"كوباني"... هزيمة الإرهاب وانتصار الحياة

- 20 يونيو 2025 - 78 قراءة

في مساء الخامس والعشرين من يونيو/حزيران 2015، وأثناء شهر رمضان المبارك من ذلك العام، هاجمت عناصر تنظيم "داعش" الإرهابي، مدينة كوباني "عين العرب" ليلًا بمجموعات كبيرة في محاولة للاستيلاء عليها، فعاش السكان العزل ليلة من القتل والعنف، حيث ارتكب مسلحو "داعش" الذين لم يردعهم حتى الشهر الحرام، مجزرة مروعة في حق المدنيين الآمنين، انتهت بمقتل 253 شخصًا أغلبهم من النساء والأطفال، وإصابة 273 آخرين من سكان المدينة والمناطق المجاورة لها.

في ليلة الغدر تلك، ارتكبت مجموعات "داعش" الإرهابية عمليات قتل عشوائية للأهالي في الشوارع والمنازل، ولم ترحم طفلًا أو امرأة أو شيخًا مسنًا، بل أعملت آلة القتل في الجميع دون استثناء.

وعندما هاجم "الدواعش" الإرهابيون مدينة كوباني ومحيطها عام 2014، لم يكن التنظيم يستهدف مدينة بعينها، بل كان يسعى إلى تقويض التعايش السلمي بين الكرد والعرب، وبث روح الفرقة في المجتمع السوري تحت شعارات دينية طائفية. غير أن صمود المدينة وتضحيات أبنائها وبناتها، وتلاحم كافة مكونات المجتمع في الدفاع عنها، حوّل هذه المعركة إلى نقطة تحوّل محورية في الحرب العالمية ضد الإرهاب.

وشهد العالم أجمع كيف حمل الرجال والنساء والأطفال، الكرد والعرب، أسلحة الكلاشينكوف الروسية للقتال حتى الموت دفاعًا عن كوباني، متجاهلين أوامر المسؤولين الكرد بالفرار بعد أن باتوا غير قادرين على حمايتهم، حسبما جاء في تقرير نشرته صحيفة "ديلي ميل" البريطانية، وقتها.

كانت إرادة القوات الكردية، والتضامن الدولي الواسع مع المدينة وأهلها الكرد والعرب، أقوى من الإرهاب المتعطش للدماء؛ فانتصرت إرادة المقاومة في كوباني، رغم أن جيوش الدول الإقليمية والقوى الدولية الكبرى في المنطقة، عجزت عن الوقوف في وجه "داعش" الذي احتل وقتها أجزاء كبيرة من سوريا والعراق.

كوباني مدينة عالمية

كان لهذه المقاومة الباسلة صدىً واسعًا في العالم، جعل مجموعة من الكُتاب والفنانين والأكاديميين والمؤرخين والنواب وممثلي منظمات المجتمع المدني والحائزين على "جائزة نوبل"، يوقّعون على عريضة للتعبير عن تضامنهم مع مقاومة كوباني، والمطالبة بالمساعدات الدولية لسكانها. وهكذا، أصبح اليوم الأول من نوفمبر/تشرين الثاني كل عام "يومًا عالميًا للتضامن مع كوباني"، والقيام بمسِيرات ومظاهرات كبيرة في العالم لإبداء تضامنهم مع هذه المقاومة التاريخية، وجُعلت كوباني رمزًا للمقاومة ضد مرتزقة "داعش"، وإنقاذ العالم كله من شرور الإرهاب الأسود.

حينها، اجتاحت المظاهرات المؤيدة لـ كوباني شوارع 93 دولة حول العالم، وظهرت الحشود على الطرق الرئيسية في كبريات المدن، وخصوصًا العواصم الأوروبية، وفي المطارات، وأمام السفارات التركية، تنديدًا بالدعم التركي المباشر لـ "داعش"، ودعت الحكومات إلى التحرك في ظل دفاع عشرات المقاتلين والمقاتلات عن آخر أحياء مدينة كوباني، التي كانت وقتها على وشك السقوط بشكل كامل في يد "داعش".

خرج الملايين حول العالم إلى الساحات، وتحوّلت كوباني إلى مدينة عالمية، فقد أدرك العالم أنّ كوباني تدافع عن الديمقراطية والمستقبل للبشرية جمعاء.

أيادي "الدواعش" الآثمة

لم يكن الإعلان عن هذا اليوم سهلًا، بل جاء بعد أن أدرك العالم حجم المذبحة المروعة في كوباني، وأدرك أيضًا خطورة سيطرة الإرهابيين الدواعش على المدينة، فالملاحم التي سطرتها المقاومة في مواجهة "داعش"، هي التي أوصلت إلى هذا الإنجاز الدولي

لقد أرادوا إزالة كوباني عن الخريطة، ولم يكن الهدف كوباني وحدها وإنما كل من يعمل في سبيل تحقيق الحرية، ولكن بعزيمة المقاتلين فشلت تلك المخططات، وأصبحت كوباني منطلقًا لتحرير جميع المناطق المجاورة من سيطرة التنظيم بعد ذلك.

وشكّل التضامن العالمي مع كوباني آنذاك تجسيدًا حيًّا لوحدة المصير الإنساني في مواجهة التطرف والإرهاب. فقد التقت إرادة المقاومة المحلية مع الدعم الدولي في معركة مصيرية دافعت فيها المدينة ليس فقط عن نفسها، بل عن التعايش السّلمي والقيم الإنسانية المشتركة بين البشر كافة.

إن ذكرى مأساة كوباني سيخلّدها التاريخ، الذي لن ينسى أبدًا حين قُتل مئات الضحايا الأبرياء على أيادي "داعش" الآثمة، بشكل همجي في تلك المنطقة التي كانت ضمن مخططات التنظيم للسيطرة على سوريا برمته. غير أن "قوات حماية الشعب" ووحدات حماية المرأة الكردية، تمكنت خلال أيام من القضاء على جميع الإرهابيين.

ورغم مرور تسع سنوات على مذبحة كوباني، وإعلان اليوم العالمي للتضامن معها، تستمر الهجمات التركية على الشعب الكردي الباسل، ويستمر القتل والتدمير والحصار حتى الآن. منذ مأساة كوباني، تواصل الدولة التركية نهج "داعش" نفسه، للحيلولة دون أن يسود الأمن والاستقرار إقليم شمال وشرق سوريا، بل سوريا بأكملها.

ولا أحد ينسى، حتى الآن، كيف نشرت تركيا دبابات وجنود مدججين بالسلاح فوق التلال المطلة على كوباني، لكنها رفضت التدخل لحماية المدنيين الأبرياء من القتل والذبح في كوباني، بعد أن احتلت عناصر "داعش" عددًا كبيرًا من القرى، دون الحصول على "إذن" من الولايات المتحدة وحلفاء آخرين، بشأن تداعيات الحرب الأهلية المندلعة وقتها. كما منعت أنقرة الكرد الأتراك من عبور الحدود لتعزيز القوات الكردية المدافعة عن كوباني.

واعتبر العالم أجمع تاريخ تحرير كوباني، في 26 يناير من عام 2017، أي بعد نحو عامين من الهجوم الغادر، بداية النهاية لتنظيم "داعش" في سوريا، بعد أن سيطر على مناطق كبيرة من البلاد لأكثر من ثلاثة أعوام.

أبرزت هذه الملحمة عمق وحدة المصير بين الكرد والعرب في مواجهة خطر متسلّل من أعماق تاريخ الفتن في منطقتنا، ليضرب حاضرنا ومستقبلنا، فأكدت أن معركة الكرد في سوريا هي معركة العرب المدافعين عن وحدتهم بوجه التفتيت، وعن تقدمهم بوجه التخلف، وعن إسلامهم الحقيقي بوجه محاولات الانفضاض عليه من الداخل بعد فشل محاولات الانقضاض عليه من الخارج.

لقد بدأت هزيمة مرتزقة "داعش" ربيبة الفاشية التركية من كوباني، لذلك تريد هذه الفاشية الانتقام من الكرد وكوباني بشكل خاص، وتشن الهجمات العسكرية الاحتلالية منذ سنوات على التراب السوري. ولكن العالم الذي وقف إلى جانب كوباني، سيقف مرة أخرى إلى جانبها، وسيُفشل مخططات التركية، عاجلًا أو آجلًا.

إن التضامن مع كوباني، الآن، يكون بحمايتها من التهديدات المستمرة التي تطلقها الدولة التركية باحتلال مدينة كوباني الواقعة على حدودها الجنوبية، ودعمها اقتصاديًا، فهي تحتاج لاهتمام خاص في مجال الاقتصاد والخدمات، وكذلك تحقيق ضمانات لحفظ أمنها وسلامة أهلها، وعدم تكرار سيناريو تهجير أهلها واحتلالها من قبل أي قوى أجنبية.

وعلى الرغم من التعاطف الدولي الكبير لرمزية كوباني ودعمها في حربها ضد تنظيم "داعش"، إلاّ أن وعود المجتمع الدولي بإعادة إعمار المدينة التي تدّمر ثلثيها على الأقل خلال معركة التحرير، وعودة الحياة إليها وحماية أمنها، لم يتحقق بعد.

وبمناسبة مرور هذه الذكرى الأليمة على الشعب السوري برمته، تُدين أسرة تحرير مجلة "كردستان" تقاعس المجتمع الدولي والمنظمات المعنية بحقوق الإنسان، عن القيام بواجباتها تجاه تحقيق العدالة لضحايا كوباني الذي مازالوا يطالبون حتى هذه اللحظة، بضرورة تقديم مرتكبي هذه المذبحة إلى المحاكم الدولية.

 

*رئيس مركز الخليج للدراسات الإيرانية

النشرة الإخبارية

اشترك في النشرة الإخبارية

ابق على اطلاع على النشرة الإلكترونية

معلوماتك فى امان معنا! إلغاء الاشتراك في أي وقت.