تمدد الإمبريالية الإيرانية إلى تونس: الإسنادات والأدوات وما بعد الترسيخ (1)

- 13 نوفمبر 2021 - 491 قراءة

تتوالى التصريحات الإيرانية بسلمية سياستها الخارجية وعلاقاتها البينية مع الدول العربية، في تناقض واضح مع السلوك الخارجي الإيراني المتّسع باستمرار، مستنداً إلى جميع الأدوات المتاحة له، بدءاً من أدوات القوة الناعمة المرتكزة على ربط البيئة المستهدفة عبر جملة اتفاقيات تعاون مشترك في عديد من المجالات، وتوظيف للتاريخ وفق قراءات مجتزأة، وصولاً إلى إعادة تشكيل الحاضن الاجتماعي الثقافي-الديني للبيئة المستهدفة من خلال إعادة تمذهبه شيعياً.

لتنتقل إيران في مشروعها إلى مراحل متقدمة، عبر توظيف أدوات قوتها الصلبة، والتي بلغت أقصاها في العراق ولبنان واليمن، وكان أشدها إجراماً في سورية، عبر إسناد نظام الأسد بالسلاح والميليشيات، بل الإشراف والمشاركة المباشرة في العمليات العسكرية الموجهة ضد المجتمع السوري، بعد أن رسّخت ذاتها عبر الأدوات السابقة.

ويكتسي المشروع الفارسي طابعاً إمبريالياً توسعياً، من خلال الدفع إلى الهيمنة على مزيد من البيئات العربية، وصولاً إلى حالة تبعيتها المطلقة للمرشد في طهران. وتبقى دائماً عملية الاستهداف موجّهة تجاه بيئات عربية، ترى فيها مجال نفوذها الاستراتيجي-الإمبريالي (أو ما تعتبره إيران فراغاً استراتيجياً)، متوافقة مع المتغيرات القائمة في بيئة النظام الدولي، بما يسمح لها بالمناورة والمساومة والتعاون.

ونحاول في هذا الدراسة تسليط الضوء على المشروع الإيراني المتمدد باتجاه تونس، وإسناداته وأبعاده، وأدوات ترسيخه، باعتبار تونس بوابة إيران إلى شمال إفريقيا وغرب المتوسط.

هذه الدراسة، هي جهد سابق يعود لأعوام خلت. وبتكليف من مركز الخليج للدراسات الإيرانية، مشكوراً، وجدنا ضرورة مراجعتها وإعادة تحيينها، في إطار الاستمرار بملاحظة المشروع الإيراني ومراجعة مستويات تغلغله في البيئة العربية، وهو ما وجدناه على ذات الأسس التي كنا قد بنيناها في المراحل الأولى للدراسة. لذا أضفننا على الدراسة بندين جديدين هما:

- ما بعد الترسيخ الإيراني في تونس.

- القضية الفلسطينية: مدخل إيراني في تونس.

كما أرفقنا في هوامش هذه الدراسة، بعض المراجع الحديثة، التي لم تكن موجود في النسخة الأولى من الدراسة، نجد أنها تقع في ذات المسار والمنهج، ومتممة لما سبق وأن قدمناه، ونخص هنا دراستين صادرتين عن بوابة الحركات الإسلامية، وأخرى عن Independent عربية، سيتم ذكرهما في الهوامش.

أولاً: في طبيعة المشروع الإمبريالي الإيراني:

يشكل التاريخ المجتزأ مادة مهمة لبناء الفكر التوسعي الفارسي، على اختلاف أشكال الأنظمة السياسية التي توالت على فارس، إذ ادّعت كافة تلك الأشكال أحقية إيران (فارس) التاريخية في "استعادة" بناء امبراطوري كان لها أن تقيمه في مراحل من التاريخ القديم، وفق ادّعاءات هذا التاريخ. متصادمة بشكل مستمر مع البيئة العربية التي وجدت فيها منافساً وخصماً تاريخياً وعقيدياً رئيساً، بل وخصماً رخواً سياسياً قابلاً للتفتيت والاختراق، خاصة في العقود الأخيرة، التي توافقت مع قيام النظام الإسلاموي-القومي في إيران، لتبدأ حالة التمدد الفعلي من خلال أولى حروبها المعاصرة تجاه البيئة العربية (حرب الخليج الأولى( ))، بعد أن رسخت بناء كيانها الحديث (إيران)، بالتسلط والاستيلاء على الأقاليم المحيطة بالمركز الفارسي.

ووفق بؤر التمدد الفارسي التي جئنا على ذكرها في دراسات سابقة، وهي بإيجاز:

- بؤر الارتكاز الاستراتيجية: وتشكِّل هذه البؤر عماد المشروع الإمبريالي الفارسي، وقاعدة التأصيل له عربياً، ومنطلق العمليات التوسعية اللاحقة، وتشمل كلاً من العراق ولبنان وسورية. وقد استطاعت إيران فرض هيمنة عسكرية مباشرة عليها، وتحديد أطر العلاقات السياسية داخلها وفق إملاءات الحرس الثوري.

- بؤر تمدّد استراتيجي: وتشكِّل هذه البؤر أهمية كبرى، لناحية استقرار المشروع الإمبريالي، وحمايته، عبر تغليفه للبؤر الأولى بمناطق عزل ثقافي-مذهبي، تتحوَّل لاحقاً إلى عازل سياسي-عسكري تجاه المحيط الخارجي، يمنع تسرب مقاومة عربية إلى داخل الكيان الإمبريالي، وتشمل اليمن ومصر والسودان، وهي ما تزال في طور المحاولة، حيث تتفاوت قدرات إيران في هذه الدول، من محاولات ولوج أخفقت في مصر، إلى إخفاق تام في السودان بعد طرد مقومات مشروعها منه، إلى اختراق ميليشياوي في اليمن قاد إلى الانقلاب الحوثي على الدولة.

- بؤر التوسع الفائض: وتشكِّل مناطق هذه المجموعة فائضاً استراتيجياً في المشروع الفارسي، تستكمل به الهيمنة على العالم العربي ككل، جاعلة منها خط دفاع أول، وربما قابلٍ للمساومة في مواجهة المشاريع المنافسة له. وتشمل دول المغرب العربي، حيث تعتبر تونس بوابتها، بالإضافة بالطبع إلى المغرب وموريتانيا، وتشكل هذه البؤر داعماً إسنادياً لوجستياً للبؤر السابقة، عبر توظيف معطياتها في ترسيخ المشروع الإيراني (تشييع واستقطاب نخب).

- الهدف الاستراتيجي الأعلى: ويشمل دول الخليج العربي كافة، بحثاً عن السيطرة المباشرة على الحرمين الشريفين، وفق ادعاءات دينية-قومية، عبر إحاطة هذه الدول ببؤر ارتكاز وتمدّد وتوسع، واختراقها من داخلها عبر تغذية صراع الهويات المذهبية، وتعتبر البحرين البوابة الرئيسة لهذا الهدف، إضافة إلى محاولات اختراق عديدة للكويت وقطر وعمان والإمارات، وبأدوات مختلفة، دينية أو اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية.

فإننا نلحظ أن المشروع الفارسي، مشروع بعيد المدى، يستهدف كافة المحيط العربي، مستفيداً من كافة الاضطرابات الواقعة في هذه البيئات، دافعاً إلى توظيفها بأقصى حدودها من خلال جملة آليات اختراق، لعل من أهمها:

- الربط بين إيران والبيئة المستهدفة عبر اتفاقيات التعاون (الاختراق الدبلوماسي).

- الإسناد التاريخي (الاختراق الثقافي).

- إنشاء جملة مشاريع استثمارية ذات أبعاد استخبارية (الاختراق الاقتصادي).

- إعادة بناء المجتمع مذهبياً، عبر تغيير هويات البنى الديموغرافية (الاختراق البشري الهويتي).

-الاستحصال القانوني على وضع مميز للأقلية المصطنعة (الاختراق القانوني).

- العمل على استحداث أزمات داخلية أو تغذية أزمات قائمة (الاختراق السياسي).

- إسناد النظام السياسي أو المجموعات البشرية التي تمت مذهبتها في مواجهة الطرف الأخر عبر أدوات القوة (الاختراق العسكري).

ثانياً: الإسنادات التاريخية الإيرانية في تونس:

شكلت تونس بعد ثورتها بيئة رخوة سياسياً وأمنياً، قابلة للاختراق نتيجة هشاشة البنى ما بعد الثورية وعدم اكتمال تشييدها، في مرحلة انتقالية تعجّ بكثير من الاضطرابات والإشكالات الناجمة عن الثورة وعن النظام السابق. وهو حال كافة الدول الثورية، لكنها ذات حدة أقل في تونس منها في نظيراتها الثوريات، نتيجة طبيعة البنية الفكرية الأكثر انفتاحاً لدى المجتمع التونسي، ما سهّل توسيع إطار الحريات المقامة بعد الثورة، بل وسهّل استغلالها.

عملت إيران على توظيف هذا المتغير، عبر إدراج طرح تاريخي من خلال كتّاب إيرانيين وتونسيين، عن التاريخ المترابط والمتزامن بين الدولتين، بربط الدولة الفاطمية "ذات القيادة الشيعية"، بإيران، في محاولة خلط ثقافي-تاريخي، باعتبار أن المذهب الشيعي مذهب فارسي. فيما كانت "فارس" ساعتها إحدى ولايات الإمبراطوريات العربية، ذات الهوية السنية السائدة.

هذا الخلط دفع فئات من المجتمع التونسي إلى ربط عاطفي بين تاريخ الدولة الفاطمية الوجيز في بلادهم مع دولة إيران حديثة التشكّل، وأسهم في ذلك ترويج عدد من الكتّاب لكتابات مضطربة حول دور فارس في بناء تونس وفي تشكيل الهوية التونسية، بل وتجاوز ذلك إلى اعتبار المنجز الحضاري العربي في تونس، مجرد تفصيل أثراه الفرس وحدهم. من ذلك ما روّجه السفير التونسي الأسبق في طهران من خلال توزيعه لكتاب "العلاقات بين تونس وطهران عبر التاريخ"، ومما جاء فيه:

"قد يعلم التونسيون وقد لا يعلمون أنّ كثيراً من مؤسساتهم هي ذات أصل إيراني سواء في الإدارة أو العسكرية أو المعمار أو التجارة أو الفلاحة أو الصناعات التقليدية، فهي أيضاً من أصل إيراني. وأنّ كثيراً من العلماء التونسيين قد أقرّوا بإيران، وأن ابن خلدون هو من أكبر المؤرخين الذين درسوا في شيء من الاستعجاب تاريخ إيران وحضارة إيران وفلسفة التاريخ الإيراني.

فالمدرسة الإيرانية قد شاركت بقبتها البصلية الأصيلة، وبمنائرها المغشاة بالزليج البارع، وبأقواسها المهموزة التي تسمى في الأندلس قوس الجيب ... كذلك المنائر الملبسة بالقاشاني المزخرفة، وأهمها الجرالدا بإشبيلية وصومعة تستور بتونس.

فلا شك أنّ الحضارة العباسية المتأثرة بالإيرانية، والتي انبثقت عنها الحضارة الأغلبية بالقيروان، تجعل الحضارة الأغلبية متأثرة أيضاً بالحضارة الإيرانية. ولا شك أيضاً أنّ الحضارة الفاطمية التي هي أول حضارة فاطمية وقد نشأت بمدينة المهدية على الساحل التونسي، تجعل لنا صلات مع الحضارة الشيعية الإيرانية في مظاهر الحضارة العلمية والأدبية والفنية والصناعية، فعاشوراء التونسية فيها كثير من أصول عاشوراء الشيعية، ومسرحية التعزية كانت موجودة بتونس في العهد الفاطمـي، واعتبار علي نور الله وجهه والسيدة فاطمة الزهراء -رضي الله عنها– لا يزال ولن يزال قائماً بتونس".

ويحوي الكتاب كثيراً من الخلط الفكري غير المتزن، لناحية ربط إيران المنشأة في القرن العشرين، هي ذاتها فارس التي كانت قائمة قبل عدة قرون، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى، يجعل الكاتب أسّ الحضارة في العالم العربي فارسياً (إيرانياً) سمح للعرب بولوجها والتعلم منها. فيما اندمج الفرس بالحضارة العربية التي وإن أخذت بعضاً من مكوناتها من بلاد فارس، فإنّها كانت حضارة جامعة منتجة منفتحة على العالم كله، دون أن يعني ذلك أنّ ما أنشأه العرب من امبراطوريات كان في المحصلة نتاجاً فارسياً، وخاصة أنّ المؤلف تغاضى عن الأدوار التهديمية التي قام بها الفرس في تحطيم الامبراطوريات العربية وتسهيل غزوها من قبل المغول، عدا عن دورهم في تحطيم أساساتها الفكرية والدينية بالاختلاقات المذهبية الواسعة.

لكن أن يروج سفير تونس لتاريخ مسموم ومزور بهذا الحجم، فهذا يدلّ على حجم الاختراق الإيراني للبنية السياسية التونسية، وعن استناد المشروع الفارسي إلى قيادات عليا في الدولة، تفتح لهم أبواب البلاد للتغلغل سريعاً فيها، دون عناء يذكر.

ثالثاً: الاختراقات الاقتصادية والدبلوماسية لتونس:

أدت أوضاع تونس الاقتصادية المتأزمة عقب الثورة، كنتيجة حتمية لعملية تطهير البلاد، وإعادة هيكلة نظمها السياسية والاقتصادية والتشريعية، إلى تسهيل المهمة الإيرانية في عملية اختراق البنى الاقتصادية التونسية، وإن كانت ما تزال في بداياتها، لكن مسارها يوحي بتقدمها وإصرارها على تشكيل حيز مهم في الفضاء الاستثماري التونسي.

       إذ شملت الاتفاقيات الموقعة بين الجانبين، كثيراً من النشاطات الإيرانية في تونس، ومنها:

- التعاون البرلماني.

- حضور إيران حفل توقيع الدستور التونسي الجديد، وتجيير الجلسة لصالح خطاب "المظلومية" الإيراني، ما أحدث أزمة دبلوماسية داخل الحفل.

- اتفاقيات تعاون في قطاع الموانئ والملاحة التجارية، والخبرات الفنية الضرورية لها.

- تأسيس صندوق استثمار مشترك.

- تعاون مشترك في مجالات النشاط الزراعي ونقل الخبرات الإيرانية إلى تونس.

- استيراد السيارات والمحركات الإيرانية إلى تونس.

- فتح خط تمويل ائتماني إيراني في تونس بقيمة 100 مليون يورو، يهدف إلى تشجيع المستثمرين الإيرانيين لتوطين مشاريعهم في تونس.

- الاستثمار الإيراني في تونس في مجالات الفوسفات والنفط وصناعة مكونات السيارات.

- السعي إلى رفع حجم التبادل التجاري بين البلدين إلى مليار دولار، بميزان تجاري يميل إلى صالح إيران بالمطلق، ويستنزف القدرات المالية التونسية.

- يضاف إلى ذلك، تعاون بيني في مجالات الكهرباء والصحة والتربية والتعليم والثقافة والمرأة والأسرة والإعلام والسياحة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

مراجع:

1- للمزيد حول هذه الحرب، انظر: عبد القادر نعناع، “ضرورات الحرب الإيرانية-العراقية ودورها في المشروع الفارسي”، 12/8/2014، مركز المزماة للدراسات والبحوث: http://www.almezmaah.com/ar/news-view-6399.html

2- للاطلاع على المزيد، انظر: عثمان العكاك، “العلاقات بين تونس وإيران عبر التاريخ”، موقع إيران والعرب: http://iranarab.com/Default.asp?Page=ViewArticle&ArticleID=581

3- للاطلاع على قضايا حقوق القوميات في إيران، انظر: عبد القادر نعناع، “صراع الهويات في إيران: بين الهوية الكلية والهويات الفرعية”، 23/10/2013، مركز المزماة للدراسات والبحوث

http://almezmaah.com/ar/news-view-3058.html

4- "دراسة: إيران دعمت نشر الديانة الشيعية في تونس للتدخل في شؤونها الداخلية"، موقع النبأ الإخباري الدعوي، 31/7/2012: http://www.ennaba.com

5- لمياء المقدم، "التشيع في تونس وعلاقته بإيران"، 12/6/2012، ميدل ايست أونلاين: http://www.middle-east-online.com/?id=133028

6- المرجع السابق.

7- “شيعة تونس ورقة تستغلها إيران”، موقع البينة:

http://www.albainah.net/index.aspx?function=Item&id=30438&lang

8- “إيران هامش الإخوان المسلمين للمناورة بعيداً عن أعين الأمريكان والإنجليز”، صحيفة العرب اللندنية، العدد 9065، 30/6/2014، ص 13.

النشرة الإخبارية

اشترك في النشرة الإخبارية

ابق على اطلاع على النشرة الإلكترونية

معلوماتك فى امان معنا! إلغاء الاشتراك في أي وقت.