أظهرت أحدث التدابير التي اتخذتها قوات الأمن أن سلطات نظام الملالي لا تنوي التسامح مع أي معارضة، مع اقتراب ذكرى الشابة الكردية مهسا أميني التي لقيت مصرعها في 16 سبتمبر/أيلول 2022.
واتهم ناشطون في داخل إيران، السلطات، بشن حملة للترهيب وبث الخوف والاعتقال والاستجواب، وتهديد أو طرد من هم على صلة بالاحتجاجات. وأكد الناشطون أن سلطات نظام الملالي جددت حملة القمع عشية ذكرى الشابة الكردية مهسا أميني التي لقيت مصرعها في 16 سبتمبر/أيلول 2022، حيث مارست السلطات ضغوطًا على أقارب من قتلوا في الاحتجاجات التي أعقبت حادث مصرع "أميني"، لمنعهم من التحدث لوسائل الإعلام.
وذكرت منظمة «هيومن رايتس ووتش» الحقوقية الدولية في تقرير لها صدر مؤخرًا، أن أفرادًا من عائلات ما لا يقل عن 36 شخصًا قتلوا أو أعدموا خلال حملة القمع خضعوا للاستجواب أو أوقفوا، أو تمت مقاضاتهم، أو صدرت أحكام سجن في حقهم خلال الشهر الماضي.
وقالت تارا سبهري فر، كبيرة باحثي المنظمة والمتخصصة بشؤون إيران، في التقرير، "إن السلطات تحاول خنق أي معارضة لمنع الجمهور من إحياء ذكرى وفاة مهسا أميني التي أصبحت رمزًا لقمع السلطات المنهجي للنساء والظلم والإفلات من العقاب".
وكان مصرع مهسا أميني إثر اعتقالها بتهمة عدم ارتدائها الحجاب بطريقة غير لائقة، حسب مزاعم شرطة الأخلاق، هو "القطرة" التي تسببت في فيضان الغضب الشعبي العارم بجميع أنحاء إيران.
غير أن الانتفاضة الشعبية العارمة التي شهدتها إيران وقتها، لم تكن وليدة شرارة مقتل مهسا أميني فحسب، بل كانت تعبيرًا عن حالة من الإحباط طالت جيل الشباب الإيراني الراهن، جراء تنامي مظاهر الفساد في أوساط النخبة السياسية الإيرانية، وتفشي الفقر والبطالة في البلاد، مع ارتفاع الأسعار، والافتقار إلى الحرية الاجتماعية والسياسية.
بدت الاحتجاجات كأنها "بداية النهاية" للنظام، وإيذانًا بسقوط حكم الملالي إلى غير رجعة، فهناك موجة غير مسبوقة من الغضب، ومظاهرات دامية، وحملات مقاطعة، وامتناع عن العمل، وإضرابات عمالية تتم خارج الإطار الرسمي للنقابات العمالية، أنهكت قوات الأمن، وانتشرت في أكثر من 100 مدينة.
ومن الثابت تاريخيًا أن نظام الملالي نجح في إفشال احتجاجات كبيرة من قبل، اندلع أشهرها في أعوام 2009 و2017 و2019. لكن هذه المظاهرات مختلفة، حيث تجسد الغضب الشعبي الذي يعتمل داخل نفوس السيدات الإيرانيات والشباب الإيراني، تجاه نظام يسعى لسلب حقهم في الحياة بكرامة وحرية وإنسانية.
ولم يواجه حكم الملالي ثورة شعبية بهذا الحجم من الانتشار والتماسك، فقد كان المتظاهرون ينتمون لفئات مختلفة اقتصاديًا واجتماعيًا، وهم من عرقيات مختلفة، إنهم يريدون شيئًا أكبر من الإصلاح السياسي والاقتصادي، يريدون الحرية وتغيير النظام.
آخر حدود الغضب
واجه النظام الإيراني على خلفية الاحتجاجات أزمة كبرى، تمثل في سلسلة من التحديات، منها الإحباط المتزايد على نطاق واسع بسبب القيود الاجتماعية، والحنق الناجم عن الانهيار الاقتصادي وسوء الإدارة، والغضب العارم ضد المرشد علي خامنئي والمؤسسة الدينية التي لا تلتفت إلى المطالب الشعبية، حتى تحولت هذه التحديات الآن إلى أزمة تتعلق بشرعية بقاء النظام، من عدمه.
وبذل نظام الملالي، من أجل ضمان بقائه واستمراره وتجاوز هذه التهديدات المحدقة به، أقصى ما في وسعه من تدابير قمعية، فقد قام الملالي بتوظيف جميع إمكانيات البلاد من أجل ذلك، ومنح الأولوية للجوانب الأمنية، وحرص على أن يكون هناك جدار من الخوف والرهبة من خلال عمليات الإعدامات، بل وحتى القتل في السجون جرّاء التعذيب الوحشي.
كما استخدم النظام الإيراني أساليبه الدعائية لصرف الانتباه عن الاحتجاجات، وإلقاء اللوم على "التدخل الأجنبي"، ولكنه لم يعد قادرًا على احتواء الغضب الشعبي هذه المرة، كما فعل طوال تاريخه الممتد 44 عامًا، فلا يوجد لدى هذا النظام الكثير لتقديمه، ومن الصعب تصور أي شيء سوى الإحباط المتزايد للمواطنين الإيرانيين العاديين، الذي أوصلتهم سياسات الملالي إلى حافة الجوع، وإلى آخر حدود الغضب.
وكانت "ثورة الحجاب" مؤشرًا على أن النظام الإيراني فقد مشروعيته، القائمة على ركيزتيّن هما الطائفية الشيعية والعنصرية الفارسية. وذلك بفعل ازدياد الوعي عند مختلف شرائح المجتمع الإيراني، بسبب انتشار وسائل التواصل الاجتماعي. وما شهدته الاحتجاجات من هتافات ضد قادة النظام، دليل واضح على تراجع مشروعيته، إلى درجة توحي بانهياره الحتمي عاجلًا أو آجلًا.
وبينما تمسكت الرواية الرسمية للنظام، بأن ما تشهده البلاد هو "أعمال شغب ومؤامرة" يدعمها أعداء إيران، ومن بينهم الولايات المتحدة و(إسرائيل)، وساعد على تنفيذها "الخونة" من الإيرانيين في الداخل والخارج، تبقى قدرة المتظاهرين على "الصمود"، أمام أدوات القمع الإيرانية هي رهان التغيير.
وحتى إذا استطاعت أجهزة النظام القمعية، وعلى رأسها قوات "الباسيج"، إنهاء المظاهرات الحالية بصورة أو بأخرى، فلن تكون هذه الانتفاضة الشعبية هي الأخيرة من نوعها على المدى المنظور، ما لم يُقدم النظام على تنفيذ إصلاحات حقيقية من شأنها تحسين الأوضاع الاقتصادية، خاصة أن مرحلة "الغليان الشعبي" التي تمر بها إيران حاليًا تشبه إلى حد بعيد الفترة السابقة على ثورة 1979، التي سبقتها عدة موجات من الاحتجاجات وسلسلة من التظاهرات، انتهت أخيرًا باندلاع الثورة التي أسقطت نظام الشاه محمد رضا بهلوي.
وردّد قادة النظام مقولات مفادها أنهم يجب أن لا يرتكبوا الخطأ الذي ارتكبه الشاه مع المتظاهرين عام 1979، حينما كان "ليّنًا" معهم. وكانت هذه الاستراتيجية واضحة في كل سلوك خامنئي وخطابه في السنوات الأخيرة. ويعتقد قادة النظام بصورة راسخة بأنهم إذا أرخوا الحبل مع المتظاهرين، فسيكون سقوطهم مدويًا.
نهاية مأساوية للنظام
تتداول أوساط الطبقة الحاكمة في داخل إيران، تحذيرات من تزعزع النظام، بسبب الغضب الشعبي المتنامي، حيث يحذر النافذون من نهاية مأساوية للنظام تشبه نهاية الشاه نفسه، في ظل تعاظم الاحتجاجات الداخلية، ووصولها مرحلة متقدمة كسرت فيها حاجز الخوف بالتظاهر العلني، والتطاول الصريح على رمز النظام الأول، أي المرشد علي خامنئي، بل والمطالبة بإسقاطه، من خلال ترديد هتاف "الموت للديكتاتور".
إلى ذلك، ذكرت منظمة «هنكاو» غير الحكومية التي تعنى بشؤون الأكراد أن السلطات أرسلت تعزيزات أمنية إلى مدينة "سقز" مسقط رأس ومناطق أخرى في غرب إيران قد تشهد احتجاجات.
وفيما تستمر بعض النساء في الخروج علنًا من دون حجاب ولا سيما في مناطق طهران الميسورة والليبرالية تقليدًا، ينظر البرلمان الذي يسيطر عليه المحافظون في مشروع قانون يفرض عقوبات أقسى على مخالفة إلزامية وضع الحجاب.
من جانبها، قالت سارة حسين رئيسة بعثة الأمم المتحدة لتقصي الحقائق حول القمع الحاصل في طهران "إيران تضاعف القمع الأمني في حق مواطنيها الغاضبين، وتسعى إلى إقرار تشريعات جديدة وأقسى تقيد أكثر حقوق النساء والفتيات".
ــــــــــــــــــــــــــ
المصادر:
1- كيف أصبحت مهسا أميني أيقونة ضد القمع في إيران؟، موقع الشرق الأوسط، 16 سبتمبر/أيلول 2023.
2- انتفاضة الإيرانيين في صور بعد عام على وفاة مهسا أميني، موقع الحرة، 16 سبتمبر/أيلول 2023.
3- عام على مقتل مهسا أميني... صغيرات المدارس في إيران روح الانتفاضة المستمرة، موقع إندبندنت عربية، 16 سبتمبر/أيلول 2023.
ابق على اطلاع على النشرة الإلكترونية