على الرغم من العداء الظاهر بين واشنطن وطهران، فإنه يبدو واضحًا لكل ذي عينيّن أن «التغلغل الشيعي» الذي تقوده إيران في المنطقة العربية منذ عدة عقود، كان - وما يزال- يجري تحت سمع وبصر الأمريكيين، بل وبمباركتهم أيضًا، لأغراض شريرة لم تعد تخفى على أحد!
وفي كتابه «التآخي الإيراني الأمريكي»، يقول الدكتور عزت السيد أحمد: «منذ ما سُمي بالثورة الإسلامية في إيران التي تمت بتنسيق وإدارة من المخابرات الأمريكية والفرنسية، رفعت الثورة الإيرانية شعار (الموت لأمريكا). ومنذ أربعين سنة، والكل يترقب الحرب الأمريكية ضد إيران. وقلّ من أدرك قبل الآونة الأخيرة حقيقة أن إيران وأمريكا عقيدة واحدة، وأهداف واحدة، ورسالة واحدة، ولا يمكن أن تكون بينهما أي حرب»!
وربما أخفت «المعارك الإعلامية» بين أمريكا وإيران المستمرة لسنوات طويلة الكثير من الحقائق، ولكنها لم تطمس الحقيقة، فالعلاقات السرية وثيقة بين الطرفين، وهذا واضح تمامًا في التنسيق لغزو العراق وأفغانستان، كما أن تاريخ الغرب يؤكد دائمًا أن المحرك الرئيسي لسياساته في المنطقة هي المصالح لا غير، فلا مبادئ ولا قيم تعنيه خصوصًا إذا تعلق الأمر بالشعوب الأخرى.
بدأ التحالف «الأمريكي- الشيعي» يبرز في الأفق بوضوح، في عهد الرئيس الأسبق باراك أوباما، وذلك بعد الاتفاق السري الذي جرى عام 2015 من أجل الإبقاء على نظام بشار الأسد في سوريا، نظير تنازلات إيرانية بقدر ما بشأن الملف النووي. وظهر ذلك عندما تراجع الغرب عن توجيه ضربة عسكرية لنظام الأسد عقب مقتل أكثر من 1200 مدني بالأسلحة الكيماوية والغازات السامة، والتوصل لتفاهم هزيل يقضي بالتخلص من سلاح الأسد الكيماوي مقابل إلغاء الضربة الأمريكية!
وفتح هذا التفاهم الباب أمام صفقات كبيرة وخطيرة، فتم غض الطرف عن قوات «الحرس الثوري» والميليشيات الشيعية التي كانت تقاتل في سوريا بشكل علني، دون أي عقوبات أمريكية من أي نوع، في حين تم فرض عقوبات على بعض كتائب المعارضة السورية بحجة «الإرهاب»، وكأن ما تفعله الميليشيات الشيعية في سوريا ليس إرهابًا في حق أهل السنة!
يدعم وجود مثل ذلك التحالف الخفي بين الشيعة والأمريكان، ما تكشف عنه الوقائع من أن إيران ماهي إلا حليف قوي لأمريكا يساعدها في رسم سياسات المنطقة، وأن «الطبيعة الثورية» لنظام ولاية الفقيه في إيران والقائمة على معاداة الغرب ترفض ظهور تلك العلاقات للعلن، بسبب دأب النظام الإيراني على دغدغة مشاعر الجماهير العربية المتعطشة للتصدي للتغول الأمريكي في المنطقة!
وإذا كان النظام الإيراني قد رفع منذ بداية الثورة شعارات رنانّة من قبيل «الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل»، فكيف سمحت أمريكا لإيران أن تتغلغل في جارة (إسرائيل) المباشرة، بحيث أصبحت سوريا على مدى عقود «مربط خيل» إيران في المنطقة؟
ومن الواضح أن المخابرات الأمريكية كانت تصطنع «الغفلة» أثناء التغلغل الإيراني في سوريا والهيمنة عليها، فاستغلت إيران هذه الغفلة المصطنعة، ووصلت إلى حدود الكيان الصهيوني لتهدده مباشرة. وبات «الحرس الثوري» الإيراني الذي يريد أن يدمر الصهاينة يصول ويجول في سوريا حتى وصل إلى تخوم الجولان، دون أن يطلق ولو طلقة واحدة على (إسرائيل) حتى هذه اللحظة!
إن التحالف بين الشيعة والأمريكان، لإسقاط الخلافات والدول والممالك الإسلامية السنية، هو تحالف استراتيجي مستمر منذ قرون. والدافع الرئيسي لهذا التحالف هو توحدّ الطرفين في العدو والهدف والمصلحة الواحدة. فالعدو عند الطرفيّن هو الإسلام والمسلمين السنة. والمصلحة المشتركة هي إسقاط حكومات المسلمين السنية، وتقاسم ثرواتها بين الجانبين.
وما كشف النقاب عن هذا التحالف الغادر، هو زيف المعايير الأمريكية المزدوجة في التعامل مع الجماعات السنية والشيعية؛ فالجماعات السنية هي «منظمات إرهابية» يجب التخلص منها بكافة السبل والوسائل المشروعة وغير المشروعة. أما الجماعات الشيعية، فمهما ارتكبت من جرائم ضد الإنسانية، لا يمكن لأمريكا أن تصنفها جماعات إرهابية، ولا يمكن أن تستهدفها الطائرات الأمريكية، بل إن واشنطن تتحالف معها لاستئصال الجماعات السنية «المتطرفة»!
وأبرز مثال على أن «التغلغل الشيعي» إنما هو في حقيقة الأمر «مشروع أمريكي، هو أن واشنطن غضت الطرف عن احتلال العاصمة اليمنية صنعاء من قبل ميليشيات «الحوثي» الشيعية المدعومة من إيران عام 2014، بل والأكثر من ذلك أنها قامت بتوقيع اتفاقية نووية مع إيران لرفع العقوبات عام 2015، وذلك بالتزامن مع دخول «الحوثيين» آنذاك مدينة عدن الاستراتيجية، فهل تنازلت أمريكا حقًا عن مصالحها في تلك البقعة الحيوية لمصلحة إيران، أم كانت هناك «صفقة» ما تجري تحت المنضدة؟
حين تحيط الرئاسات الأمريكية المتعاقبة نفسها بمستشارين إيرانيين، فذلك يعني أن أرضية الثقة بين أمريكا وإيران موجودة سلفًا. ولا يهم أمريكا معها أن يكون هؤلاء المحيطون بالبيت الأبيض وداخل الكونجرس «عملاء إيرانيين»، لأن الأجندة الخفية بين البلدين مترابطة. وهذا الترابط يتضح بشكل واضح فيما رأيناه بأعيننا، من خلال الوقائع والأحداث في العراق وسوريا واليمن والبحرين. وهو ما يؤكد أن المشروعيّن الشيعي والأمريكي، ما هما إلا وجهان لعملة واحدة.
إن جزءًا من حقيقة التحالف الشيعي الأمريكي، كشفته مجريات الأحداث في أثناء أحداث «الربيع العربي» التي دعمتها واشنطن بكل قوة، عبر موقف إيران الداعم لمجازر سوريا ضد المواطنين السُنة من جهة، وعدائها لدول الخليج العربية ودعمها للحركات الانقلابية الموالية لها من جهة أخرى، تحت شعار «نصرة الشعوب المظلومة»، في تناقض يكشف «النفاق الإيراني» الذي يعتبر شعب دولة ما مظلومًا حسب مذهبه وطائفته، ولا يتوانى عن الوقوف مع الجزار، إن كان حليفًا في المذهب والسياسة!
الخطر الإيراني موجه دائمًا للجيران العرب، الذين عانوا الأمريّن من تحركاتها ضدهم بكل الوسائل، وواقعًا لم نشهد أي خطر إيراني على أمريكا و(إسرائيل) خارج الخطب الاستهلاكية، فمن هو عدو إيران الحقيقي؟ وإلى من تشير بـ «الشيطان الأكبر»؟
والسؤال المصيري الذي يطرح نفسه، هو: من أين جاء هذا «التلاقي» بين المشروعيّن الشيعي والأمريكي؟
لقد جاء هذا التلاقي الاستراتيجي بين الجانبيّن، ببساطة، لأن المنطقة العربية هي «هدف الشر» في المشروع الشرق أوسطي الجديد. ولم يكن لأي دولة أن تخدم هذا المشروع مثل إيران، باعتبارها الحليف «الثيوقراطي» الذي يعمد إلى نشر الطائفية وتكريسها وغسل أدمغة أتباعها الشيعة بها، واستغلالهم لتنفيذ مخطط تمزيق وتقسيم العرب إلى دويلات صغيرة، تقودها إيران، الدولة الإقليمية الكبرى!
والحقيقة التي لا مراء فيها، الآن، هي أنه سواء نجحت «مفاوضات فيينا» في التوصل إلى اتفاق نووي جديد، أو فشلت، فإن إيران تحت العقوبات أو بدون عقوبات، ماضية في مشروعها الفارسي الطائفي، وأمريكا وحلفاؤها الغربيون سوف يعطونها «قبلة الحياة» التي تعطي مشروعها دفعة قوية، وتزيدها قوة وإصرارًا على المضيّ قدمًا لترسيخ نفوذها وهيمنتها في المنطقة برمتها.
ابق على اطلاع على النشرة الإلكترونية