يُعد "الحرس الثوري"، بكل المقاييس، عصب المشروع الإيراني في منطقة الشرق الأوسط. فهذه القوات، وما يرتبط بها من ميليشيات طائفية مسلحة وتنظيمات إرهابية في منطقة الشرق الأوسط، هي "رأس الحربة" في تنفيذ هذا المشروع التوسعي العدواني، الرامي إلى إنشاء "إيران الكبرى" المتحكمة في مصائر جيرانها العرب، والتي من شأنها أن تُعيد أمجاد الإمبراطورية الفارسية القديمة!
ولقد لعب "الحرس" منذ بداية عقد الثمانينيات من القرن الماضي دورًا رئيسيًا في "تصدير الثورة" الإيرانية إلى الخارج، حينما دعا موسوي الخميني، زعيم الثورة، صراحة إلى "تصدير الثورة" تحقيقًا لأحد بنود الدستور الذي وضعه النظام عام 1979 بعد الثورة مباشرة، والذي نصّ على أن "تكون إحدى مهام الحرس الثوري القتال بغرض توسيع حكم الشريعة الإسلامية في العالم".
هذه الأهداف المعلنة، أعاد التأكيد عليها قائد "الحرس" السابق، الجنرال محمد علي جعفري، في مارس/آذار 2019، حينما كشف بوضوح أن قواته دربت 200 ألف مسلح على مدار 8 سنوات من القتال في سوريا والعراق، ودافع عن حضور إيران الإقليمي في سوريا والعراق، ليؤكد أن "الحرس" يمثل أهم الأدوات لتنفيذ مشروعها الطائفي والتوسعي في المنطقة، كاشفًا عن طبيعة الدور الكبير الذي تقوم به قوات "الحرس" والميلشيات الشيعية المرتبطة بها، في تنفيذ مشروع إيران الإقليمي للتمدد والسيطرة.
يعتبر "الحرس" الذراع الأقوى لصناعة وتنفيذ السياسة الخارجية الإيرانية، ولقد مكنّه دوره في تصدير الثورة من تأكيد مكانته وأهميته في الأمن القومي الإيراني. وتحظى وزارة الخارجية باهتمام خاص لدى "الحرس"، لكونها أحد أهم مراكز صنع قرار السياسة الخارجية. وقد كان لبعض مسؤولي الخارجية الإيرانية من المحسوبين على "الحرس" بصمات واضحة فيما آلت إليه علاقات إيران الخارجية خلال السنوات الماضية. ومن المعلوم أن الجنرال المغدور قاسم سليماني، قائد "فيلق القدس" كان يلعب دورًا أساسيًا في اختيار السفراء الإيرانيين لدى دول العالم.
كما يُعد "الحرس" أقوى مؤسسة في النظام الإيراني، حيث يمتلك مصادر عديدة للقوة تتيح له هامشًا كبيرًا من المناورة والحركة والتحكم في مسارات السياسية الداخلية والخارجية لإيران. ويعتبر الذراعَ العسكرية والاقتصادية والاستخباراتية للمرشد علي خامنئي، ومن خلاله يسيطر على الدولة سيطرة كاملة.
وبذلك، يمكن اعتبار "الحرس" هو العصب الأساسي للمشروع الإيراني، وتجذره في الحالة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية في إيران يشكل مسألة «هوية» مشروع تصدير ورعاية الثورة، وبناء الأذرع المتطرفة عبر الميليشيات، وحالة الدولة داخل الدولة.
ويُعول النظام الإيراني كثيرًا على "الحرس" وميليشياته العسكرية وأذرعه الخارجية في تنفيذ استراتيجيتها للتمدد الإقليمي، ولهذا بدأت إيران تولي اهتمامًا في العقدين الماضيين بالاستثمار في إنشاء ميليشيات متعددة الجنسيات، تدين بالولاء الطائفي لها، لكي توظفها متى أرادت.
ويعتمد مشروع "الحرس" التدميري والتخريبي في المنطقة بالأساس على نشر الطائفية، وتأسيس المليشيات العقائدية المسلحة المرتبطة بإيران، والتي تتلقى مختلف مظاهر الدعم، وبالتحديد عبر الخدمات والتسهيلات التي يقدمها "فيلق القدس" للجهاد الخارجي، وهو ذراع الحرس الثوري في العمل خارج الحدود الجغرافية للدولة، وهذا الجهاز يقدم الدعم المالي، واللوجستي والإعلامي، مع توفير السلاح والتدريب والإسناد الميداني، للميليشيات المسلحة التابعة لإيران، والتي تم إنشاؤها بقرار إيراني على أعلى مستويات القيادة السياسية. ومهمة هذه الميليشيات العمل على تحقيق الهدف النهائي وهو فرض السيطرة الإيرانية غير المباشرة على هذه الدول المستهدفة.
حاولت إيران توظيف أحداث ما يسمى "الربيع العربي" في الترويج لنموذجها الثوري، وسعت إلى الترويج لفكرة أن الفوضى والاضطرابات التي عمت بعض الدول العربية عام 2011، تعد امتدادًا للثورة الإيرانية، أو "صحوة إسلامية" في المنطقة، كما أطلق عليها المرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي. ومنذ هذه الأحداث، سعت إيران إلى التمدد طائفيًا وسياسيًا في المنطقة، وحاولت استغلال سقوط بعض الأنظمة العربية لاكتساب أرضية جديدة في الإقليم والترويج لما يسمي "النموذج السياسي الإيراني". وكان "الحرس" هو الأداة لتنفيذ مشروع إيران التوسعي.
وإلى ذلك، لعب "الحرس" لعبة طويلة الأمد، هدفها ضرب أكبر عدد من الدول العربية، وإضعاف حكوماتها، واختراق مجتمعاتها، من أجل خلق بيئة ملائمة لتصدير الثورة ونشر المذهب والعقيدة وإعادة كتابة التاريخ من جديد. فهذه مجموعة عقائدية صلبة وحقيقية ثابرت للاستحواذ على النظام ونجحت. تقدم المشروع كثيرًا في المشرق العربي، والتركيز في المرحلة المقبلة سيكون على الخليج العربي وبشراسة غير مسبوقة. ولا أحد في إيران يلعب في هذا الملف الخطير سوى "الحرس".
ومن اللافت للنظر، أن الدول العربية التي غزاها الإيرانيون على جناح "الحرس" باتت معظمها مدمّرة وتفتقد البنية التحتية، فضلًا عن اعتبارها من الدول الأكثر تخلفًا وفقرًا في العالم، إذ أصبحت شعوب تلك الدول تحت خط الفقر بدرجات مرعبة، فضلًا عن انعدام الأمن والأمان لمواطني تلك البلدان، ليترافق ذلك مع عدم وجود استقرار اقتصادي واجتماعي وسياسي وتفكيك المؤسسات الرسمية لتلك الدول، إضافة إلى تفكيك جيوش هذه الدول، وربط قادتها بـ "الحرس"، وإحداث تغيير عميق في البنية الديموغرافية لمجتمعات تلك الدول بشكل غير مسبوق.
وعلى الرغم من ذلك، ما زالت إيران ماضية حتى هذه اللحظة في تنفيذ مخططاتها تجاه المنطقة العربية، معتمدة على عوامل عدة، أهمّها الاستفادة القصوى من عدم استقرار الدول العربية، بعد الغزو الأمريكي للعراق، وما تبعه من ثورات "الربيع العربي" التي سخّرت إيران جزءًا منها لمصالحها، معتمدة على حلفائها في المنطقة وأشقائها في العقيدة: "الإخوان المسلمين" في سوريا ومصر والعراق واليمن، الذين ثبت أنهم جزء فاعل في "الفوضى الخلاّقة"، ولا ننسى دورهم في تسهيل مهمة تنفيذ مخططات "الحرس"، وما فعله بشار الأسد ونوري المالكي وحسن نصر الله خيرُ دليل على ذلك.
وبهذا يمكن القول إن إيران وحلفاءها يسعون إلى تغيير وجه المنطقة إلى الأبد، كلّ يعمل لمصالحه الخاصة، لتبقى شعوب المنطقة هي الخاسر الأكبر من هذه المخططات التي يقودها "الحرس"، نتيجة التشتت الحاصل في مواقف النُخب السياسية العربية، وارتماء تلك النخب في أحضان الفرقاء، مهتمين بتحقيق مصالحهم الشخصية أو الحزبية الضيقة، على حساب دماء وأشلاء الشعوب العربية وضبابية مستقبل أبنائها وضياع شبابها بين مهجّر ومعوّق وجاهل، ليتحقق الحلم الإيراني، وما وراءه من أهداف خطيرة، تتمثل في عودة العرب إلى القرون الوسطى، وإعادة إغراقهم في الحروب البينية، وترسيخ الجهل والتخلف والتمزق بين مكونات مجتمعاتهم.
ـــــــــــــــــــــــــــ
ابق على اطلاع على النشرة الإلكترونية