13 عامًا من الدمار والخراب والقتل عاشها السوريون منذ عام 2011، أدت إلى وضع غير مسبوق في التاريخ المعاصر، وهو وقوع الدولة السورية "تحت الاحتلال"، حيث شهدنا أكبر كارثة في العصر الحديث، ورأينا تمزق البلاد إلى مناطق نفوذ، تتحكم فيها قوى أجنبية هي إيران وروسيا والولايات المتحدة وتركيا، فضلًا عن الميليشيات والمرتزقة التابعة لإيران وتركيا.
ومن حقنا أن نتساءل مع الإخوة السوريين: متى تنتهي هذه المأساة الإنسانية التي ضربت بلدًا عربيًا كان في صدارة دول المنطقة، بحيث شهد أكبر هجرة جماعية في التاريخ، ومتى ينتهي هذا "الاحتلال الرباعي" لسوريا، لكي تعود رديفًا لأمتها العربية؟
من المعلوم، أنه بعد توسع عمليات القمع الدموي التي باشرها نظام الأسد، قتلًا وتنكيلًا واعتقالًا للسوريين، وحصارًا وتدميرًا للمدن والقرى والأحياء الثائرة عبر قصفها بـ"البراميل المتفجرة"، ارتفعت أصوات سورية في أواخر عام 2011، تطالب بالتدخل الدولي من أجل لجم السياسة الدموية للنظام ووضع حدٍ لها، فيما اتجه النظام للاستعانة بحلفائه الإيرانيين وميليشياتهم اللبنانية والعراقية والأفغانية والإيرانية لقمع حركة الاحتجاج الشعبي بعد أن عجز وحيدًا عن فعل ذلك، وسط تزايد عدد ومساحة المناطق الخارجة عن سيطرته، وبهذا فتح الباب واسعًا أمام التدخل العسكري الأجنبي في البلاد.
ومع استمرار تدهور الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في سوريا عقب ثورة 2011، وتحوّل الثورة من حراك شعبي سلمي إلى نزاع مسلح بين نظام الأسد وفصائل الثوار، أصبحت الدولة السورية أرضًا مستباحة ومفتوحة أمام التدخلات الخارجية، سواء على المستوى الإقليمي أو الدولي. وذلك بسبب عدم قدرة النظام الحاكم في سوريا على السيطرة على كافة أنحاء البلاد، ودخول أطراف خارجية لها مصالح، حتى باتت سوريا دولة فاقدة للسيادة، تحت الاحتلال.
طورت القوى الأجنبية وخصوصًا الحليفة لنظام الأسد، تدخلاتها حتى باتت قوة احتلال. فبعد أن دفعت إيران بميليشياتها للقتال إلى جانب النظام في العامين الأولين 2011 – 2012، دفعت بقواتها من "الحرس الثوري" للقتال ضد جماعات المعارضة المسلحة، وبنت قواعد لها في عدد من المناطق السورية، ولا سيما في ريفي دمشق وحمص، ومضت روسيا في خطوات مماثلة، فعززت وجودها العسكري والأمني والتقني، قبل أن ترسل قواتها البحرية والجوية أواخر عام 2015 للمشاركة الأوسع والأهم في الحرب، وقامت بتثبيت وجودها في قواعد برية وبحرية وجوية في مناطق سوريا الغربية ومطاراتها.
ودفعت تطورات الوجود العسكري لحلفاء النظام، وتأثيراته على الصراع في سوريا وحولها، دولًا أخرى للبحث عن موطئ قدم على الأرض السورية.
وباستثناء الوجود الأجنبي السابق والكبير نسبيًا الذي بات يسيطر على غالبية الأراضي مباشرة، أو عبر حلفائه المحليين من قوات الأسد والميليشيات المسلحة التابعة له، فإن هناك وجودًا عسكريًا مباشرًا لدول أخرى لها علاقات ونفوذ على بعض التشكيلات المسلحة.
واستطاعت تركيا أن "تشرعن" وجودها في شمال سوريا أمام المجتمع الدولي، بدعوى دعم الثورة الشعبية ضد نظام بشار الأسد. بينما روسيا استطاعت أن "تشرعن" وجودها في سوريا بدعمها للنظام السوري ضد الثورة الشعبية والمعارضة السورية.
ولا شك أن تعامل المجتمع الدولي مع ما يحصل في سوريا منذ 13 عامًا يعد جريمة ضد الإنسانية، لكونه لم يتعامل معها كأزمة إنسانية، وإنما كمصالح لدول كبرى وتحالفات في المنطقة، ناهيك عن ضعف فعالية "الأمم المتحدة" وقدرتها على تحقيق أهدافها، حيث تبقى إرادتها مرهونة بإرادة الدول الكبرى والمحصلة النهائية لإرادة الطرف الأقوى.
المجتمع الدولي ممثلًا في مجلس الأمن فشل في اتخاذ موقف موحد من الفظائع الجماعية التي ترتكب في سورية منذ عام 2011 والتي ترقى إلى جرائم الإبادة الجماعية وجرائم ضد الإنسانية، فلم يعان أي بلد آخر في نصف القرن الماضي من خسائر فادحة في الأرواح البشرية والدمار المادي مثلما عانت سوريا ويتحمل مسؤوليتها كل من قوات النظام السوري وقوات المعارضة المدعومين سياسيًا وعسكريًا من دول وأطراف عديدة من داخل المنطقة وخارجها.
ويرجع هذا الفشل في وضع حد للفظائع الجماعية الأخطر على الإطلاق وفي حماية المدنيين السوريين للدول الفاعلة على الصعيد الدولي ولاسيما منها الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن التي تتحمل المسؤولية الأولى عن حفظ السلم والأمن الدوليين.
"حالة الصراع" هذه حول سوريا، شكلّت معسكرين أو محورين يتألف كل منهما من ثلاث مجموعات تتفاعل على ثلاث مستويات: محلية إقليمية ودولية. يشمل المحور الأول الذي يسعى للتغيير والإطاحة بالنظام: المعارضة السورية بدعم إقليمي تركي خليجي ودعم دولي أمريكي- أوروبي. أما المحور الثاني فيسعى للحفاظ على الوضع القائم المتمثل في: النظام السوري ويدعمه إقليمًا كل من إيران والعراق وحزب الله في لبنان وبدعم روسي صيني دوليًا.
وبالتالي، فإن حل النزاع السوري يقتضي توافق القوى الكبرى وفقًا لمصالحهم الاستراتيجية، في ظل غياب تام لدور الأمم المتحدة التي لا يتم اللجوء إليها إلا لإضفاء الشرعية على الممارسات التي ترتضيها هذه القوى الكبرى وتوافق مصالحها.
والملفت للنظر، أن الانعكاس المباشر للتدخلات الأجنبية، ولا سيما العسكرية على واقع الصراع السوري، جعل من سوريين ينظرون بشكل متفاوت لهذا الوجود. فبدا من الاعتيادي أن ينظر مؤيدو النظام إلى الروس والإيرانيين وميليشياتهم باعتبارهم حماة لهم ولنظامهم، وأن ينظروا للأتراك باعتبارهم قوة احتلال، وهو موقف يخالف كليًا نظرة فئات من معارضي النظام الذين يرون في الأتراك حلفاء لهم في مواجهة نظام الأسد وحلفائه من روس وإيرانيين وميليشيات باعتبارهم محتلين، خاصة في ضوء ما تم من اتفاقات جرى توقيعها بين النظام والطرفين الروسي والإيراني.
وسط تلك اللوحة المعقدة من المواقف حيال الوجود العسكري الأجنبي، لا يمكن القول، إن السوريين أو جزءًا كبيرًا منهم يرحب بالاحتلال الأجنبي لبلدهم، كما يلوح للبعض أو يتوهم. بل الأمر لا يتعدى صلة موقفهم بواقع الصراع السياسي والمسلح الذي صاروا إليه والذي تهددهم تداعياته بشرًا وكيانًا، تضاف إلى التدخلات الدولية والإقليمية العنيفة، التي اتخذت من بلدهم وأرضهم ميدانًا لتصفية حساباتها، وخدمة استراتيجياتها في المنطقة.
ولا جدال أن تلك الحيثيات، تجعل من أي مواقف سورية تتناغم مع إحدى قوى الوجود والاحتلال العسكري لأرض سورية، مواقف غير حقيقية، بل هي مواقف مزيفة.
ولا يمكن لوطني شريف، كائنًا ما كان دينه وعقيدته، أن يوافق على تدخل قوى أجنبية في بلده، مهما كانت أسبابه وادّعاءاته، ولا يمكن لأي تدخلٍ أجنبي، دعمًا لهذا الطرف أو ذاك، أن يكون مفيدًا للسوريين، أو أن يخدم مصالحهم. وليس هناك اليوم أي طرف دولي متدخل يدّعي حرصه على مصالح السوريين. والأتراك، مثل الأمريكيين والإيرانيين والروس والأوروبيين وغيرهم، لا يخفون دوافع تدخلاتهم القومية، الأمنية أو السياسية. ومن هذه الزاوية، فإن جميع التدخلات الخارجية مدانة دون تحفظ.
وغالبًا، فإن مواقف بعض السورين هي مواقف مؤقتة مرهونة بوقف الحرب، وعودة السلام إلى سوريا، التي كثيرًا ما حفل تاريخها بما فيه الحديث باحتلالات أجنبية انحسرت، وشهدت انقسامات وصراعات داخلية انتهت. لذلك، فإن صورة سوريا المقبلة، لن تكون بعيدة عما كانت عليه من قبل كدولة مستقلة ذات سيادة.
ابق على اطلاع على النشرة الإلكترونية