مدخل تاريخي
زحف عبيد الله الشّيعي على رقّادة «القيروان» من المغرب الأقصى(1) مقترفًا أشرس حرب تطهير ديني ضدّ أهل السُّنة وقهر سكّان البلاد وأجبرهم على التّشيّع، ولم يطمئنّ عبيد الله الشّيعي إلى ولاء أهل القيروان له، فانطلق إلى المهديّة ليجعلها مدينة له، ولينطلق منها إلى الاستيلاء على مصر ويستقر بها عاصمة له سنة 973. ودام حكم "الفاطميّين" في تونس 64 عامًا.
ولم تلبث تونس أن تمرّدت على واليه وعادت إلى مذهب مالك السّني ليزول التّشيّع من تونس نهائيًا. كما أُطيح بالتّشيّع ودولته أيضًا في مصر على يد صلاح الدّين الأيّوبي.
وطهرت المنطقة من الشّيعة وخلُصت لأهل السّنّة أزيد من ألف عام خالية من الفرق إلاّ قلّة من الإباضيّين تعايشوا مع أهل السّنّة في أمان، وظلّ الأمر على ذلك النّحو حتّى انطلاق ما يُسمّى الثّورة الإيرانيّة عام 1979 حيث تسرّب التّشيّع الدّيني عبر مناصرة التّشيّع السّياسي لإيران وما يُسمّى بطولات حزب الله.
فمن وراء بسط التشييع في تونس في تلك المرحلة التي لم يكن فيها شيعي تونسي فيما نعلم قبل سنة 1979؟
ومن أبرزُ الأشخاص الذين غَلَوْا وتراموا في تبييض الخميني الشيعي وإيران الصفوية؟
هذه الدراسة تكشف بالأدلة والتوثيق العلمي من وراء ذلك التشييع في تونس.
إنّ أيّ تقارب مع دين الشّيعة أو إيران وسياساتها التّوسّعيّة العدوانيّة هو ـ بلا منازع ـ تهديد كبير لأمن تونس والتّونسيّين وزرع لمستقبل من نزاع قذر مرير، وراشد الخرّيجي شُهر الغنّوشي لا يرى ذلك، ولذلك لم يعارض أيّ اتّفاق مع إيران سواء كان ثقافيًّا أو علميًّا أو اقتصاديًّا أو سياحيًّا، هذا فضلًا أن يُغلق مراكز إيران في تونس أو يجمّد نشاط توابعها من نشطاء الشّيعة بتونس لمّا حكم تونس بعد ما يُسمّى ثورة، بل شارك الخرّيجي في مؤتمراتها أو غيرها في إيران أو في سفارتها في تونس في كلّ مناسبة كحضوره بمناسبة الاحتفال بالذكرى 37 للثورة الإيرانية الطائفية، كما حرص أيضًا على توجيه الدّعوة لسفيرها لحضور مناسبات حزب النّهضة سواء كانت سياسيّة أو دينيّة، من مثل احتفالهم بالمولد النّبوي الشّريف هذه السّنة.
لقد تماهى الغنّوشي في الشّيعة مُبكّرًا منذ (1968/1969) حيث انتظم منذ شبابه خلال إقامته بباريس بعضويّة فاعلة في جمعيّة طلاّبيّة يُشرف عليها شيعي إيراني، وكان الغنّوشي يُعين الإيراني في ترجمة خطب الخميني من الفرنسيّة إلى العربيّة، والغريب أنّ الغنّوشي يعترف ـ في فخر واعتزاز ـ أنّه هو ومن معه من السّنّة اختاروا هذا الإيراني رئيسًا لهم فيكتب: “وإنّ ممّا يلفت النّظر أنّ ذلك الطّالب الإيراني الذي اخترناه لرئاسة جمعيّة الطّلبة المسلمين بفرنسا كان الإيرانيّ الوحيد، وكان شديد التّديّن على المذهب الجعفري، وما اعترض أحد على تشيّعه أو أثار هذا الموضوع جدلاً أو شكّل عائقاً أو مصدر حرج لاختياره لموقع الرّئاسة في جمعيّة كلّ أعضائها سنّيّون شدّهم إليه تديّنه وكفاءته “(2).
اعتنق راشد الغنّوشي كثيرًا من العقائد الفاسدة للخميني وأتباعه، وانخدع بزخرف شعاراته وتبناها وتماهى فيها فنقل عنهم نفس بدعهم الخبيثة بتصرّف، وتجلّى ذلك في أمور منها:
1– طعنه في الأنبياء عليهم السلام، مُتّهما إيّاهم بالفشل في الجمع بين الإصلاح العقائدي والسّياسي حسب ادّعائه، فكتب:” وهو تعبير صارخ عن فشل مهمّة الجمع بين الإصلاح العقائدي و السّياسي معا “(3). وهذه الطّامّة نقلها الغنّوشي عن الخميني القائل:” لقد جاء الأنبياء جميعًا من أجل إرساء قواعد العدالة في العالم، لكنّهم لم ينجحوا، حتّى النّبيّ محمّد خاتم الأنبياء الذي جاء لإصلاح البشريّة، وتنفيذ العدالة، وتربية البشر لم ينجح في ذلك. وإنّ الشّخص الذي سينجح في ذلك، ويرسي قواعد العدالة في جميع أنحاء العالم، في جميع مراتب إنسانيّة الإنسان وتقويم الانحرافات؛ هو المهدي المنتظر... فالإمام المهدي الذي أبقاه الله سبحانه وتعالى ذخرا من أجل البشريّة، سيعمل على نشر العدالة في جميع أنحاء العالم، وسينجح فيما أخفق في تحقيقه الأنبياء…” (4).
لقد جارى الغنّوشي الخميني وأخذ عنه تطاوله على الأنبياء وتجرّءه على الرّسل دون أن يدري أبعاد النّوايا الباطنيّة للخميني ” الباطني ” التي تستهدف تكسير ” قداسة ” الأنبياء والرّسل ـ عليهم السّلام ـ وصنع قداسة كهنوتيّة حول شخصه، لأنّ الخميني – بثورته – بلغ مستوى الرّسالات السّماويّة، وقاد أعظم ثورة لم يقم بها الأنبياء، ليقينه أنّه نائب المهدي له ما للمهدي من منزلة وقداسة، ألم يكتب الخُميني:” وإنّ من ضروريّات مذهبنا أنّ لأئمّتنا مقامًا محمودًا لا يبلغه ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل “ (5).
2 – طعن الغنّوشي وتشكيكه في خلافة أبي بكر الصّدّيق فكتب:” قوّل أدعياء التّسنّن على نبيّهم، فأوّلوا إنابته لأبي بكر في الصّلاة على أنّه استخلاف ” (6)، وقوله هذا يُوافق قول الخميني الذي كتب:” إنّ أبا بكر وعمر وعثمان لم يكونوا خلفاء رسول الله بل أكثر من ذلك، إنّهم غيَّروا أحكام الله، وأحلُّوا حرام الله، وظلموا أولاد الرّسول، وجهَّلوا قوانين الرَّبّ وأحكام الدّين”(7)، وقد أخذ الاستاذ راشد أيضًا هذا الطّعن من محمّد باقر الصّدر الذي يُقرّر أنّ الصّحابة ـ وحاشاهم ـ حرّفوا الخلافة إثر وفاة الرّسول مباشرة فقال:” هذا الانحراف وقع بعد وفاة النّبيّ (ص) وتمثّل في أنّ جماعة من صحابة الرّسول (ص) لم يرتضوا علياًّ المنصوص عليه من قبل النّبيّ (ص)، للخلافة فتصدّى بعضهم لها) (8)، وقال زيادة في التّفصيل:” الانحراف بدأ في أيّام ابن أبي قحافة وعمر، وكان انحرافاً مستوراً، وكان عمر موفّقاً جدّاً في أن يُلبس هذا الانحراف الثّوب الدّيني المناسب) (9)، ثمّ ادّعى أنّ بيعة السّقيفة لأبي بكر شوّهت الإسلام ومسخته فكتب:” لأنّ الأمّة كُتب عليها أن تعيش الحكم الإسلامي المنحرف منذ نجحت السّقيفة في أهدافها. إذن فالإسلام الذي تعطيه السّقيفة امتدادها التّاريخي هذا الإسلام إسلام مُشوّه ممسوخ، إسلام لا يحفظ الصّلة العاطفيّة فضلاً عن الفكريّة بين الأمّة ككلّ وبين الرّسالة، بين أشرف رسالات السّماء وأشرف أمم الأرض” (10).
3- ومن طعن الغنّوشي في الصّحابة قوله في عمر بن الخطّاب:” لو كان على كرسي الحكم اليوم عمر بن الخطّاب لصار مستبدّاً “(11). والحال أنّ عمر كان يتمتّع بصلوحيّات مطلقة بصفته أميرا للمؤمنين بمعنى أنّه غير مُلزم بشورى المسلمين، ورغم ذلك حكم وعدل وانتصر وأعزّ الإسلام والمسلمين وَأَمنَ.
4- أمّا الصّحابي الجليل وكاتب الوحي وصهر الرّسول معاوية بن أبي سفيان الملك المجاهد فقد أثخن فيه الخميني القائل:” فلو خرج سلطان على أمير المؤمنين عليه السّلام لا بعنوان التدين بل للمعارضة في الملك أو غرض آخر كعائشة وزبير وطلحة ومعاوية وأشباههم أو نصب أحد عداوة له أو لأحد من الائمة عليهم السلام لا بعنوان التدين بل لعداوة قريش أو بني هاشم أو العرب أو لأجل كونه قاتل ولده أو أبيه أو غير ذلك لا يوجب ظاهرا شيء منها نجاسة ظاهرية. وإن كانوا أخبث من الكلاب والخنازير لعدم دليل من إجماع أو أخبار عليه”(12). وسار راشد الخرّيجي سير إمامه الخميني فكتب:” الوالي المنشقّ معاوية بن أبي سفيان، وقد غلبت عليه – غفر الله له – شهـوة الملك وعصبيّة القبيلة، فلم يكتف بأن انتزع الأمر من أهله بل ومضى في الغيّ!! لا يلوي على شيءٍ حتّى صمّم على توريثه كما يوّرث المتاع لابنه وعشيرته، فجمع في قصّته المشهورة ثلّة من المرشّحين للخلافة من الجيل الثّاني من الصّحابة، وأمام ملأ من النّاس قام أحد أعوانه يخطب بصفاقة… وحيـنئذ بدأ مسلسل الشّرّ والفساد، مكرّساً الدّكتاتوريّة والوصاية والعصمة، مُقصياً الأمّة عن حقّها، مبدّداً طاقتها في جدلٍ عقيم حول الخلافة والاستخلاف “(13). ومن الأقوال التي وافق فيها الغنّوشي الرّافضة أيضا ما جاء على لسانه في خطبة جمعة له يوم 12/07/2013 في مركز حزبه بمونبليزير بتونس العاصمة أنّ معاوية تمرّد على الإمام عليّ وسنّ لعن عليّ على المنابر حتّى أبطله عمر بن عبد العزيز(14)، وهذا افتراء من افتراءات شيعة لم يقم دينهم إلاّ على الافتراء والكذب، لفّقوها على معاوية ضمن خرافاتهم التّاريخيّة دون إسناد! ومن المُقرّر أنّ الطّعن في أحد الصّحابة هو طعن فيهم جميعا، ومعاوية ستر من هتكه فقد هتك بيت الصّحابة جميعهم رضي الله عنهم.
فتأمّل كيف يحطّم راشد الخرّيجي رموز الأمّة السّابقين من الجيل الرّبّاني الفريد وانظر تطابقه في التّطاول على عدالة أبي بكر وعمر أبي بكرة و عمرو بن العاص وخالُه معاوية بن أبي سفيان، والرّسول صلى الله عليه وسلم حذّره من ذلك، فقال له:” لا تسبّوا أصحابي فلو أنّ أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مُدّ أحدهم ولا نصيفه ” وحذّره أيضا:” لا تسبّوا أصحاب محمّد صلّى الله عليه وسلّم فلمقام أحدهم ساعة خير من عمل أحدكم عمره” وتوعده:” من قال في مؤمن ما ليس فيه, أسكنه الله ردغة الخبال حتّى يخرج مما قال”.
5 - ومن طعون الخميني الخبيثة طعنه لعلماء أهل السّنّة وقُضاتهم، فقد أورد في كتابه ” الحكومة الإسلاميّة ”(15) ما نُسِب كذبًا إلى جعفر الصّادق: أنّه يرى التّحاكُم إلى قُضاة المسلمين السُّنَّة وحكَّامهم تحاكمًا إلى الطّاغوت، ثمّ يقول: ” الإمام – عليه السّلام – نفسه ينهى عن الرّجوع إلى السّلاطين وقضاتهم، ويعتبر الرّجوع إليهم رجوعًا إلى الطّاغوت “، ويسبُّ الخميني أحد قضاة الخلافة الرّاشدة وهو القاضي شريح ويقول عنه: “وكان شريح هذا قد شغل منصب القضاء قرابة خمسين عامًا، وكان متملِّقًا لمعاوية، يمدحه ويثني عليه، ويقول فيه ما ليس له بأهل، وكان موقفه هذا هدمًا لما بنته حكومة أمير المؤمنين”(16). وقد وافقه الغنّوشي في ذلك الهراء، فانطلق يُحطّم علماء أهل السّنّة في مناسبات عديدة، فكتب:” قاموا بصفقة تاريخيّة لهم الشّريعة والحكّام لهم السّلطة “(17). ويكتب مرّة أخرى: ”والوفاق التّاريخي بين العلماء والحكّام“(18). واتّهمهم أخرى أنّهم مجرّد موظّفين من طرف الحكّام وجعلوهم أدوات للاستبداد، فقال:”… مُتّخذة من الدّين ومؤسّساته وعلمائه مجرّد أدوات تستخدم عند الحاجة…وكانت محنة الإسلام وعلمائه عظيمة مع هذه الدّولة فاختار بعضهم المعاضدة للحكّام جريا على عادة علماء الإسلام “(19). وقال متجنّيا على العالم السّنّي والعربي: ”للتّخلّص من العقليّة الفرديّة الّتي سادت العالم السّنّي والعربي منه خاصّة”(20).
وتأمّل جيّدا كلّ تلك المقولات فستبيّن لك أمران، أوّلهما أنّ الغنّوشي ردّد أقوال الخميني والشّيعة في الطّعن في الأنبياء والصّحابة، وثانيهما أنّه يتحدّث عن الصّحابة وأهل السّنّة من منظور عدائي. وهذا يتناقض مع دعوته إلى ما يُسمّى” توافق “، أفليس التّطاول على رموز الأمّة من الأنبياء والصّحابة وعلماء أهل السّنّة يثير التّفرقة والفتن؟ وهكذا تَفهم أنّ التّوافق المقصود عنده يتعلّق بمسائل السّياسة فحسب، أمّا الدّين والعقيدة عنده فأمور ليست من أولويّاته، بل كما صرّح هو بنفسه أنّها من عوائق العمل السّياسي المشترك مع خصومه العقائديّين، ولذلك لم يستفزّه مسلسل طعن صحابة رسول الله في تونس والأمر يتواصل ويستمرّ ويتضخّم كلّ يوم عبر إعلام المجاري وهو صامت لا يتحرّك، غير أنّه تدخّل تحت ضغوط من منظومة الاستبداد لإيقاف برنامج مهمّ يكشف عن منظومة الفساد والفاسدين في البلاد يُبثّ عبر قناة الزّيتونة ” التّابعة له، وتدخّل الغنّوشي وتوقّف البرنامج.
هذا هو الغنّوشي مع أصحاب النبيّ، أمّا رؤوس الكفر العالمي فيمدحهم ويُثني على “ ديمقراطيّة ” بوش وعلى ” جمال ” حكم شارون، ويحترم ماركس ولينين وكاسترو وبوتن فيقول:” وليس ماركس ولا لينين وكاسترو - مع الاحترام لهم“(21). وقال في بوتن:” ألم يصنع الرّئيس الرّوسي بوتن سابقة إذ طلب العضويّة الشّرفيّة في منظمّة المؤتمر الإسلامي. وذلك ضمن قراءة نافذة للمستقبل وفي تواضع بعيدًا عن طموح مغرور“(22).
هذا هو الغنّوشي الذي يقدح في أصحاب النبيّ أمّا أصدقاؤه فهم: ”صديقنا المرحوم العلاّمة مهدي شمس الدّين .. صديقنا الشّيخ محمّد علي التّسخيري“(23) أمّا الخميني فهو إمام ومجدّد وروح الله وقائد وأب روحي له ويترضّى عنه في مجالسه، والحبيب بورقيبة أيضًا فقد ترّحم عليه ثمّ رآه في الجنّة بل رفعه إلى منزل ”الرّفيق الأعلى“(24). ومعلوم أنّ الرّفيق الأعلى هو رتبة في الجنّة لا يبلغها إلاّ من أنعم الله عليهم من النّبيين والصّدّيقين والشّهداء وحسن أولئك رفيقا! فهل بورقيبة من الذين أنعم الله عليهم؟ ثمّ من أعلم الغنّوشي أنّ بورقيبة في الرّفيق الأعلى؟ فهل ”أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا“(25)؟
فالمقصود أن راشد الغنوشي افتتن افتتانا شديدا بالخميني ونسخ أقواله الخبيثة ودواهيه الخطرة وجعلها من بنات أفكاره. هذا فضلا عن إعجابه بثورته وتأييده لها عبر مجلّة المعرفة وكتبه وحواراته ومؤتمرات إيران التي ترعاها تحت عنوان مؤتمرات التّقريب بين الشّيعة والسّنّة والوحدة الإسلاميّة.
الحضور القوي والمستمر للخميني وثورته في مجلّة (المعرفة) (26) وقف الغنوشي إلى جانب ثورة إيران يباركها ويدعو المسلمين إلى مناصرتها، وتحسين مذهبها مُهونا من البعد الشيعي والطائفي. أمّا المدير المسئول الشّيخ “السّلفي” عبد القادر سَلامة فلم يكن مُوافقا للغنّوشي في تنطّعه وحماسته لذلك التأييد، وكان يكتب مقالات تناقض ما يكتبه الغنّوشي إلاّ أنّ الأخير كان يقمع سلامة ولا ينشر له مقالاته ” السّلفيّة ” في مجلّة هو مديرها والمسئول عنها أمام السّلطة. ففي العدد الثّالث من السّنّة الخامسة من تلك المجلّة بتاريخ 12 / 02 / 1979 فقد صدر بغلاف فيه صورة الخميني يمدّ يديه وهو يدعو، وقد غطّت تلك الصّورة كامل الغلاف وتحته صورة أخرى فيها نساء إيرانيات والعنوان الكبير الوحيد بالأحمر ( وانتصر الاسلام ) ! وتحته مقوله للخميني ” عرّفوا النّاس بحقيقة الاسلام كي لا يظنّ جيل الشّباب أنّ أهل العلوم في زوايا النّجف يرون فصل الدّين عن السّياسة وأنّهم لا يمارسون سوى دراسة الحيض والنّفاس ولا شأن لهم بالسّياسة “. ثمّ كتب من تحت ” الإمام ” الخميني. و في نفس العدد وتحت عنوان: ” الثّورة الإيرانيّة ثورة إسلاميّة ” كتب الغنّوشي:” إنّ ثورة إيران هي ثورة الإسلام ضدّ الاستبداد والقهر والتّبعيّة ” وكتب أيضا:” ولذلك فسوف تكون نموذجا يَهتدي به كلّ الأحرار في العالمين الإسلامي والنّامي وتصبح إيران قلعة للحرّيّة ومركز الإشعاع الرّسالي في العالم “.
أمّا العدد التاسع لنفس السّنة الخامسة فقد أبرزت المجلّة عنوان:” المعرفة تُرشّح الخميني “، وكتب الغنّوشي في الصّفحة 9 مع صورة الخميني يقترح على المملكة العربيّة السّعودية التي أنشأت ( جائزة الملك فيصل العالميّة ) أن تسند تلك الجائزة لسنة 1400 هجري إلى الخميني فكتب:” وأسرة المعرفة لا ترى أكفأ وأحقّ بالجائزة الأولى لخدمة الاسلام من الإمام آية الله الخميني بل إنّه لو أُسندت إليه يشرّفها ويرفع من شأنها فهو العالم المتبحّر في الفقه والأصول والفلسفة وعلم الفلك، وهو زعيم الشّعب الايراني المسلم وقائد ثورته العظيمة الذي طرح الاسلام الكامل الشّامل طرحا عمليّا عالميّا دوّخ العالم بقطبيه الشّيوعي والرأسمالي وحرّر شعبه المسلم من الظّلم والاستنزاف الاستعماري وهو سائر به بكلّ قوّة وثبات نحو إرساء دعائم الدّولة الاسلاميّة بإيران، وشاحذا عزائم الأمّة الإسلاميّة وباعثا فيها الأمل نحو العزّة والسّيادة “. أمّا الجائزة فتُقدّر بمائتي ألف ريال سعودي وميداليّة ذهبيّة وشهادة تقديريّة. وفي العدد الثامن من مجلة المعرفة كتب الغنوشي مقالاً بعنوان ” الرسول ينتخب إيران للقيادة ” جاء فيه: ” إن إيران اليوم بقيادة آية الله الخميني القائد العظيم والمسلم المقدام هي المنتدبة لحمل راية الإسلام ” معتبرا أنّ الرّسول عناه في حديث ” إنّ الله يبعث لهذه الأمّة على رأس كل مائة سنة من يجدّد لها دينها “. وقال: ”إنّه بنجاح الثّورة في إيران يبدأ الإسلام دورة حضاريّة جديدة “(27). وكتب أيضًا، ”الذي يبدو واضحاً أنّ دولة شيعيّة قويّة ستولد في إيران وستكون طرفاً أساسياًّ في تحديد مصير المنطقة فلا مناص من مدّ الجسور الإسلاميّة المشتركة للتّعاون معها“(28). كما يُقرّر الغنّوشي في مقالاته أنّ الاتّجاه الإسلامي الحديث ” تبلور وأخذ شكلاً واضحاً على يد الإمام البنّا والمودودي وقطب والخميني ممثّلي أهمّ الاتّجاهات الإسلاميّة في الحركة الإسلاميّة المعاصرة “، وأضاف في تعبيرة كنسيّة خطيرة تُبيّن عن نَفَسٍ غروري استعلائي أنّ البنّا والمودودي والخميني هم المُمثّلون الشّرعيّون والوحيدون للإسلام فقال: ”ولكنّ الذي عنينا من بين ذلك الاتّجاه الذي ينطلق من مفهوم الإسلام الشّامل، وهذا المفهوم ينطبق على ثلاثة اتّجاهات كبرى: الإخوان المسلمين، الجماعة الإسلاميّة بباكستان وحركة الإمام الخميني في إيران“(29)، وهو يقصد بإمامة الخميني للمسلمين قاطبة بدون منازع. كما وصفه أيضًا بـ ” الإمام ” في ذلك النّصّ وفي كلّ كتاباته تقريبا، ففي الصّفحة الرّابعة من كتابه ” الحرّيّات العامّة في الدّولة الإسلاميّة ” يُهدي الغنّوشي كتابه ذاك ” إلى قائد الثّورة الإسلاميّة المعاصرة الإمام الخميني، كما أهداه أيضا إلى ” الشّهيد ” العلاّمة الصّدر و” الشّهيد “علي شريعتي، هكذا هم شهداء عنده، كما وصفه في مجلة المعرفة ـ أعلاه ـ بـ ”روح الله” و”العالم المتبحّر في الفقه والأصول والفلسفة وعلم الفلك و المُجدّد.
لقد ضيّع الغنّوشي من عمره الخمسين سنة وهو يلهث مؤيّدا إيران وأذنابها في لبنان والعراق في مؤتمرات التّقريب بين الشّيعة والسّنّة والوحدة الإسلامية دون فائدة تذكر إلاّ أن بسط الأرض ومهّدها لإيران أن تخترق تونس التي صحّرها بورقيبة فصارت مستباحة غير مُحصّنة بعقيدة تواجه البدع ورموزها وأنظمتها.
من أبرز تدليسات الغنّوشي وأخطرها التي أُشْربها من الشيعة:
1- جعل مسائل العقيدة من الخلافات الجزئيّة، بل هي كما كتب: ”العقيدة في العمل السّياسي صخرة تتحطّم عليها آمال الشّعب التّونسيّ في الحرّيّة والانعتاق“(30). والمصيبة أنه لا ينظر أن إيران وأذنابها الشيعة هم خطر عقائدي وعنصري، والمدهش أنه لا يزال يعتبر إيران نموذجا إسلاميا متفوقا بالرغم من أن ايران أقصت الإخوان في العراق وساهمت في وأدهم في الشام كما ساهمت في إسقاط حكم الإخوان في مصر واليمن فضلا عن طالبان في أفغانستان.
2 - ليس من منهج الغنّوشي أن يُصارع الشّيوعيّين والملحدين، ولكنّه خُلق لمخاصمتهم على السّلطة فحسب، فإذا كان منهجه مع المُلحدين فكيف يخاصم الفرس الرّافضة وهم عنده أحسن من فهم الإسلام؟
3- يقرر الغنّوشي أنّ الخلاف بين السّنّة والشّيعة ما هو إلا خلاف وهمي، ذكر ذلك في مقال له فكتب ”الصّراع بين السّنّة والشّيعة من المشكلات الوهميّة التي تظهر مع سيادة التّقليد ويُستعاض بها عن المشاكل الحقيقيّة الواقعيّة بعد أن تختفي الفكر ويختفي الإبداع“(31).
4 - كما اعتبر الأستاذ أكثر من مرة أن الاستمرار في استحضار الخلاف التاريخي والنفخ فيه جزء من مؤامرة لخدمة أعداء الأمة تضرب الإسلام بالإسلام
5 - كتب سنة 2009:” إن اتخاذ إيران عدوا هو قرار غير مسئول وغير حكيم ” أما عملية تشييع إيران الواسعة الممنهجة في المنطقة فقد بررها بأنها تبشير لمذهب في جمهور مذهب آخر وشبه ذلك بإخراج مسلم من غرفة يقيم فيها داخل دار الاسلام إلى غرفة أخرى في الدار نفسها وأن ذلك فقط مضيعة للوقت والجهد.
6 - وفي الوقت الذي يضحك فيه الشّيعة على الإخوان المسلمين ويضعون الخطط الخمسينيّة والعشرينيّة لذبح الأمّة، وفي نفس الوقت لم يُسمح فيه للسّنّة ببناء مسجد في طهران، بل هدّمت مساجد السّنّة وفي الوقت الذي يذبح فيه الشيعة السنة في لبنان والعراق وسوريا واليمن يغرّد الغنّوشي:” نحن لسنا مع إثارة حملة ضد التشيع عموما، ولا ضد حزب الله، ويجب أن يحصر الخلاف في قضايا محدودة، ولا يجب أن يتوسع؛ لتصبح حربا مفتوحة بين السنة والشيعة لا يستفيد منها غير المتربصين بالفريقين”(32).
7 - الخلاف بين السّنّة والشّيعة ” لا يمثّل مشكلة “، صرّح بذلك في حلقة نقاش بعنوان ” أزمة الشّرق الأوسط وشمال أفريقيا: الإسلام / الدّيمقراطيّة والتّطرّف ” جرت في معهد الولايات المتّحدة للسّلام بواشنطن، وهو معهد مُموَّل من الكونجرس الأمريكي، فقال إنّ الخلاف بين السّنّة والشّيعة” لا يمثّل مشكلة “! صرّح الغنّوشي بذلك في وضع عصيب يعيشه السنّة اليمنيّون باستيلاء الحوثيّين على اليمن واستحلال أنفس وأعراض وأموال ومساجد السّنّة. فأغضب تصريح الغنّوشي أهل السّنّة في العالم، فتدخّل شيخه يوسف القرضاوي ودعاه أن يتراجع عن تلك التّصريحات حتّى تتوقّف الهجومات على جماعة الإخوان المسلمين واتّهامها بأنّها تنشر التّشيّع في الوطن العربي.
هكذا بكلّ بساطة الخلاف بين السّنّة والشّيعة ” لا يمثّل مشكلة “، لا مشكلة عقائديّة ولا سياسيّة ! فمتى تكون عنده مشكلة والشّيعة يكفّرون الصّحابة و أمّهات المؤمنين و يطعنون في عرض النّبيّ وزوجاته، هذا فضلا عن كفريّات أخرى لا تُحصى كقولهم بتحريف القرآن الكريم و إضفاء صفات الألوهيّة على أيمّتهم الإثنى عشر وغيرها.
أليست أقوال الغنوشي الطّائشة تُمهّد الطّريق للرّافضة بالتّواجد في تونس بكلّ يسر وسلاسة للفقر الديني الذي عليه شباب الحركة الإسلامية؟
إن أقواله وكتاباته ومواقفه لا تدعو إلى نصرة إيران كـ” ثورة ” فحسب، بل هي دعوة إلى دين الشّيعة الباطل، وقد بينت لك تماهيه في أقوال الشيعة المخالفة لعقائد أهل السنة، فيكون الغنوشي ممن أنبتت التّشيع في تونس. ولقد حكم الغنّوشي تونس بعد ما يُسمى ثورة، وفتح للشّيعة مساحات كبيرة للنشاط ونفّذ سياسة إيران الصّفويّة مما يؤكد أن الغنوشي ما هو إلا حليف لإيران علم ذلك أم جهل، تماما كما مهّد كل الإخوان في بلاد المسلمين ابتداء من فتحي يكن في لبنان. ولستُ بحاجة إلى جمع أقوال ومواقف كلّ قيادات الإخوان ومرشديهم ابتداء من حسن البنّا إلى خالد مشعل الذي زار قبر الخميني ووضع ـ على عادة اليهود والنّصارى والمجوس ـ إكليلاً من الزّهور على قبر الهالك الخميني ثمّ صرّح لوكالة الأنباء الإيرانيّة ” مهر “: ” إنّ حماس الابن الرّوحي للخميني “، أمّا أسامة حمدان فيقول:” إنّ حركته جزء من المشروع الإيراني ولن تتأثّر بما يدور في سوريا “.
إنّ الإخوان المسلمين هم من يتزّعم كبر إثم عقيدة التّقريب بين السّنّة والشّيعة، ويتفاخرون بتلك العقيدة المنحرفة ويعتبرونها أصلا من أصولهم ومكسبا من مكاسبهم، وهم بذلك مهّدوا ولا يزالون لغرس نبتة الشّيعة الخبيثة، و أدمنوا على قرقرات أنّ ” الشّيعة إخواننا وأنّ الخلاف بيننا و بينهم في الفرعيّات لا في الأصول وأنّ الخلاف بين السّنّي والشّيعيّ كالخلاف بين أتباع المذاهب الأربعة“. ولو تتبعتَ أقوال كبار قادة الإخوان المسلمين لتقرّر عندك أنّ هناك علاقة وثيقة وقويّة بينهم وبين إيران، بل لتقرّر عندك أنّ الاخوان هم بوّابة التّشيّع والشّيعة في العالم الاسلامي، وعندما تصدر حقيقة مُدوّية من كمال الهلباوي وهو شخص في موقع متقدّم جدّا ومن أبرز روّاد التّقريب مع إيران فيقول:” الإخوان مع إيران قلبا وقالَبا “. والمتأمّل في سرّ موالاة الإخوان للشّيعة فسيجده في سببين: أوّلهما سياسي ويتمثّل في رغبة الإخوان في حليف يدعمهم للوصول إلى الحكم، وثانيهما ذوقي، لأنّ إمامهم حسن البنّا هو صوفي حصافي شاذلي والصّوفية هي من أقرب أهل البدع إلى الرّافضة، ولذلك قيل: الصّوفيّة جسر للتّشيّع. ولذلك حذر الدكتور يوسف القرضاوي من ”اتخاذ الشيعة للتصوف قنطرة لنشر التشيع في مصر ضمن مخطط مدروس ومستمر“(33).
إنّ شهوة السّلطة قد غطّت عين الغنّوشي فما عاد يبصر إلاّ من خلالها فقصر عقله عن إدراك حقيقة أمر الشّيعة وأهدافهم التوسعية. ولذلك حرص الأستاذ بعد عودته إلى تونس على علاقات ودّ وصداقة مع الايرانيين وأذنابهم من العراقيين وغيرهم، فكان من أكثر الناس تبادلا للزيارات مع السفير الإيراني في تونس وكلما احتفل الغنوشي بأي مناسبة لحزبه إلا ويحرص على دعوة ممثلي إيران ليحتفلوا معه المرّات العديدة في مقرّ حزبه، دون أن يبالي أبدا بمآسي المسلمين في الشام أو العراق أو اليمن أو يكترث بتنبيهات أرسلها له إخوة سوريون. و لستُ أدري بأيّ صفة يُقابل الغنّوشي المسئولين السّياسيّين الشّيعة الذين يزورون تونس دون أن تكون له صفة سياسية رسميّة ؟ فما الذي يدعو الغنّوشي أن يستقبل وزير الخارجيّة العراقيّة في مقره وقد قتلت حكومة الأخير تونسيّين تحت حكم احتلال أمريكي إيراني؟ فهل استقبله ليُهنئ إيران على إبادة العراقيين والسوريين واليمنيين وتهجيرهم واغتصاب حرائرنا هناك؟ هل يستقبلهم ليمتدح إيران التي تُدير حربا قذرة وترتكب أفظع الجرائم وأبشع المذابح ضدّ السّنّة في المنطقة؟ أم يستقبلهم استجابة لاستغاثة الثّكالى واليتامى والقتلى والجرحى والمغتصبات والمسجونين؟ ثم يُرسل وفودا من حزبه إلى طهران ليشكروا الإيرانيين على هدم آخر مسجد للسنة واحتلال الأحواز؟ كما وافق حزبه على زيارة الإيرانيّين إلى تونس كسائحين ثمّ يُهرول إلى سفارة إيران ضمن وفد له كلّ سنة لتهنئة إيران بذكرى ثورتها الشيعيّة، ويقول:” نتطلّع لمزيد من العلاقات “! ومن هنا تفهم غموض موقفه و موقف حركته من التصويت الأخير لوزراء الداخلية العرب يوم 2 مارس/آذار 2016 على تصنيف حزب الله اللبناني تنظيما إرهابيا. ولقد حاول الغنّوشي أن يكون فيه موقفه من المسألة متوازنا، ولكنّه لم يفلح إذ لم يستطع أن يوازن بين حزب الله في حرب تموز ضدّ إسرائيلي، وبين حزب الله الإرهابي في لبنان وخاصة في سوريا، وكأنّ حزب الله عنده قد انتصر على الكيان الصّهيوني والحال أنّ حسن نصر الله صرّح أنّه لم يكن يعلم أنّ اختطاف عَسْكَرِيَّيْن إسرائيليّين سيكون سببا في تلك الحرب التي دمّرت لبنان وجعلتها رُكاما، بمعنى أنّه لو علم أنّ الحرب ستقوم بينهما ما كان له أن يُقدم على اختطاف العَسْكَرِيَّيْن. إنّ ” إسرائيل ” هي التي انتصرت في تلك الحرب وليس حزب الله أبدا، فقد حمت ” إسرائيل ” نفسها وأمّنت حدودها بسياج دولي عبر قوّات ” اليونيفيل “، لتقطع الطّريق أمام المقاومة الفلسطينيّة، ثمّ لم تنته تلك المعارك حتّى تعهّد حزب الله أن لا يبدأ بضرب أهداف إسرائيلية داخل فلسطين المحتلة أبدا.
ابق على اطلاع على النشرة الإلكترونية