مثلّت أمريكا اللاتينية، بالنسبة لنظام الملالي على مدار عدة عقود، ساحة حرب حقيقية، و"حديقة خلفية" للهجوم على الولايات المتحدة. وبدأ الملالي العمل مبكرًا في القارة عبر عناصر "الحرس الثوري" الذين تم بثهم في البعثات الدبلوماسية، أولًا في كوبا ونيكاراجوا، اللتين كانتا في السابق على عداء مستحكم مع الولايات المتحدة، ثم وصلت هذه العناصر بمرور السنين إلى عمق القارة، في دول مثل فنزويلا وتشيلي، وذلك للبحث أيضًا عن بقاع جديدة تستوعب أيديولوجية "تصدير الثورة" ومناهضة "الاستكبار العالمي" المزعوم.
وبناء على هذه المعطيات، نشط "الحرس" في بلدان أمريكا الجنوبية لكسر عزلة إيران الاقتصادية، ومن أجل الالتفاف على العقوبات الأمريكية ضد طهران، وسعى "الحرس" لتهريب الصادرات الإيرانية إلى دول مثل فنزويلا مستغلًا الخلاف الأمريكي مع الرئيس نيكولاس مادورو.
وانتهج "الحرس" بدءًا من عام 2012 طرقًا وتكتيكات جديدة لتوسيع نطاق عملياته وقدراته في أمريكا اللاتينية، ومنها أن العملاء قد يمارسون نشاطهم سرًا كدبلوماسيين في السفارات الإيرانية، أو في وظائف أخرى في الشركات مثل الخطوط الجوية الإيرانية، أو فروع البنوك الإيرانية، أو حتى في شركات القطاع الخاص، ولذلك اتسع نشاط "الحرس" خلال الأعوام الأخيرة، ليشمل دولًا أخرى مثل البرازيل والأرجنتين وتشيلي.
في منتصف عام 2020، بدأ "الحرس" يؤسّس لموطئ قدم تجاري في فنزويلا التي تعاني أزمة اقتصادية خانقة، مستغلًا العقوبات الأمريكية المفروضة عليها، حيث نشرت صحيفة "وول ستريت جورنال" في يوليو/تموز 2020، تحقيقًا كشف عن أن تكتلًا إيرانيًا يملكه "الحرس"، وهو مرتبط ببرنامج الصواريخ الخاص، يؤسّس أماكن خاصة لبيع السلع بالتجزئة في فنزويلا، ما يُعمّق من تورّط طهران مع حكومة مادورو.
وكشف تقرير لـ "مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي" في ديسمبر/كانون الأول 2008 أن هناك تعاونًا خفيًا بين البلدين في مجال تخصيب اليورانيوم، وقدر التقرير أن فنزويلا لديها 50 ألف طن من اليورانيوم يتم تخصيبه في إيران، كما وقعت إيران مع فنزويلا العديد من الاتفاقيات في مجالات التجارة والبنوك والنفط والغاز الطبيعي، إلى جانب مجالات التنمية الزراعية والبتروكيماويات، وفي عام 2009 أسست إيران البنك الدولي للتنمية في فنزويلا لدعم الصادرات، وهو ما اعتبرته الولايات المتحدة "ذراعًا تمويلية للجماعات الإرهابية".
تولى عملاء من "فيلق القدس" التابع للحرس الثوري، القيام بعمليات إرهابية ضد المعارضين الإيرانيين المقيمين في أمريكا اللاتينية، ورصدت المخابرات الأمريكية في تقرير لها صدر في 18 يوليو/تموز 2017 أن عناصر من "الحرس" قاموا بمراقبة على مدار الساعة للمعارضين الإيرانيين، سواء المقيمين بشكل دائم في دول أمريكا اللاتينية، أو الذين يقيمون في مناطق أخرى خاصة في أوروبا وأمريكا، وقاموا بزيارات إلى دول مثل نيكاراجوا وكوستاريكا وهندوراس والبرازيل والأرجنتين،
وتتمثل مهمة "فيلق القدس" أيضًا، ضمن هذا الإطار، في إقامة علاقات مع شبكات استخباراتية معارضة للنفوذ الأمريكي، من أجل شن هجمات على المصالح الأمريكية هناك، وبناء علاقات مع تجار المخدرات وشبكات غسيل الأموال وتجارة السلاح غير الشرعية، فضلًا عن فتح أسواق جديدة لتوريد النفط الإيراني المهرب، خارج إطار العقوبات الدولية على طهران، بالإضافة إلى فتح منافذ جديد لدعم وتمويل برامجها الصاروخية، من خلال علاقاتها الغير رسمية مع دول القارة.
وتبنى "الحرس" خططًا ممنهجة على مدار عقود طويلة، لإقامة وزرع نقاط وعملاء استخباراتيين باستخدام السفارات والقنصليات الإيرانية الرسمية، بالإضافة إلى المؤسسات التعليمية، والدينية، والثقافية كغطاء لشبكتهم الإرهابية والإجرامية، وكشفت خلاصات توصلت إليها لجنة المخابرات بمجلس الشيوخ الأمريكي في يناير/كانون الثاني 2018 عن تنامي وجود "فيلق القدس" في قيادة التحركات الإيرانية ذات الصلة بالمقذوفات والقدرة النووية، في أمريكا اللاتينية، خاصة في فنزويلا.
وتم الكشف عن شبكات إيرانية تعمل في أمريكا اللاتينية مع تجار مخدرات، ومهربي سلع استهلاكية، ومزيفون، وغاسلي أموال يستخدمون شركات صرافة.
كما عمل "الحرس" على تدشين علاقات خاصة بين إيران وبين الدول التي تناهض الولايات المتحدة مثل فنزويلا وكوبا، وسبق للزعيم الكوبي فيدل كاسترو أن زار إيران في مايو/أيار 2001، وزادت طهران من الاتفاقيات الثنائية، وتعاظم وجود عملائها من وزارة الاستخبارات والأمن الوطني الإيرانية، والحرس الثوري، وفيلق القدس.
من جهة ثانية، دعم "الحرس" المؤسسات والكيانات التي تعمل على تجنيد العملاء والإرهابيين لصالح طهران في أمريكا اللاتينية، مثل "بيت أمريكا اللاتينية"، الذي يدعم ممارسات العنف والقمع في هذه القارة، وسبق أن استضاف بيت أمريكا اللاتينية رئيس نيكاراجوا دانيال أورتيجا.
في إفادة أمام جلسة استماع بمجلس النواب قدمها إيمانويل أوتو لانجي الزميل المشارك في "مؤسسة الدفاع عن الديمقراطية" في يونيو/حزيران 2016، أكد أن "حزب الله" وعناصر أخرى تابعة للحرس الثوري عمقوا وجودهم وسط 7 ملايين شخص من أصول عربية يعيشون في البرازيل، بالإضافة لتحركات عناصر "الحرس" في المثلث الحدودي بين باراجواي والأرجنتين والبرازيل، لتمكين إيران من رسم خريطة جديدة لعملياتها اللوجستية هناك.
ونظرت الولايات المتحدة، تاريخيًا، إلى هذا المثلث الحدودي باعتباره ملاذًا آمنًا لتحالف "الحرس" و"حزب الله" اللبناني، وقد فتحت فنزويلا أبوابها أمام إيران والحزب، حتى أصبحت قاعدة عملياتها الأمامية في نصف الكرة الغربي، كما تدير إيران الكثير من أنشطتها العلنية والسرية انطلاقًا من فنزويلا، وهو ما يجعل الحفاظ على هذه العلاقة أمرًا بالغ الأهمية بالنسبة للمصالح الإيرانية.
وفي هذا الإطار، كشفت بعض التقارير الاستخباراتية الأمريكية عن وجود معسكر تدريب لـ "الحرس" في جزيرة مارغريتا قبالة ساحل الكاريبي في فنزويلا، فضلًا عن إصدار بعض المسؤولين الفنزويليين ومن بينهم طارق العيسمي وزير الصناعة الفنزويلي السابق، جوازات سفر لأعضاء من "حزب الله"، يمكن استخدامها للدخول إلى الولايات المتحدة.
هذا إلى جانب الاستفادة من علاقات التحالف مع جماعات الجريمة المنظمة في تسهيل ارتكاب جرائم إرهابية، وتشير بعض التقارير إلى أن محاولة اغتيال السفير السعودي في واشنطن في أكتوبر/تشرين الأول 2011. تم تنفيذها بمساعدة عصابة الاتجار بالمخدرات المكسيكية "زيتاس"، علاوة على وجود تقارير تفيد بأن أعضاء من عصابة "سينالوا" المكسيكية قد تلقوا تدريبات على تصنيع الأسلحة والمتفجرات في إيران.
ويقول الباحث الأمريكي جوزيف هوميري، إن "الخطة الإيرانية في أمريكا اللاتينية تقوم على مستويات ثلاثة، المستوى الأول يهتم باللوجيستي والدعم، والثاني بالتنفيذ، والثالث بالسياسة. وتحتل الخلايا السياسية أهمية خاصةً بما أنها تعمل بلا هوادة على شراء ولاء وتفهم القيادات السياسية والأمنية والإعلامية المختلفة في دول القارة، حتى تضمن تعاطفها ومساندتها، عند حدوث أي هجوم أو ضربة إرهابية، فتضيع خيوط كثيرة يُمكن أن تربط بين إيران والأحداث التي تقع في هذه الدولة أو تلك".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ابق على اطلاع على النشرة الإلكترونية