هذا السياق الانسحاب المتوالي من المنطقة، بدءاً من انسحاب أوباما من العراق، والتدخل الفوضى في ليبيا ثم الانسحاب عنه، والتراجع عن الالتزامات الأمريكية في سورية، والانسحاب الفوضوي الأمريكي من أفغانستان، والتغاضي عن النشاط العسكري الإيراني العدواني في المنطقة (إيكال مهمة التصدي لإيران –جزئياً– لإسرائيل).
لكن هذه المعايرة، في ذات الوقت، لا تعني انفكاك الولايات المتحدة عن الشرق الأوسط، بقدر ما هو تخفيض أهمية الشرق الأوسط، فكما مر سابقاً، يتنوع الحضور العسكري طويل الأمد في الشرق الأوسط، من عسكري وسياسي واقتصادي وأمني وتكنولوجي وتنظيمي وعملياتي. لكن هذا التخفيض يترك حتماً مساحات يمكن للقوى المنافسة (الإقليمية والدولية) العمل من خلالها في الشرق الأوسط، أو ما يعزز فكرة الفراغ الاستراتيجي في الشرق الأوسط Strategic Vacuum.
وهو ما كان الرئيس بايدن وقد وعد به في حملته عام 2019، حين قال: "سننهي الحروب الأبدية في أفغانستان والشرق الأوسط، والتي كلفتنا دماءً وأموالاً لا توصف ... وسيكون تركيز مهمتنا بشكل ضيق على القاعدة وداعش. وسننهي دعمنا للحرب التي تقودها السعودية في اليمن. إن البقاء في صراعات لا يمكن كسبها يستنزف قدرتنا على القيادة في قضايا أخرى تتطلب اهتمامنا، ويمنعنا من إعادة بناء الأدوات الأخرى للقوة الأمريكية (19)".
ما نقصده بالفراغ الاستراتيجي، هو على أشكال عدة، فهو مساحات تسمح لقوى خارجية بالتدخل العسكري والسياسي وتوجيه السياسات العامة لمنطقة ما. هذا الفراغ إما أن يكون ناجماً عن انهيار دولة تاركاً خلفه مجالاً لعمل القوى الخارجية، أو عن غياب ترتيبات إقليمية تمنع تدخل قوى خارجية (غياب قيادة إقليمية)، أو عن تلك المرحلة اللاحقة لانهيار ترتيبات إقليمية ما وقبل بروز أخرى، وقد يكون ناجماً عن انسحاب أو تراجع دور دولة كبرى من إقليم ما. جميع هذه الحالات تقود إلى ترك مساحات مصلحية وأمنية تتطلع القوى الإقليمية والدولية لتعظيم مصالحها منها، أو للتحوط الاستراتيجي والأمني من خلال العمل فيها.
وربما تكون مناطق الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وإفريقيا جنوب الصحراء (MENA and SSA)، في الوقت الحالي، المناطق الأكثر اضطراباً على مستوى العالم، وتحديداً مع توسع دائرة الدول المنهارة (الفاشلة)، وحضور جميع القوى الكبرى في المنطقة، إضافة إلى تعدد القوة الإقليمية الفاعلة والمتنافسة فيما بينها. يضاف إلى ذلك تصاعد دور الفاعلين من غير الدول (ميليشيات، مرتزقة، شركات عسكرية، منظمات إرهابية، جماعات انفصالية، شركات عالمية متعدية القوميات، حركات تمرد، ثورات مسلحة).
هذا يعني أن الحضور في الشرق الأوسط عالي التكلفة، نتيجة التنافس الحاد بين الخصوم، وهو مبرر آخر لإعادة معايرة المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط، مع انخفاض العوائد الاستراتيجية من هذا الحضور طويل المدى ومتعدد الأشكال.
لكن بالنسبة إلى القوى الأخرى، وبالأخص روسيا والصين وإيران وتركيا، هو حضور مقبول التكلفة نسبياً، حيث أن المنافع من ذلك تعود على أصحابها بتعزيز مكانتها الدولية في سعيها إلى صدارة المشهد الدولي بالنسبة إلى روسيا والصين، أو الإقليمي بالنسبة إلى إيران وتركيا. لذا يبدو أن انخراط هذه القوى في شؤون الشرق الأوسط مرتبط بشكل طردي بتخفيض الارتباط الأمريكي، كون الشرق الأوسط أرض الفرص الاستراتيجية.
وتشبه هذه العملية، ما يعرف في علم الفيزياء بنظرية الأواني المستطرقة، حيث أن انخفاض مستوى نفوذ دولة ما في إقليم ما، سيتبعه حتماً اندفاع نفوذ من قوى أخرى لملء هذا الفراغ. وهذا يضعنا أمام فرضية "حتمية ملء الفراغ"، إذ لا يمكن أن يُترَك فراغ استراتيجي (ذو منافع استراتيجية أو تهديدات أمنية) دون أن تستحوذ عليه القوى الأكثر فعالية وقدرة من سواها، أي أن هذا الاستحواذ مرتبط بالقوى الأكبر إقليمياً ودولياً من جهة، وذات المشروع الإقليمي والدولي من جهة ثانية.
أدى تصاعد التوترات الدولية والإقليمية، وإعادة معايرة الوجود الأمريكي في المنطقة، إلى بروز توجه سياسي أكثر استقلالية لدى دول المنطقة، وليس بالضرورة أن يكون قادراً على ملء الفراغ أو المساهمة في عملية ملء الفراغ، لكن سياسات الولايات المتحدة طيلة العقدين الماضيين مترافقة مع الفوضى الواسعة والمستمرة واشتداد التدخل الدولي والإقليمي في المنطقة، دفع دولاً مثل السعودية والإمارات، ودول أخرى، إلى اعتماد نهج جديد، رأى فيه البعض انفكاكاً عربياً عن الولايات المتحدة، وهذا رأي يبدو أنه غير دقيق على أرض الواقع نتيجة عمق الارتباط الأمريكي-شرق الأوسطي.
يمكن اعتبار النهج العربي الجديد، نهج التحالفات المتعددة Omni-Aligned، وليس نهج الحياد التحالفي الذي ساد فترة الحرب الباردة Non-Aligned. وقد كان مايكل سينغ Michael Singh، قد شرح هذا النهج بأنه نهج قائم على التأثير في قرارات القوى الكبرى مع الاستفادة من مزايا التحالف معها كلها، وهي منافع تزداد مع ازدياد خشية القوى الكبرى من خسارة شركائهم/حلفائهم في ظل التنافس الدولي. أي أن هذا النهج يعمل كسياج ضد تقلبات سياسات القوى الكبرى. إذ تتجنب الدول متوسطة القوة والصغرة الانحياز إلى قوة منفردة مثلما تتجنب عدم الانحياز مطلقاً (20).
هذا السلوك معروف –نظرياً على الأقل– في علم العلاقات الدولية، بأنه: تزداد منافع الدول المتوسطة والصغرى وقدرتها على التحرك في ظل نظام دولي ثنائي أو متعدد، فيما تقل تلك المنافع والقدرة في ظل النظام أحادي القطب. لكن مع الحذر بأن هذه المنافع قائمة طالما أن التنافس بين القوى الكبرى مرن وسائل Fluid، أي أن تلك القوى لا تفرض على شركائها/حلفائها الانحياز إلى طرف ما –معنا أو ضدنا– (كما كان فترة الوفاق الدولي)، لكن بمجرد أن يستقر التنافس ويتحول إلى تنافس صلب (كما كان إبان اشتداد الحرب الباردة) فإن تلك المنافع تعود للتقلص من جديد.
ما يعزز النهج العربي في التحالف متعدد الأطراف Omni-Aligned، مجموعة من العوامل، أبرزها:
هذه العوامل وسواها، دفعت دولاً عربية، إلى إعادة معايرة سياساتها ومصالحها في الشرق الأوسط هي الأخرى، وفق المعطيات القائمة، وليس وفق منظور الأمن الإقليمي الأوسع، أي البناء على ما هو قائم اليوم، عوضاً عن البناء على ما يفترض أن يكون قائماً. هذه المعايرة، دفعت إلى نهج يمكن تسميته (تبريد الأزمات الإقليمية cooling regional crises)، ليس بهدف حلها بقدر ما هو بهدف تجميد الوضع الراهن والإقرار به وضعاً شبه نهائي ما أمكن.
سلسلة من العمليات شهدها الشرق الأوسط منذ عام 2021 ضمن عمليات التبريد هذه، ربما أولها كانت اتفاقات أبراهام بين أربع دول عربية وإسرائيل، تلاها المصالحة الخليجية-الخليجية، ثم المصالحة الخليجية-التركية والمصرية-التركية، والهُدَن في اليمن، وإعادة العلاقات السعودية-الإيرانية، وليس آخراً سعي بعض الدول العربية إلى إعادة نظام الأسد إلى جامعة الدول العربية –بغض النظر عن حجم المأساة السورية التي تسبب بها، وتعقدها، وعن الأبعاد القانونية والأخلاقية–.
لكن ذلك لا يعني أن دول المنطقة تسعى للانفكاك عن الولايات المتحدة، بقدر ما تبحث عن استقلالية في القرار السياسي –بغض النظر عن صوابية ورشادة بعض القرارات–، أو ما يشبه النهج الإسرائيلي في التعامل مع الولايات المتحدة. ولعل السياسات الخارجية لدولة الإمارات الأكثر وضوحاً في اتباع هذا النهج الاستقلالي دولياً، من خلال التشبيك مع كافة القوى الدولية والإقليمية، بما يخدم مصالحها من جهة، ولا يفك ارتباطها مع تلك القوى من جهة ثانية.
ويرى كل من Sanam Vakil and Neil Quilliam، أن الحرب في أوكرانيا أصبحت تحدياً وتعقيداً إضافيين لدول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. مع تصاعد المنافسة الجيوسياسية، حيث أن دول الشرق الأوسط تسعى للتوازن بين استقطاب روسي ضعيف لكنه مؤثر، واستقطاب أمريكي-صيني. وفيما تشعر الولايات المتحدة وأوروبا من خيبة أمل شديدة بسبب عدم استعداد شركاء الشرق الأوسط للانحياز إلى أي طرف في الحرب الروسية في أوكرانيا، فإن دول الشرق الأوسط بدورها تشعر بالإحباط نتيجة الإجراءات السريعة التي اتخذتها الولايات المتحدة لدعم أوكرانيا مقارنة باستجابة الولايات المتحدة للتحديات الأمنية المتعلقة بإيران.
ويعتقدان أن دول المنطقة، أصبحت تدرك أكثر من أي وقت مضى أن العلاقات الوثيقة مع الولايات المتحدة هي الضمان الأمني الوحيد المعروض عليها. ففي حقبة ما بعد COVID-19، لا تزال الصين منشغلة بشؤونها الداخلية وغير مهتمة بمغامرات في الشرق الأوسط. ومع استعداد الولايات المتحدة والصين على ما يبدو لمواجهة جيوسياسية طويلة الأمد، تحرص دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا على تجنب الوقوع في الوسط بينهما.
فيما لم يُترجم تعدد الشراكات الاستراتيجية الشاملة الموقعة بين دول المنطقة والصين إلى مصلحة استراتيجية أقوى من جانب الأخيرة، ما يجعل دول المنطقة لا تزال تعتمد على الولايات المتحدة في دعم الأمن الإقليمي. وهذا يعني أن الدور الصيني في اتفاق المصالحة السعودية-الإيرانية لن يقود إلى دور أمني صيني فوري في المنطقة.
وفي غياب أي حل إقليمي لتهديد إيران، أو إحراز تقدم في محادثات الولايات المتحدة بشأن الانضمام مجدداً إلى خطة العمل الشاملة المشتركة JACPOA، يظل دور الولايات المتحدة والطبيعة الحزبية للمشاركة الأمريكية مهماً لشركائها الإقليميين. وفي تحول ملحوظ بعيدًا عن الانتشار العسكري، تسعى الولايات المتحدة إلى تعزيز موقعها من خلال مشاركة إقليمية أوسع وشراكات ثنائية اقتصادية وأمنية(21).
أي أن دول المنطقة (وخصوصاً الدول الخليجية)، تسعى للعمل مع الولايات المتحدة وفق شروط جديدة، لا بهدف الانفكاك، بقدر ما هو بهدف الوصول إلى حالة من الاستقلالية والمرونة الإقليمية. لكن الإشكال يبقى في نهج التبريد لأزمات المنطقة، أنها أزمات بالغة التعقيد، ولا يمكن حلها من خلال تبريدها. عملية التبريد هذه ستقود إلى فترة وجيزة من اللاسلام واللاحرب في المنطقة، قبل أن تعود تلك الأزمات للانفجار من جديد (ويبدو أن أزمة السودان شاهدة على إمكانية التفجر السريع دون ضوابط)، عدا عن أن الإقرار بالواقع الحالي، يعني الإقرار بنفوذ إيران في أربعة دول عربية وقطاع غزة، وهذا يمنح إيران فترة للاستعداد لمرحلة جديدة من النفوذ أبعد من ذلك (كما حصل بعد التقارب السعودي-الإيراني مطلع العقد الماضي).
وخصوصاً أن النزاعات الإقليمية لم تكن نزاعات تقليدية بين دول بشكل مباشر، بقدر ما كانت نوعاً من الحروب الهجينة أو ما بات يعرف بحروب المناطق الرمادية (Gray-Zone (22))، والتي تجيد إيران أدواتها (الميليشيات والوكلاء، حرب المعلومات، الإكراه السياسي، الإكراه الاقتصادي، الاستفزاز العسكري).
الإشكال الآخر، يكمن في طبيعة المشروع الإيراني، والذي يتجاوز موضوع ملء فراغ استراتيجي في الشرق الأوسط والسعي أو تصدّر ميزان القوى الإقليمي، إلى أنه مشروع أيديولوجي يقوم على أسس تاريخية-دينية لا يمكم التراجع عنها، سواء من قبل نظام الملالي أو سواه من القوى الإيرانية المستندة إلى البعد القومي-الفارسي. وهو مشروع يعمل على خلق فراغ في الشرق الأوسط، وليس مجرد ملء فراغ حاصل. وكان الرئيس الأمريكي السابق ترامب، قد غرّد بأن إيران لم تربح حرباً أبداً، لكنها لم تخسر مفاوضات أبداً (23)، حيث لم تستطع الولايات المتحدة قهر إيران تفاوضياً، ولا يُعتَقد أن دول الخليج قادرة على إلزام إيران تفاوضياً. وهذا يثّقل كفتها مع حضورها عبر وكلائها على امتداد الشرق الأوسط، وما يجعل إعادة العلاقات الدبلوماسية بينها وبين السعودية أشبه بهدنة لالتقاط الأنفاس. بل يمكن اعتبار جلّ عملية تبريد الأزمات الإقليمية، بمثابة هدن بين القوى المتنافسة على امتداد الشرق الأوسط، خصوصاً أن مصالح هذه الدول الجيوسياسية لا يمكن لها أن تتوافق على المدى المتوسط والبعيد.
تشير كل المتغيرات الدولية، إلى أن النظام الدولي متجه إلى تغيير واسع، ربما يكون متعدد الأقطاب، أو مُنتِجاً لآليات وأشكال غير معتادة بعد. لكن المؤكد أن البيئة الدولية ذاهبة نحو مزيد من السيولة، وما تفرضه من تهديدات أمنية إقليمية ودولية، على المستويات السياسية والاقتصادية والعسكرية. أي أن المرحلة الحالية في النظام الدولي هي مرحلة اللايقين uncertainty، وهي وفق النظرية الواقعية، مسبب رئيس للمعضلات الأمنية وتعظيم عمليات سباق التسلح والقابلية للدخول في نزاعات مسلحة (حروب استباقية ووقائية)، وخصوصاً أن الحروب بين الدول اتخذت أشكالاً جديدة باتت تعرف بحروب المناطق الرمادية Gray-Zone، والتي تسمح للدول بالانخراط في حروب متعددة الأشكال دون إعلان للحرب ذاتها، ويبدو أن إيران وروسيا تجيدان هذا النوع من الحروب بكفاءة.
تزوّد هذه السيولة دول الجنوب بمرونة العمل بين القوى الكبرى، بما يسمح لها بتحصين ذاتها –وإن كان تحصيناً مؤقتاً– وتعظيم مصالحها ما أمكن. وخصوصاً أن التنافس الدولي الحالي يقدم بدائل عن "الرسائلية العسكرية" الأمريكية التي أنهجت كثيراً من دول الجنوب –وخصوصاً دول الشرق الأوسط–. بل ويمكن القول إن مشروع فرض الدمقرطة واللبرلة عالمياً، أصبح مشروعاً قيد الطي، ولم يعد بالإمكان الاستناد إليه لتحصين المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط.
وحيث أن الشرق الأوسط يبقى مرآة لما يجري في النظام الدولي، فإن حدة التنافسات الإقليمية ومستوى الخرائب المنتشرة في المنطقة (على شكل دول فاشلة) يوحي بعمق الأزمات التي سيواجهها النظام الدولي في المرحلة القادمة. وهذا يفرض على دول المنطقة البحث عن حلول بنيوية متكاملة لأزماتها الإقليمية عوضاً عن تبريد تلك الأزمات، وتأجيل حلها. فالقبول بالوضع الراهن لن يكون حلاً بقدر ما هو تكريس للأزمات، ودفع لها نحو موجة خراب جديدة في الشرق الأوسط، وفرص معروضة أمام القوى الدولية لاستغلالها.
([1]) Look at: www.risks-solutions.com
رئيس المكتب الاستشاري لشؤون الشرق الأوسط وشمال إفريقيا
(2) فيكتور بولمر توماس، إمبراطورية في حالة تراجع: الولايات المتحدة الأمريكية بين الماضي والحاضر والمستقبل، ترجمة: توفيق سخان (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الطبعة الأولى، 2022)، ص 354. في عام 2015، استوردت الولايات المتحدة حوالي 9.4 مليون برميل من النفط يومياً، وكان يأتي من السعودية 1.06 مليون برميل (11% فقط).
(3) For more about Truman Doctrine, look at https://www.britannica.com/event/Truman-Doctrine
(4) For more about Eisenhower Doctrine, look at https://www.britannica.com/place/Middle-East
(5) For more about Carter Doctrine, look at https://www.britannica.com/topic/Carter-Doctrine
(6) For more about Dual-Containment, look at:
https://www.washingtoninstitute.org/policy-analysis/dual-containment-revive-it-or-replace-it
(7) For more about Obama Doctrine, look at:
https://www.theatlantic.com/magazine/archive/2016/04/the-obama-doctrine/471525/#5
(8) كانت تدعى سابقاً معادة الشرق الأوسط Middle East Treaty Organization (METO).
(9) هذه الدول هي: الأردن، العراق، السعودية، الكويت، اليمن، البحرين، قطر، الإمارات، عمان، جيبوتي، مصر، تونس، الجزائر، موريتانيا، المغرب.
(10) هذه الدول هي: البحرين، مصر، الأردن، الكويت، المغرب، قطر، تونس.
(11) هذه الدول هي: البحرين، الأردن، المغرب، عمان.
(12) هذه الدول هي: البحرين، مصر، الأردن، المغرب، تونس.
(13) Shelly Culbertson, Howard J. Shatz, Stephanie Stewart, Renewing U.S. Security Policy in the Middle East (California: RAND Corporation, 2022), p xi.
(14)"The world became multipolar in or close to 2016, and that the shift away from unipolarity is a death sentence for the liberal international order, which is in the process of collapsing and will be replaced by realist orders". Look at John J. Mearsheimer, "Bound to Fail: The Rise and Fall of the Liberal International Order", International Security, Vol. 43, No. 4 (Spring 2019), p 8 (footnote).
(15) Claire Parker, "Russia’s Ukraine war builds on tactics it used in Syria, experts say", The Washington Post, March 31, 2022:
https://www.washingtonpost.com/world/2022/03/31/russia-ukraine-mariupol-siege-aleppo-syria/
(16) Alan Bock, "Reagan’s Wisdom on the Middle East: Leave", Orange County Register, July 21, 2006:
https://www.ocregister.com/2006/07/21/reagans-wisdom-on-the-middle-east-leave/
(17) Shelly Culbertson, Howard J. Shatz, Stephane Stewart, Renewing U.S. Security Policy in the Middle East (Published by the RAND Corporation, Santa Monica, California, USA, 2022), pp. xi-xiii.
(18) للاطلاع على المزيد قائمة المصالح الأمريكية، انظر:
Joseph S. Nye, Jr, "Redefining the National Interest", Foreign Affairs, Volume 78, Number 4, July/August 1999, pp. 27-31.
(19) Biden for President, "The Power of America’s Example: The Biden Plan for Leading the Democratic World to Meet the Challenges of the 21st Century": www.joebiden.com
(20) For more about Omni-Aligned, look at: Michael Singh, "The Middle East in a Multipolar Era: Why America’s Allies Are Flirting With Russia and China", Foreign Affairs, December 7, 2022:
https://www.foreignaffairs.com/middle-east/middle-east-multipolar-era
(21) Sanam Vakil and Neil Quilliam, The Abraham Accords and Israel–UAE normalization: Shaping a new Middle East Middle East and North (London: Chatham House, March 2023), pp. 75-76.
(22) For more about 'Gray Zone', look at:
Joseph Votel, Charles T. Cleveland, Charles T. Connett, and Will Irwin, "Unconventional Warfare in the Gray Zone", Joint Force Quarterly (Vol. 80, 1st Quarter 2016), pp. 101-109
(23) "just remember, the Iranians never won a war, lost a negotiation", look at: @realDonaldTrump on Twitter, 1:10 AM, July 30, 2019:
https://twitter.com/realDonaldTrump/status/1155941248705761280
ابق على اطلاع على النشرة الإلكترونية