العلاقات المصرية ـ الأفغانية «1922 ـ 1979م» (2)

- 31 ديسمبر 2022 - 544 قراءة

العلاقات المصرية ـ الأفغانية

 

(1922 ـ 1952م)

 

تعود نشأة التمثيل الدبلوماسي بين مصر وأفغانستان إلى عام 1922م، عام إعلان مصر "دوله مستقلة ذات سيادة"، بموجب تصريح 28 فبراير 1922م، وإنهاء الحماية البريطانية عليها، عندما بادر الأمير حبيب الله أمير أفغانستان، بإرسال خطاب تهنئة(7) إلى الملك فؤاد بمناسبة نيل مصر استقلالها، بتاريخ الخامس من سبتمبر عام 1922م، وإيفاده، من جانب واحد، رجلا من كبار رجالات الفكر والسياسة ممن كانوا يتمتعون بسمعة وطنية وخبرة سياسية كبيرة، هو "محمود طرزي"(8) إلى بلاط المملكة المصرية، بوصفه أول وزير مفوض لها لدى القاهرة. (انظر الوثيقة رقم 1، بملحق الوثائق) ومن ثم، بدأت العلاقات المصرية الأفغانية، منذ ذلك الحين وحتى عام 1952م، عام رفع درجة التمثيل السياسي بينهما إلى مستوى السفارة، أولى خطواتها الرسمية نحو استكشاف فرص تعزيز التقارب. وكم كانت كابل هي صاحبة المبادرة في تعزيز تقاربها وتوطيد علاقتها مع القاهرة، ولم لا وقد قصدها الملك "أمان الله خان" بأول زيارة رسمية في التاريخ الحديث والمعاصر، عام 1927م، وكانت القاهرة شاهدة على توقيع أول معاهدة صداقة بين البلدين، عام 1929م، كما كانت شاهدة أيضا على تبني كابل عدد من المواقف الإيجابية، خلال هذه المرحلة، التي جسدت مدى اهتمامها بتحقيق مزيد من التقارب معها، فقد باركت لمصر قيام الجامعة العربية، وأيدت قرارها القاضي بإلغاء معاهدة 1936م، ثم اختصها الملك محمد ظاهر شاه بزيارة ودية عام 1950م، وهي جميعا كانت تمثل في حد ذاتها معطيات مهمة لأن تولى مصر اهتمامها بأفغانستان، لاسيما فيما بعد قيام ثورة 23 يوليو 1952م، وهذا ما سوف نتناوله على النحو التالي:

أولًا: زيارة أمان الله خان لمصر:

اكتسبت هذه الزيارة أهمية خاصة في تاريخ العلاقات الأفغانية المصرية؛ نظراً لكونها تُعد أول لقاء رسمي بين ملكي البلدين في التاريخ، وهيأت المناخ لتبادل التمثيل الدبلوماسي بينهما. وكانت هذه الزيارة ذات شقين، الأول رسمي، واستمر لمدة ثلاثة أيام، من 26إلى 28 ديسمبر 1927م، ثم تحولت المدة المتبقية إلى زيارة خاصة حتى الخامس من يناير 1928م، وقد بدأت هذه الزيارة عندما وصل الملك أمان الله خان على متن الباخرة "راجبوتانا" إلى ميناء السويس يوم 25/12، ومنه إلى ميناء بور سعيد، حيث نزل فيها حيث قضى ليلته(9)، ثم توجه صباح اليوم التالي بالقطار إلى محطة مصر، إذ كان في استقباله في الثالثة عصراً الملك فؤاد الأول وأمراء البيت المالك ورئيس مجلس الوزراء ورئيسا مجلسي الشيوخ والنواب وكبار رجال القصر، وأطلقت المدفعية 21 طلقة تحية لمقدم جلالته.(10) وقد حظيت هذه الزيارة باحتفاء الصحافة المصرية حفاوة استدعت معها حفاوتها بجمال الدين الأفغاني؛ وعكست مكانة أفغانستان في قلوب المثقفين المصريين؛ فقد خصصت مثلا مجلة اللطائف المصرية غلاف عددها الصادر يوم 26/12/1927م، لتغطية زيارة "جلالة ضيف مصر العظيم" وكتبت: "تحلى صدر اللطائف بصورة صاحب الجلالة الملك الشرقي المسلم العظيم أمان الله خان ملك الأفغان الذي تنتظر مصر قدومه مرحبة به محتفية بزيارته"(11) كما اختصتها جريدة الأهرام بتغطية أشمل وأوسع، إذ نشرت سلسلة من المقالات والتحقيقات الصحفية المتتالية لتعريف القارئ بأفغانستان(12) كما خصصت صفحاتها الأولى، طيلة مدة الزيارة، لاطلاع القارئ على تفاصيل زيارة ضيف مصر هو الوفد الكبير المرافق له"(13) وألقت الضوء على أوجه "التعاون الروحي بين البلدين الشرقيين". (14) ومن ناحية أخرى، روى الكاتب الصحفي مصطفى أمين أن الملك فؤاد رحب بزيارة ملك أفغانستان لمصر، ولكنه عندما علم أن الملك أمان الله دعا نساء أفغانستان إلى نزع الحجاب اقتداء بـ "كمال أتاتورك" وأن البرقيات الواردة تفيد أن الملكة ثريا سترافق الملك "سافرة" في رحلته؛ اضطر إلى إلغاء إقامة الضيف الأفغاني في قصر عابدين؛ نظرا لأن التقاليد تحول دون اشتراك الملكة ثريا في الزيارة الرسمية. وقد وافق الملك أمان الله على أن تكون إقامة ثريا في مصر إقامة غير رسمية؛ فلا تشترك في الحفلات أو الاستقبالات التي يدعى إليها، وألا تظهر سافرة أثناء إقامتها في مصر مراعاة لتقاليدها؛ فخضعت ثريا لرغبة الملك فؤاد الذي أصدر أمره إلى وزارة الداخلية بمنع تصوير ملكة أفغانستان. ومن ثم لم تظهر صورة واحدة للملكة ثريا في الصحف المصرية طوال مدة الزيارة.(15) وهكذا ظلت محتجبة طول مدة إقامتها في مصر، ولكن في اللحظة التي صعدت فيها جلالتها الى الباخرة الايطالية، التي أقلتها إلى إيطاليا، رفعت الحجاب باعتبار أنها أصبحت في أرض أجنبية، وحضرت مأدبة الغداء التي أدبها وزير إيطاليا المفوض في مصر وكان من بين المدعوين إليها محافظ الإسكندرية ومدير البلدية.(16) وقد نفت ملكة الأفغان أن يكون قد وصل إلى مسامعها الشريف في ميناء السويس أن تحتجب لأنها في بلد الحجاب، وقالت: "إن شيئا من ذلك لم يبلُغ جلالتها، وإنما رأت أن تحتجب في مصر وتُسفِر في بلاد السفور"(17)

 

اقرأ أيضًا..

العلاقات المصرية ـ الأفغانية «1922 ـ 1979م» (1)

 

 

وقد كان من بين فعاليات برنامج زيارة الملك أمان الله خان، لقاء عدد من رجالات الفكر السياسة، فالتقى الزعيم مصطفى النحاس وأثنى على روح الراحل سعد زغلول.(18) كما التقى بهيئة أعضاء مجلس إدارة جمعية الشبان المسلمين بالقاهرة (19)، الذين خرج بعضهم بانطباعات غير مريحة عن مدى جرأة الملك واغتراره ببعض المظاهر الخلابة في سياحته وكيف أنه اندفع في إجراء ما كان يراها إصلاحات بينما كان الشعب الأفغاني يرى فيها خروجا عن الآداب والدين والعادات والقومية (20). ويبدو أن هذه الانطباعات كانت سائدة أيضا لدى من كان يتابع ما يحدث في بلاد المشرق الإسلامي، ولعل هذا ما نرى شواهده في خطابين منفصلين كتبهما محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار وتلميذ الإمام محمد عبده وجمال الدين الأفغاني، إلى كل من الملك أمان الله، ووزير خارجيته، بتاريخ 3 يناير سنة 1928م، وسلمه إلى وزيره المفوض في تركيا "غلام جيلاني خان" أثناء توديع جلالته في محطة سكك حديد مصر، عندما قال في خطابه للمك: "إن نهوضكم بقلب أحوال الشعب الأفغاني يحتاج إلى حكمة دقيقة وعلوم واسعة وثروة عظيمة وتدريج بطيء في كثير من الأمور. ويجب الحذر التام من حرية الإسراف والفسق والترف وتبرج النساء ومن القوانين المخالفة لعقائد الأمة وشريعتها الثابتة بالنصوص القطعية (21). وأعرب في خطابه لوزير الخارجية عن مخاوفه على مستقبل أفغانستان، ورغبته في نصح مليكه "بأن لا يغتر بالظواهر في مصر ولا في الترك فمصر لولا إسراف إسماعيل باشا في التفرنج والمال لاستطاعت أن تملك شطر أفريقية الشرقي"(22) (للاطلاع على النص الكامل للكتابين، انظر الوثيقة، رقم 2، بملحق الوثائق)

ثانيًا: إبرام معاهدة الصداقة الأفغانية المصرية:

بعد مضي قرابة العامين، على زيارة الملك أمان الله خان للقاهرة، أبرم البلدان معاهدة صداقة (23)، عام 1929م، وهي المعاهدة أسست لمرحلة جديدة من الاعتراف المُتبادل باستقلال البلدين وإقامة العلاقات الدبلوماسية بينهما، إذ بناء على هذه المعاهدة، وثق البلدان أواصر الصداقة القائمة بينهما على الوشائج الدينية وتجانس العلاقات الطبيعية والاجتماعية، من خلال الاتفاق على تأسيس الممثليات السياسية المتبادلة بينهما، بما كان يعني أن تؤسس القاهرة ممثلية سياسية لها في أفغانستان، أسوة بنظيرتها الأفغانية التي سبق أن بادرت كابل بتأسيسها في مصر عام 1922م، كما أتاحت المجال أيضا لعقد اتفاقيات أخرى للتعاون الثنائي فيما بعد، خاصة في المجال الثقافي والتعليمي والاقتصادي. (للاطلاع على صورة للمعاهدة في نصها الفرنسي، مع ترجمتها إلى العربية، انظر الوثيقة رقم 3 بملحق الوثائق)

وفي العام التالي (1930م) أوفد ملك أفغانستان الجديد محمد نادر شاه (24)، السيد محمد صادق المجددي، خلفا لسلفه محمود طرزي، حاملا كتاب اعتماده، بوصفه مندوبا فوق العادة ووزيرًا مفوضًا من لدن جلالته لدى القاهرة وذلك وفقا لنص الخطاب الشخصي (25) الذي أرسله إلى الملك فؤاد، ويحيطه علما باستقرار الأوضاع الداخلية واستتبابها، بعد القضاء على تمرد بعض القبائل الطاجيكية، بزعامة "حبيب الله کلکانی" (26) الذي سبق الإشارة إليه، قد حظي خطاب محمد نادر شاه بعناية الملك فؤاد الذي أبدى اغتباطه بحسم ما طرأ على الأمة الأفغانية من أسباب الانقلاب وعوامل الاضطراب، وأن وزير أفغانستان المفوض سيحظى بكل عطف منه وبكل تأييد ومن حكومته في أداء مهمته السامية وتحقيقا للأهداف المشتركة من زيادة إحكام روابط المودة والإخاء بين المملكتين (27) (انظر الوثائق رقم: 4، و5 ، و6 بملحق الوثائق) ومن ثم واصلت المفوضية الملكية الأفغانية عملها في القاهرة لرعاية المصالح الأفغانية بمملكة مصر والسودان، إلى جانب رعايتها في كل من لبنان وغانا، من خلال مبناها الكائن بشارع الفلكي، ولكن دون أن تقابل القاهرة كابل بفتح مفوضية سياسية لها بأفغانستان، طبقا لما نصت عليه معاهدة الصداقة المبرمة بين البلدين، المشار إليها سلفا. "ونظرا لأن الدولة الأفغانية رأت أن تمثيلها السياسي في مصر لم يقابل بمثله، برغم لفتها نظر الحكومة المصرية، فإنها لم تجد مناصا من نقل سفارتها من مصر إلى جدة"، في يناير من عام 1933م، وعلى الرغم من هذا، لم تُغلق المفوضية أبوابها تماما؛ بدليل أنه عندما اُغتيل الملك محمد نادر شاه يوم الثامن من نوفمبر من عام 1933م، أرسل الملك فؤاد، الأمين الثاني بالبلاط الملكي، إلى دار المفوضية الأفغانية لتقديم التعزية، كما أرسل برقية مواساة إلى الملك محمد ظاهر شاه، ونكّست الحكومة أعلامها على الوزارات، وذهب صاحب الدولة عبد الفتاح باشا راشد رئيس الوزراء ووزير الخارجية إلى المفوضية الأفغانية وقدم التعزية باسم الحكومة المصرية، فضلا عن رجال السلك السياسي وكبار العلماء والأعيان لهذا الغرض(28). وقد ظل الأمر على هذا النحو مدة ثلاث سنوات، حتى افتتحت القاهرة مفوضيتها السياسية في كابل عام 1936م، وعينت عبد الرحمن بك عزام، وزيرا مفوضاً غير مقيم(29) (انظر الوثيقة رقم 7 بملحق الوثائق). وقد علق دبلوماسي بريطاني في كابول، على ذلك بقوله إن إنشاء "البعثة المصرية في كابول تقوم على فرضية الشعور الإسلامي، ولست المصالح المصرية؛ لأنها مصالح غير موجودة في هذا البلد في الوقت الحاضر"(30) على كل، أعادت أفغانستان، في مقابل هذا الإجراء المصري، محمد صادق المجددي ممثلا لها مرة أخرى لدى القاهرة عام 1939م، في عهد الملك محمد ظاهر شاه،(31) وقد تشرف بتقديم أوراق اعتماده والكتاب الخاص الموجه من مليكه إلى الملك فاروق فور وصوله لمصر(32) (انظر الوثيقة رقم 8 بملحق الوثائق)

ومنذ أن افتتحت مصر مفوضيتها السياسية في كابل، وممثلها كان يحظى، طبقا لوصفه، بكل "الاحترام والاعتبار ما يحسده عليه غيره من ممثلي الدول الأخرى"، نظرا لما كانت تتمتع به مصر من مكانة دينية ومركز أدبي في العالم الإسلامي".(33) الأمر الذي ساعد على أن تتابع مفوضيتها عملها بسهولة وتتابع عن كثب التطورات الداخلية الأفغانية، اقتفاء للسبل الملائمة لتنمية العلاقات بين البلدين. ولعلنا إذا اطلعنا على جميع التقارير الواردة من المفوضية المصرية بكابل، في ذلك الوقت، لأدركنا من فورنا مدى حرص وزراء مصر المفوضين على محاولة وضع تصور للسياسة التي يمكن أن تنتهجها القاهرة حيال أفغانستان، فقد نجحوا في تكوين قاعدة بيانات ومعلومات مهمة عن رجالات الدولة المؤثرين واتجاهاتهم السياسية وتكوينهم الفكري وما يُنتظر لهم من "مستقبل في تصريف سياسة الأفغان الداخلية والخارجية"، ووجهات نظرهم "تجاه الشرق والوحدة الإسلامية" التي كانت تدعو إليها مصر، والتعرف أيضا على "كل شخصية وطريقة تفكير من لهم شأن في تصريف هذه السياسة أو فيمن عساه أن يمثل الحكومة الأفغانية في مصر". وذلك انطلاقا من أن "يكون لدى ممثلي مصر، على التعاقب، صورة حقيقية عن هذه الشخصيات، فإذا ما تحدث معها يعرف الطريقة التي يكون فيها حديثه شيقا منسجما متفقا مع أفكار وميول المستمع إليه وبذلك يخلق جوا يساعده على تسهيل مهمته".(34) كما نجح وزراء مصر المفوضين في متابعة "نشاط الحكومات الأجنبية بواسطة ممثليها بكابل"، ربما للاقتداء بها في تعزيز علاقات مصر بأفغانستان. فعلى سبيل المثال بعث وزير مصر المفوض تقريرا مطولا، في مايو من عام 1943م، حول أنشطة بعض الحكومات في كابل خاصة روسيا وبريطانيا بما لهما من جوار جغرافي وما يعن لهما من مصالح سياسية واقتصادية وتجارية، التي حتمت عليهما "الوقوف على سياسة أفغانستان الداخلية والخارجي واتجاهات رجال القبائل المتاخمة على حدود كل منهما فضلا عن العلاقات الثقافية والتجارية معها" بوصفها كانت تمثل سوقا تجارية رائجة لصادراتهما. كما ألقى التقرير المذكور الضوء أيضا على حجم نشاط الدول الأخرى فيها، فذكر أن الأطباء والمدرسين والمهندسين والصناع كانوا من الهنود، بينما كانت فرنسا تسيطر على تشييد المدارس والتدريس، أما تركيا فقد ذكر أنها تسيطر على التعليم العسكري بالجيش الأفغاني فضلا عن أن كبار الأطباء في كابل والمستشفيات الحكومية كانوا من الأتراك. هذا في حين أن اليابان أغرقت السوق المحلية بالبضائع. ومن ثم أبدى وزير مصر المفوض اندهاشه من "انعدام وجود مثل هذه السياسة لمصر" في أفغانستان؛ داعيا وزارة الخارجية والجهات المختصة الأخرى بدراسة مقترحاته بشأن سبل تعزيز مكانة مصر في أفغانستان "كل فيما يخصه ليكون هناك مبرر لوجود هذه المفوضية ... وما يُصرف عليها من نفقات" وقد تمثلت مقترحاته في تعزيز النشاط الثقافي والعلمي المصري من خلال إرسال البعثات العلمية والدينية التي كانت تحتاجها أفغانستان في ذلك الوقت لرفع مستوى خريجي مدرسة "دار العلوم العربية" التي وصف مستوى التعليم فيها بأنه ليس منحطا وحسب بل و"يخالف في كثير من نواحيه مبادئ وأصول الإسلام الحقة". مؤكداً على أن خطورة هذه المدرسة لا تتمثل فقط في تدني المستوى التعليمي لطلابها بقدر أن خريجيها "يعينون في وظائف القضاء الشرعي والإفتاء". داعياً الأزهر الشريف؛ نظرا لما له من "الولاية الدينية على التعليم الإسلامي في البلاد الإسلامية"، كي "يسعى إلى إصلاح ما يشذ عن التعليم الإسلامية الحقة بكل الطرق الممكنة". وعلى الرغم من أن وزير مصر المفوض قد ذكر "أن الحكومة المصرية قد وافقت على تعليم عدد من الطلاب الأفغان بالأزهر ومعاهد الحكومة وإرسال هيئة من العلماء إلى بلاد الأفغان مكونة من خمسة من العلماء" ... على نفقتها "دون أن تتحمل الحكومة الأفغانية شيئا"، إلا أنه طلب أيضا إيفاد أستاذين مصريين لتعليم أصول الفقه ونُظم القضاء الشرعي على المذهب الحنبلي، إلى جانب ثلاثة آخرين لتدريس التفسير والحديث وأصول الفقه ومدرسين لتعليم اللغة العربية. فضلا عن إهداء مكتبة علمية دينية من الأزهر الشريف للشعب الأفغاني. وإيفاد مقرئي القرآن الكريم، بغرض الإشراف على تعليم الشباب الأفغاني "التلاوة المثلى للقرآن الكريم ... وإنقاذ الشباب الأفغاني من دائرة واسعة من التعليم الديني السطحي البعيد عن الأصول الإسلامية الحقيقية". وبهذا يكون الأزهر قد أسدى "لبلد إسلامي أجل الخدمات وأنقذه من براثن جهل جماعة الملا الجهلاء". وإضافة إلى ذلك طالب ممثل مصر لدى كابل تقديم الدعم الفني الذي يلبي احتياجات أفغانستان في بعض المجالات، فذكر أن "الحكومة الأفغانية في أشد الحاجة للخبراء الزراعيين والفنيين" في مجال مكافحة الحشرات والجراد وأمراض النبات، وذلك بعد طرد الفنيين من رعايا دول المحور خاصة الألمان منهم.(35) ومع كل هذا، فقد فضلت الخارجية المصرية في ذلك الوقت عدم الاستجابة لهذه الطلبات البسيطة الواردة بالتقرير المذكور إلا "إذا جاء الطلب صريحا من الحكومة الأفغانية". وذلك حرصا من مصر على عدم إثارة أي حساسية اجتماعية داخل أفغانستان خاصة في وظل ما يتمتع به هؤلاء (الملا) بنفوذ سياسي وديني(36).

ثالثًا: الموقف الأفغانية الإيجابية تجاه مصر:

لقد تمثلت هذه المواقف، حينئذ، في ترحيب كابل بقيام الجامعة العربية، وتأييد قرار مصر بإلغاء معاهدة 1936م، ثم الزيارة الودية التي قام بها الملك محمد ظاهر شاه للقاهرة عام 1950م

الترحيب بتأسيس الجامعة العربية: إذ باركت أفغانستان لمصر تأسيس الجامعة العربية بالقاهرة في 22مارس 1945م، وقد ذكر وزير مصر المفوض بكابل في كتابة إلى الخارجية في مايو 1945م، أن صاحب السمو الملكي رئيس الوزراء الأفغاني، قال له في معرض ترحيب بلاده بتأسيس الجامعة العربية: "إن مصر لها الصدارة بحق من الناحية الدينية والثقافية؛ كذلك تجدنا نتتبع باهتمام كل تطور عندكم. كما أن ما قام به ملككم في السنين القليلة من أعمال وما رسمه لحكومته الرشيدة من توجيه ... كل هذا يثير إعجابنا بالنهضة العربية التي نتمنى لها المزيد..." و"إننا نرى في جامعة الأمم العربية بشير الخير، كما نرى في إخراجها إلى حيز التنفيذ بفضل ملككم وفكر جلالته وقوته الدافعة ما يُبشر بالنفع العميم..."(37)

تأييد قرار مصر بإلغاء معاهدة 36: أيدت أفغانستان الموقف المصري القاضي بإلغاء معاهدة الصداقة والتحالف بين مصر وبريطانيا المعروفة تاريخيا (بمعاهدة 36) وقد أظهرت الوثائق المصرية ذلك جلياً، فقد بعث السفير المصري لدى كابل أحمد فتحي كتابا إلى القاهرة يحمل رقم 2 (9/3) سري بتاريخ 2 نوفمبر عام 1951، يطلب فيه إفادته عما يجب ذكره لصاحب السمو الملكي الأمير "محمد هاشم خان" العم الأكبر لحضرة صاحب الجلالة ملك أفغانستان، الذي شرفه بالزيارة في دار السفارة، قبيل إلغاء معاهدة 36، وأنه "أبدى عواطفه الطيبة نحو أمانينا الوطنية، وقال إنه سبق أن ذكر لبعض المسئولين من الإنجليز أن صالحهم يقتضي عليهم أن يحافظوا على الصداقة الحقيقية للشعب المصري؛ فهي أجدى وأنفع لهم مما يحتفظون به من ميزات استعمارية تتعارض مع الأماني القومية"(38) وقد أفادت الخارجية المصرية سفارتها في كابل، بأن "الوزارة تُقدر ما أبداه صاحب السمو الملكي الأمير هاشم خان من جميل الشعور نحو مصر". ثم زودتها بنسخة "من بيان حضرة صاحب المقام الرفيع رئيس الوزراء الذي ألقاه يوم 19 أكتوبر ... وبيان حضرة صاحب المعالي وزير الخارجية؛ ليرى سموه فيها مطالب مصر الواضحة والجلية التي لا تحيد عنها وهي الجلاء الناجز التام ووحدة شطري الوادي تحت تاج مولانا المليك".(39) ومن ثم فقد أحاطت الخارجية الأفغانية السفارة المصرية بقرار الحكومة الأفغانية، الذي أذاعته عبر الإذاعة ونشرته الصحف الوطنية، المعبر عن موقفها المساند للمطالب المصرية المشروعة في إلغاء المعاهدة المفروضة عليها وتضامنها الكامل مع مصر في وحدة وسلامة أراضيها وحريتها. وأعربت عن أملها في أن قبول الدول الكبرى لهذه المطالب المنطقية سوف يحول دون وقوع أحداث ضارة بأمن الشرق.(40)

زيارة الملك ظاهر شاه لمصر: وهي الزيارة الودية التي قام بها وهو في طريق عودته لبلاده قادما من رحلة علاج في أوربا، يوم السابع من مارس من عام 1950م، واستمرت أسبوعا، حظي خلالها باستقبال حافل، ونزل ضيفا على الملك فاروق بقصر الزعفران بالعباسية (41) وقد حفل برنامج الزيارة بالموائد والمقابلات والزيارات، فقد زاره في مقر إقامته كل من الأمير محمد علي ولي العهد، ورئيس الديوان الملكي، وشيخ الأزهر، ومفتي الديار، وشيخ مشايخ الطرق الصوفية مع هيئة كبار العلماء، وقد أعرب لهم الملك ظاهر عن إعجابه بالأزهر، وعما له من مكانة سامية في العالم الإسلامي، قائلا: إنني أرجو أن تزداد البعوث الإسلامية الأزهرية إلى أفغانستان.(42) خاصة أنه كان يوجد بالأزهر رواق خاص بالطلبة الأفغان، كان يسمى رواق الأفغان أو رواق السليمانية، الذي كان قد أنشأه الأمير "عثمان كتخدا" وتم ضمه، فيما بعد، إلى ساحة الجامع، وكان يقع بين باب الشوام ورواق جاوة، وكان به خمسة مساكن وخزانة كتب كبيرة، وكان من بين طلابه محمد صادق المجددي وزير أفغانستان المفوض في مصر، أثناء الزيارة(43). وكان في مقدمة حفلات الترحيب التي أقيمت لظاهر شاه، مأدبة الغداء التي دعاه إليها الملك فاروق، وكان جلالتاهما يرتديان الثياب العسكرية، وقد تقلد الفاروق رصيعة الوسام الأفغاني المهدي إليه من ضيف البلاد، كما تقلد ملك أفغانستان "قلادة محمد علي" المهداة إليه من ملك مصر، أعقبها حفل آخر أقامه محمد صلاح الدين بك وزير الخارجية، والذي صرح خلاله الملك الأفغاني لحسين سرى باشا بقوله: "ان الحفاوة التي قابلني بها الشعب المصري، وعلى رأسه جلالة أخي الفاروق سيظل لها أعمق الأثر في نفسي ونفوس شعبي".(44)

عوامل تعزيز التقارب المصري ـ الأفغاني

لعبت المتغيرات الدولية دورًا مهمًا في تكريس مبررات تعزيز التقارب بين مصر وأفغانستان وتوثيق وشائج الأخوة بينهما، بقدر ما لعب موقع أفغانستان الاستراتيجي دورًا في تقوية ارتباطها بمنطقة الشرق الأوسط، بعد أن أصبحت تُمثل، بالنسبة لمصر، مدخلا لآسيا الوسطى بديلا عن إيران وتركيا، اللتان حددتا مصالحهما في الاعتراف بإسرائيل، في وقت كانت مصر تحاول فرض طوق من العزلة على هذا الكيان المحتل للأراضي العربية، وفي انضمامهما لحف بغداد، الذي عارضته القاهرة بشدة. وبالتالي يمكن القول إن أفغانستان أصبحت تمثل، بالنسبة لمصر، في ظل هذه المتغيرات، محور ارتكاز لمنع إسرائيل من الالتفاف حول هذا الطوق والتسلل إلى آسيا؛ خاصة بعد أن رفضت كابل رفضا مُبرما الاعتراف بإسرائيل.(45) وفضلا عن هذا، فقد وقفت عدة أسباب رئيسة وراء تعزيز التقارب بين القاهرة وكابل، أهمها: تأييد أفغانستان التوجهات السياسة المصرية، ومساندتها للقضايا العربية، وإيمان البلدين بمجموعة من المبادئ السياسية المشتركة، التي جسدت في مجملها دوافع كلا البلدين نحو توثيق علاقات التعاون وتنسيق المواقف السياسية فيما بينهما، وزيادة النشاط الدبلوماسي المتبادل بينهما. وهذا ما نتناوله على النحو التالي:

أولًا: تأييد التوجهات السياسة المصرية:

أيدت أفغانستان بشكل دائم جميع التوجهات السياسية المصرية، فقد اعترفت بثورة يوليو 1952م، وبنظامها الجمهوري، ورحبت بقيام الوحدة بين مصر وسوريا، وساندت حق مصر المشروع في تأميم قناتها، ثم آزرتها أثناء العدوان الثلاثي. وذلك على النحو المبين على النحو التالي:

1ـ الاعتراف بثورة يوليو، وبقيام النظام الجمهوري: كانت أفغانستان من أوائل الدول التي رحبت بقيام ثورة يوليو 1952م، في مصر، وكانت من أوائل الدول التي رحبت أيضا بإعلان الجمهورية، حيث أرسل الملك محمد ظاهر شاه برقية تهنئة إلى الرئيس محمد نجيب؛ بمناسبة إعلان الجمهورية وتوليه رئاستها يوم 18يونيو عام 1953م(46) (للاطلاع على نص البرقية المذكورة وجوابها انظر الوثيقة رقم 9 بملحق الوثائق)

3ـ تأييد قرار مصر بتأميم القناة: كانت أفغانستان في مقدمة الدول التي أيدت حق مصر المشروع في تأميم قناة السويس؛ الذي أعلنه الرئيس جمال عبد الناصر، يوم 26 يوليو 1956م، فقد ذكر القائم بالأعمال المصري بالنيابة بالسفارة المصرية كابل عبد الوهاب خالد داود، ما يفيد ذلك في تقريره إلى الخارجية: "أجمعت كافة الدوائر الرسمية والأوساط الشعبية في أفغانستان على تأييد مصر في تأميمها لشركة القناة واستنكار ما لجأت إليه إنجلترا وفرنسا من أساليب الضغط والتهديد، فجاء في خطاب الملك محمد ظاهر شاه الذي ألقاه يوم 24 أغسطس بمناسبة عيد الاستقلال الأفغاني أن أفغانستان عبّرت عن تأييدها التام لإرادة الشعب المصري الحرة بتأميم شركة القناة، وعن أملها في أن تحترم الدول الكبرى حقوق الشعوب والمبادئ الدولية وميثاق الأمم المتحدة واعتبارات السلام الدولي، وأن تنتهج مسلكا في احترام حقوق الشعب المصري".(47). كما ذكر القائم بالأعمال أن رئيس الوزراء سردار محمد داود خان(48)، قال في كلمته في ذات المناسبة، عبر إذاعة كابل: "إن قرار التأميم الذي أصدرته حكومة الشعب المصري الشقيق قد قوبل برد فعل غير مناسب وغير متوقع، وأن أفغانستان تشارك مصر في شعورها وتؤيد حقها في اتخاذ هذا القرار المحقق لآمال شعب مصر. وتأمل أن تحترم الدول الغربية حقوق الشعب المصري التي لا جدال فيها، وألا تسمح بأن يؤدي هذا الإجراء إلى نتائج سيئة بإقدامها على استخدام القوة بدون وجه حق وبغير سند شرعي". واستطرد القائم بالأعمال بقوله إن رئيس الوزراء الأفغاني "طلب إلى السردار نعيم وزير الخارجية عقب قرار التأميم أن أطلعه أولا بأول على كل ما يجدّ من تطورات في هذا الشأن، مُبديا أنه لما كانت الحكومة الأفغانية تؤيد قرار مصر بتأميم شركة القناة وتنتهج الخطة المصرية الموافِقة لوجهة النظر المصرية في هذا الخصوص؛ فيهمه لذلك أن يطلع على موقف مصر حيال مؤتمر لندن وما قد يحدّ من اجتماعات دولية لبحث موضوع القناة حتى يتخذ الخطوات التي تؤدي إلى نُصرة مصر في هذه القضية". ثم أردف قائلا: "وقد آليت إطلاع سيادته على تطورات الموقف وأوضحت له وجهة النظر المصرية"(49)

وكان وزير الخارجية سردار محمد نعيم قد أصدر بدوره بيانا يوم 2 أغسطس 1956م، أعرب فيه "عن تأييد الحكومة الأفغانية لتأميم شركة القناة؛ باعتباره عملا داخل في نطاق ممارسة مصر لحقوق سيادتها، وعن الأمل في أن تراعي الدول الكبرى تقديم اعتبارات المحافظة على السلام على كل ما عاداه من المصالح وأن تُدرك أنه قد حان الوقت لأن تعنى بتفهم مطالب الدول الصغيرة، وأن تمتنع عن استعمال أساليب القوة والضغط".(50) وقد أكد الوزير الأفغاني موقف بلاده الداعم للموقف المصري، أثناء لقاء رسمي مع القائم بالأعمال المصري، أكد خلاله على "تأييد أفغانستان حكومة وشعبا لموقف مصر الحازم في هذه المسألة"، وقال أيضا "إنه لا يشك في أن بريطانيا وفرنسا ترميان بسياستهما إلى إعادة فرض نفوذهما الاستعماري على الدول العربية. وأنه لو قدر لهما النجاح في ذلك ـ لا سمح الله ـ لأصيب استقلال وحرية جميع دول الشرق الأوسط بضربة قاصمة ولوقعت هذه الدول تحت رحمتها"(51). وفي ظل هذا الاهتمام الأفغاني بمساندة الموقف المصري من التأميم؛ قال القائم بالأعمال المصري إنه التقى الملك محمد ظاهر شاه، وأن جلالته أفضى إليه "بأن أفغانستان عانت كثيرا في تاريخها الحديث من المستعمرين ومؤامراتهم وهي لهذا تقدر موقف مصر ومؤازرتها مؤازرة تامة وتترقب كل فرصة ممكنة للقيام بدور إيجابي فعال لنصرتها في مسالة التأميم".(52)

وبنفس القدر، فقد عارضت أفغانستان جميع المحاولات الاستعمارية التي كانت ترمي إلى السيطرة على قناة السويس بتدويلها أو الإشراف عليها؛ واستنكرت دعوة بريطانيا وفرنسا وأمريكا إلى عقد مؤتمر لندن المعروف، بغرض محاولة العودة إلى قناة السويس تحت ستار التدويل أو تحت الإشراف عليها. فقد أكدت مرة أخرى على حق مصر الكامل في إدارة قناة السويس والإشراف عليها وحدها، وأن حق الدول الأخرى فهو ينحصر فقط في المرور عبر هذا الممر المائي المفتوح أمام التجارة العالمية. حيث أدلى نائب رئيس الوزراء علي محمد خان بتصريح قال فيه: "إن تأليف جمعية المنتفعين بقناة السويس هو تدخل سافر في شئون مصر، وعدوان على حقوقها وسيادتها". و "إن هذا العمل معناه تحدي مصر والتحرش بها للانتقاص من حقوقها الوطنية". وأعرب نائب رئيس الوزراء عن أمله في حل هذه القضية بطرق سلمية تكفل حق مصر في تفادي الوسائل التي تؤدي إلى نتائج خطيرة ووخيمة.(53)

3ـ مناصرة مصر أثناء العدوان الثلاثي: لقد كان للعدوان البريطاني الفرنسي الإسرائيلي على مصر 29أكتوبر 1956م، صدى كبيرا في أوساط الشعب الأفغاني؛ فقد أعلنت أفغانستان حكومة وشعبا استنكارها الشديد لهذا العدوان الثلاثي الصارخ على الشعب المصري الآثم الذي لم يسبق له مثيل في أي بلد إسلامي آخر.(54) ولقد أدارت الحكومة الأفغانية أزمة العدوان الثلاثي داخليا وخارجيا بكفاءة اتسقت مع موقفها الثابت من تأييد حق مصر في تأميم قناتها. فعلى المستوى الداخلي، استنفرت الشعب الأفغاني بأكمله لمساندة مصر، معلنة إدانتها الكاملة للعدوان ومساندة مصر التامة. وقد وافى السفير "حسين ثابت كرارة" سفير مصر لدى كابل وزارة الخارجية بتفاصيل وحقائق "صدى الاعتداء على مصر في أفغانستان"، إذ ذكر أنه صدر بيان أفغاني بتاريخ 5 نوفمبر الجاري، جاء فيه: "إن جلالة الملك محمد ظاهر شاه ألقى كلمة في جلسة المجلس الوطني عن العدوان الثلاثي، قال فيه: "إن اعتداء إسرائيل على أرض مصر وإلقاء القنابل بلا مبرر من قبل بريطانيا وفرنسا على بلد إسلامي وعلى إخواننا في الدين كان له وقع شديد الأثر في نفسه"(55) وأوضح أيضا أن حكومة بلاده كانت قد أعلنت عن احتجاجها الشديد وسخطها على هذا الاعتداء، حيث أصدرت يوم الأول من نوفمبر، أي بعد 48 ساعة من بدء العدوان "بيانا استنكرت فيه هذا الاعتداء الآثم" وأعلنت " تأييدها التام لمصر وأهابت بالأمم المتحدة أن تتخذ الإجراءات الكفيلة بوضع حد لهذا العدوان الاستعماري المخالف لمبادئ الميثاق والحرية والعدالة"(56) كما أدان رئيس الوزراء سردار محمد داود خان، لدى عودته مساء يوم الثاني من نوفمبر 56، العدوان على الشعب المصري الذي تربطه بالشعب الأفغاني روابط الدين والصداقة والود.(57) "كما أذاع على الأمة الأفغانية، في 13 نوفمبر، بيانا عبر الإذاعة، جاء فيه: "إن الاعتداء الآثم على مصر المسلمة الشقيقة أحدث أسى عميقا في أفغانستان، وكان له صدى في جميع البلاد الأفغانية؛ وقد شاركت الحكومة الشعب في الإعراب عن شعورها وتأييدها لبطولة الشعب المصري والحكومة المصرية، كما أعلنت ذلك شعوب العالم"، ثم استطرد قائلا: "ولما كانت سياسة أفغانستان تسير على قواعد الإنسانية ومبادئ الأمم المتحدة ومقررات باندونج ومقاومة العدوان والاستعمار، فإن الحكومة الأفغانية وعدت بتقديم كل المساعدات لهذه الأمة الشجاعة.". ثم "دعا في ختام بيانه جميع طبقات الشعب الأفغاني إلى المساهمة في التبرع للهلال الأحمر لمساعدة ضحايا العدوان على مصر".(58) وختم كلمته بأنه تلقى طلبات لا حصر لها من جميع أنحاء البلاد يعلن فيها مرسلوها أفرادا وجماعات تطوعهم لمساعدة مصر في تحقيق نصرها، وإنه لمن الضروري أن يتم أداء هذا الواجب على أساس منظم لضمان الوصول إلى الغاية المرجوة ... وختاما أسأل الله تعالى أن يؤيد مصر العزيزة بنصره وأن يوفق إخواننا المصريين الأبطال في تحقيق مطالبهم(59).ومن ناحية أخرى، كانت وزارة الخارجية المصرية قد بعثت برقية إلى سفارتها في أفغانستان بتاريخ 6 نوفمبر؛ تطلب فيها من السفير "بتوجيه نداء مصر إلى الحكومة الأفغانية بطلب العون من متطوعين وسلاح للدفاع عن كيانها ضد العدوان الآثم"، وقد قام السفير بتسليم صورة من هذا النداء في اليوم التالي إلى رئيس الوزراء. حيث ذكر إنه وجد استجابة فورية للنداء المصري؛ حيث استدعاه "عبد الرحمن باجواك" مدير الإدارة السياسية بوزارة الخارجية الأفغانية، عصر نفس اليوم وسلمه ردا من رئيس الوزراء، وأبلغه أيضا أنه أذاع بيانه المذكور سلفا لاستنكار العدوان ودعوة الشعب الأفغاني للتبرع للهلال الأحمر". وقد جاء نص رد المذكور على النحو التالي:

 

رئيس وزراء أفغانستان                       7 نوفمبر 1956

عزيزي السيد السفير

بادرت الحكومة الأفغانية بمجرد علمها بالعدوان البريطاني الفرنسي الإسرائيلي الظالم على مصر الصديقة الحليفة بالإعراب عن ألمها العميق ومعاضدتها التامة لمصر. وعندما تلقت الحكومة الأفغانية نداء الحكومة المصرية بطلب العون أحست من جانبها بشعور قلبي من المشاركة التامة لمصر لما بين الأمتين الشقيقتين من روابط وثيقة ومستحكمة. وإني إذ أُعرب عن آمال الشعب الأفغاني بتوفيق إخوانه المصريين في كفاحهم. وأن الحكومة الأفغانية لترى في القيام بمعاونة مصر واجبا يحتمه الدين والأخلاق والصداقة. وسنقوم بإبلاغ سيادتكم بالوسائل والطرق العملية لمساعدة مصر بما ستتخذه من إجراءات في هذا السيل بأقرب فرصة ممكنة.

محمد داود"(60)

 

وإضافة إلى ذلك، "استدعى رئيس الوزراء الأفغاني السفير المصري، في اليوم التالي، لمقابلته وكرر إبداء عطفه على مصر واستنكاره للعدوان، وأبلغه أنه عقد مجلس الوزراء في جلسة غير عادية لتأكيد البيان الذي أصدرته الحكومة الأفغانية يوم أول نوفمبر، وقال إن أفغانستان حكومة وشعبا تضع نفسها تحت تصرف مصر. ثم قال إنه شخصيا إنه إذا صمدت مصر وقاومت الاعتداء لمدة شهر أو شهرين فإن النتيجة ستكون لصالح مصر"(61)

وقد ذكر السفير حسين كرارة في كتابه إلى الخارجية يوم 20 نوفمبر "أنه على إثر النداء القوي الذي أذاعه رئيس وزراء أفغانستان في الراديو يوم 13 نوفمبر ... بدأت حملة دعاية قوية لجمع التبرعات لمصر بواسطة الهلال الأحمر الأفغاني. وقد عقد الكثير من الاجتماعات في جميع مدن أفغانستان وأطلق على يوم الجمعة 16 نوفمبر ... يوم مصر. وقد انهالت التبرعات على الهلال الأحمر. وتنشر الصحف، كما يذيع راديو كابل يوميا أسماء المتبرعين لمصر". ثم أضاف أن الشعب الأفغاني "يبدي حماسا كبيرا وتأييدا عظيما لنصرة مصر". وأن مجموع التبرعات قد بلغت "أربعة ملايين أفغاني سلمها رئيس جمعية الهلال الأحمر" إليه، "بشيك قيمته مائتي ألف دولار على أحد البنوك الأمريكية"(62).

ومن ناحية أخرى، نذرت الصحافة الأفغانية والإذاعة الوطنية جهدها لنصرة المصريين ضد العدوان، فكانت تنشر تباعا التصريحات الرسمية المصرية وتذيع البيانات الحربية الصادرة عن القاهرة، والتي كانت تُكذب مزاعم المعتدين في شل مقاومة المصريين وفي احتلالهم مصر نهائيا وبالقضاء على الحكومة الوطنية.(63) كما "والت الصحف الأفغانية نشر أنباء العدوان بالتفصيل وأنباء المظاهرات والاجتماعات التي حدثت في كافة نواحي أفغانستان تأييدا لمصر واستنكارا للعدوان الاستعماري الصهيوني عليها وإبداء للرغبة في التطوع للدفاع عنها"(64) حيث "قامت المظاهرات ضد الدول المعتدية، وعقدت الاجتماعات في المساجد والمدارس وغيرها لتأييد مصر واستنكار العدوان الغادر، وحاول المتظاهرون اقتحام مبنى السفارتين الفرنسية والبريطانية، ولكن الشرطة تدخلت لمنعهم. كما زار دار السفارة المصرية كثير من الأفغان إظهارا لعواطفهم وتأييدهم لمصر مُبدين استعدادهم للتطوع للدفاع عنها. كما وصل السفارة عدد من البرقيات والخطابات يبين أصحابها فيها تأييدهم واستعدادهم للتطوع للدفاع عنها".(65) وذلك بعد أن أعلن العلماء الأفغان الجهاد مع مصر ضد الغزاة المعتدين، فتكونت "لجنة الدفاع عن مصر" التي قامت بطبع وتوزيع آلاف المنشورات باللغتين البشتونية والفارسية في جميع أنحاء البلاد ورفعتها على الجدران في الشوارع والمساجد والمدارس والمنتديات. وقد تضمنت هذه المنشورات الإعلان للجهاد الذي هو فريضة على كل مسلم قادر، وحثت فيه على الأخذ بنصرة مصر الشقيقة العزيزة، ومن ثم أقبل الأهالي على التطوع أفواجا وأفرادا، وفيما يلي نص أحد هذه المنشورات:

 

جهاد

بسم الله الرحمن الرحيم

(وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون) صدق الله العظيم

لقد كان الاعتداء الغاشم الغادر الذي قامت به العصابات التي سُميت إسرائيل والقوات المسلحة البريطانية والفرنسية على إخواننا المصريين المسلمين. أثرا بالغا في نفوس الشعب الأفغاني المسلم المحب للحق والحربة بوجه خاص.

إن الشعب الأفغاني الشهم لعلى أتم استعداد اليوم ليقوم بدوره للدفاع عن حقوق إخوانه المصريين، ضد الغاصبين المعتدين بالنفس والنفيس

يحيا الشعب المصري المسلم الشقيق ـ الموت والخزي لليهود المعتدين".(66)

 

وفي هذا السياق، أشار السفير المصري أيضا إلى أن مدير الإدارة السياسية بالخارجية الأفغانية اجتمع به، "وأبلغه أن أفغانستان تود إرسال متطوعين مسلحين إلى مصر ولكن مركزها الجغرافي يحتم مرور هؤلاء المتطوعين عبر أراضي جيرانها. وقال إن الحكومة الأفغانية تتصل بكل من إيران والعراق وباكستان والهند للحصول على تصريح بمرور هؤلاء المتطوعين". ثم عقب السفير بقوله "وقد أدت التطورات التي حدثت بعد ذلك إلى عدم إرسال متطوعين من الدول الصديقة إلى مصر". ويقصد بها انتهاء العدوان.(67)

أما على المستوى الخارجي، فقد أدارت أفغانستان أزمة العدوان بكفاءة لا تقل عن إدارتها على المستوى الداخلي، حيث لعبت دورا بارزا في مساندة مصر في جميع المحافل الدولية، فقد "بعث وزير الخارجية الأفغانية إلى السكرتير العام للأمم المتحدة "داج همرشولد" برقية أبدى فيها قلق أفغانستان البالغ للاعتداء على مصر وطلب منه شخصيا ومن الأمم المتحدة أن يقوم بوقف العدوان الآثم المخالف للميثاق وبالآداب العامة وقواعد القانون الدولي"(68) كما بعث السردار محمد داود خان رئيس الوزراء برقية مطولة إلى همرشولد، طلب منه إبلاغها إلى جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة(69) عبر فيها عن مدى حرص الشعب الأفغاني على إظهار أخلص عواطفه الأخوية نحو الشعب المصري، وتضامنه معه في كفاحه دفاعا عن حقوقه وعن حريته وسيادته، كما أعرب عن استنكاره لأعمال العدوان الوحشية الباغية بوصفها أعمال غير إنسانية ومجافية لجميع القوانين الدولية والضمير الإنساني. (للاطلاع على نص البرقية انظر الوثيقة رقم 10 بملحق الوثائق)

وقرر همرشولد دعوة مجلس الأمن للانعقاد لكي يتخذ موقفا فعالا في وقف العدوان، وألقى كلمة قال فيها: "إن مبادئ ميثاق الأمم المتحدة أهم بكثير من الأهداف السياسية لأي دولة وأن هذه المبادئ هي مرجعه الأول والأخير فيما يحق له أن يفعله، وليس في إمكان الأمين العام القيام بعمله إلا إذا حافظت كل دوله من الدول الأعضاء على شرف تعهدها باحترام ميثاق الأمم المتحدة.... إن معنى ما قلته واضح للجميع ... أما إذا كان للدول الأعضاء وجهة نظر أخرى في واجبات الأمين العام فمن حق هذه الدول، كما أن من حق الأمين العام، أن تتصرف تصرفاً آخر. بما كان يعني إصراره الشديد على أن تُعلن الدول الأعضاء موقفها خلال تلك الجلسة.(70)

وفي ظل هذه الأجواء، "أرسلت وزارة الخارجية الأفغانية تعليماتها إلى وفد أفغانستان الدائم بالأمم المتحدة لتأييد مصر بقوة"(71) ومن ثم ارتفع صوت مندوب أفغانستان في الأمم المتحدة مطالبا برد المعتدين ونصر المصريين بالفعل والعمل لا بالقول والخطب. فطالب بوقف القتال وسحب القوات المعتدية فورا من الأراضي المصرية. كما طالب بالتعويض عن الخسائر التي لحقت مصر جراء هذا الاعتداء.(72)

وفور انتهاء العدوان، بادرت أفغانستان بتهنئة مصر، فقد بعث الملك محمد ظاهر شاه برقية تهنئة إلى الرئيس عبد الناصر؛ فور جلاء القوات المعتدية يوم 23 ديسمبر 1956م، كما بعث رئيس الوزراء محمد داود خان برقية مماثلة(73). (لاطلاع على نص البرقيتين يمكن الرجوع إلى الوثيقة رقم 11 بملحق الوثائق) كما "أذاع راديو كابل في يوم 25 ديسمبر برنامجا خاصا بمناسبة جلاء القوات المعتدية من بورسعيد(74) تضمن إذاعة نص برقيتي التهنئة التي أرسلهما كل من جلالة الملك والصدر الأعظم إلى السيد الرئيس، وكلمة أذاعها كل من سفير مصر ورئيس جمعية الهلال الأحمر، وعرض لبعض المقالات التي كتبتها الصحف بهذه المناسبة".(75) ثم "قامت هذه الصحف "بحملة لإجراء تحقيق دولي عن العدوان الغادر على مصر وتعويض الأضرار التي أصابتها من جرائه، ودبجت المقالات بهذا المعنى".(76) وفي هذا السياق، ذكر السفير حسين كرارة أنه التقى السردار محمد نعيم وزير الخارجية يوم 14 يناير 1957م، وقدم إليه مفكرة بشأن تأييد طلب مصر في التعويضات عن الخسائر والأرواح والأموال التي نتجت عن الاعتداء الإسرائيلي البريطاني الفرنسي، وأن وزير الخارجية قال له: "إن أفغانستان أيدت وستؤيد مصر دائما في كل ما يتعلق بهذا الاعتداء ونتائجه. وأن وفدها الدائم في الأمم المتحدة على اتصال بوفد مصر وبوفود الكتلة الآسيوية الأفريقية لاتخاذ أي إجراء في هذا الشأن في الجمعية العامة للأمم المتحدة" واستطرد السفير المصري، قائلا: إن "نائب وزير الخارجية أبلغه أن الوزير أرسل برقيا تعليمات إلى وفد أفغانستان الدائم تنص على تأييد مصر بقوة في هذا الشأن". "وفيما يتعلق بإلغاء معاهدة الصداقة بين مصر وبريطانيا الموقعة في أكتوبر 1954 ... فقد أبلغني الوزير أن موقف مصر منطقي وقانوني وأنها تصرفت في حدود حقوقها طبقا للقانون الدولي ..." خاصة أن هذه المعاهدة "تعتبر مُلغاة من تلقاء نفسها إذا اعتدى أحد أطرافها على الطرف الآخر؛ لأنه قد أهدر باعتدائه أول وأهم عنصر مكون للصداقة". ثم قام نائب وزير الخارجية باستدعاء مراسل وكالة باختر الأفغانية مساء 15 يناير وأدلى إليه بحديث ... جاء فيه إن أفغانستان تؤيد طلب مصر في التعويضات الكاملة المترتبة على الاعتداء الإنجليزي الفرنسي على سيناء وبور سعيد".(77) ومن ناحية أخرى، كانت الحكومة الأفغانية قد أعدت قوة لإرسالها للانضمام إلى قوة البوليس الدولي، بعد موافقة مصر على طلبها، وقد اتصلت بحكومة الولايات المتحدة لعمل الترتيبات اللازمة لنقل هذه القوة بطريق الجو.(78) ولكن السفير المصري علم، فيما بعد "أن السبب في عدم إرسال مفرزة الجيش الأفغاني إلى مصر يرجع إلى أن السكرتير العام للأمم المتحدة أبلغ الحكومة الأفغانية أنه إذا احتاج إلى زيادة عدد أفراد قوة الطوارئ الدولية فإنه سيتخذ الإجراء اللازم لنقل القوات الأفغانية إلى مصر"(79)

4ـ الترحيب بقيام الجمهورية العربية المتحدة: كانت أفغانستان في طليعة الدول التي رحبت بقيام الوحدة بين مصر وسوريا، فقد بادر الملك محمد ظاهر شاه، إلى تهنئة الرئيس جمال عبد الناصر بقيام الجمهورية المتحدة، التي أعلن عن قيامها يوم 23 فبراير 1958م، برسالة جاء فيها: "لقد كانت فرحتنا عظيمة لنبأ إنشاء الجمهورية العربية المتحدة، طبقا للأماني المشتركة للشعبين العظيمين. فأفغانستان ـ بصفتها بلداً إسلاميا ترحب بكل ما يساعد على اتحاد وتقوية الشعوب العربية. وهي تأمل أن تصل هذه الشعوب إلى جعل أهدافها العظيمة المشتركة حقيقة ملموسة بفضل التعاون وحسن التفاهم. وبمناسبة هذا النجاح الباهر أقدم لفخامتكم والشعبين النبيلين المصري والسوري، بالنيابة عن الأمة الأفغانية، أطيب التهاني. وأرجو من الله العلي القدير أن يبارك هذا القرار التاريخي، الذي اتخذه الشعبان الشقيقان، وأن يمنح الجمهورية العربية المتحدة الرفاهية والتقدم". كما تناولت الصحف والإذاعة الأفغانية هذا النبأ أيضا بالترحيب والتهنئة الصادقة.(80)

ثانيًا: مساندة القضايا العربية:

كانت مساندة أفغانستان للقضايا العربية من بين العوامل التي عززت التقارب بينها وبين مصر؛ فلطالما وقفت أفغانستان إلى جانب حقوق الأمة العربية وعدالة قضاياها في المحافل الدولية؛ فقد ناصرت القضية الفلسطينية في الأمم المتحدة، وطالبت بالحرية لشعب الجزائر من الاحتلال الفرنسي، ولعل هذا ما سنلقي الضوء عليه بإيجاز على النحو التالي: (81)

1ـ مناصرة القضية الفلسطينية: وقفت أفغانستان حكومة وشعبا مواقف مشرفة إلى جانب القضية الفلسطينية على الدوام، منذ بدايتها. وقد اتسقت مواقفها حيال هذه القضية في المحافل الدولية مع المواقف العربية؛ فبذلت كل ما في وسعها في سبيلها، حتى أن الشعب الأفغاني تبرع على اختلاف طبقاته بمبالغ طائلة تم إرسالها إلى الأمانة العامة لجامعة الدولة العربية إبّان حرب فلسطين عام 1948م، وتقدم آلاف المواطنين الأفغان للتطوع إلى جانب المجاهدين العرب ضد الإسرائيليين. وكانت أفغانستان الدولة الوحيدة غير العربية التي اعترفت بحكومة عموم فلسطين سنة 1949م، كما اعترفت أيضا بمنظمة التحرير الفلسطينية فور تأسيسها عام 1964م، واستقبلت الوفد الممثل لها بكابل في نفس العام.(82) وقد حسم وزير الخارجية محمد نعيم أثناء زيارته لمصر في أبريل 1955م، موقف بلاده من إسرائيل، عندما أكد مرة أخرى على "أن سياسة أفغانستان الخارجية قائمة على تعزيز أواصر المودة مع العرب، ومن ثم فإنها تساندهم في جميع القضايا التي تتعلق بأقطارهم، وهي في هذا تتطابق مع السياسات العربية والمصرية منها على وجه التحديد فيما يخص العلاقة مع إسرائيل"(83)

وعلى الرغم من أنه لم تظهر أي أدلة على وجود تنسيق مصري أفغاني بخصوص القضية الفلسطينية، إلا أن الموقف الأفغاني الثابت والمعلن لم يتغير عن موقفها غير المعلن من القضية الفلسطينية، كما كانت كابل حريصة على ألا يتطور الموقف المصري من هذه القضية إلى نشوب صدام مع الولايات المتحدة. ولعل هذا ما عبر عنه السفير المصري لدى كابل بموجب كتاب إلى القاهرة، ذكر فيه أن وزير الخارجية الأفغانية محمد نعيم، قد نصحه "بصفته صديقا حميما لمصر يرغب لها الرفعة والسؤدد، بأن تتجنب مصر الاصطدام بالولايات المتحدة وأن تسعى لإيجاد حل نهائي لمشكلة فلسطين التي تُعكر صفو العلاقات المصرية الأمريكية". وأنه قال له أيضا: "إنه يعتقد جازماً أن الأمريكيين مُصممون على بقاء إسرائيل، وأنه قد آن الأوان أن يقبل العرب هذا الأمر الواقع. وأن روسيا مهما بلغت تهديداتها وإنذاراتها لن تخاطر بالدخول في حرب عالمية من أجل حقوق العرب". وقد استطرد الوزير قائلا أيضا: "إنه يعتقد أن الحكومة الأمريكية أيضا يهمها صداقة مصر لتأكدها من أنها مصدر للإشعاع الديني والثقافي في الشرق الأوسط. ولكن نفوذ اليهود في أمريكا... لن يسمح لها بالتضحية بإسرائيل في سبيل ذلك"(84)

وفي ضوء ما سبق ذكره، يمكن القول إن هذه الرؤية الأفغانية الواقعية حيال القضية الفلسطينية، هي جعلت أفغانستان تؤيد، فيما بعد، مبادرة الرئيس محمد أنور السادات للسلام، وذلك على النحو الذي سترد الإشارة إليه لاحقا.

2ـ مناصرة ثورة التحرير الجزائرية: وكما أيدت أفغانستان القضية الفلسطينية، ورحبت "باستقلال السودان ومراكش وتونس، وشرعت في تبادل التمثيل الدبلوماسي مع هذه الدول".(85) فقد ساندت أيضا ثورة التحرير الجزائرية التي اشتعلت في الأول من نوفمبر 1954م، ضد الاستعمار الفرنسي، واستمرت سبع سنوات ونصف من الكفاح المسلح والعمل السياسي، وانتهت بإعلان استقلال الجزائر يوم الخامس من يوليو 1962م، فكم أدانت كابل عمليات الإبادة التي كانت ترتكبها القوات الفرنسية بحق الشعب الجزائري. وساندت الموقف الجزائري في المحافل الدولية مؤكدة على أن "الموقف في الجزائر يستدعي القيام بمسعى مشترك من قبل جميع الدول الإسلامية. كما استنكر وزير الخارجية في تصريح صحفي له اعتداء الحكومة الفرنسية على الشعب الجزائري واستخدامها قوات حلف شمال الأطلسي الفرنسية في عمليات القمع والإرهاب. وأعرب عن تضامن الشعب الأفغاني مع الشعب الجزائري وجهاده."(86) ومن ناحية أخرى، قدم الهلال الأحمر الأفغاني مساعدات مالية للمجاهدين الجزائريين عام 1959م، بلغت 15 ألف دولار كدفعة أولى. كما تأسست في كابل لجنة وطنية لتقديم المساعدات المستمرة للاجئين الجزائريين، ورخصت الحكومة الأفغانية بافتتاح اكتتاب عام مستمر لمن يمد يد المعونة إلى هؤلاء اللاجئين. كما طردت القائم بأعمال السفارة الفرنسية في كابل(87).

ثالثًا: الإيمان بالمبادئ السياسية المشتركة:

من بين العوامل التي أسهمت في تزايد عوامل التقارب والتفاهم بين القاهرة وكابل، إيمانهما بمجموعة من المبادئ السياسية المشتركة. وهو الأمر الذي عكس اتفاق توجهاتهما السياسة حيال العديد من القضايا الإقليمية والدولية. فقد آمنت مصر وأفغانستان بالحياد الإيجابي، ونبذا الأحلاف والتكتلات السياسية الإقليمية، وشاركا في مؤتمر باندونج. وهذا ما سنلقي الضوء عليه بإيجاز على النحو التالي:

1ـ الحياد الإيجابي: ظهر سياسة الحياد الإيجابي، بعد الحرب العالمية الثانية 1939 ـ 1945م، بغرض حماية الدول الإفريقية والآسيوية نفسها من صراعات دولية لا تعنيها مباشرة. وقد قامت سياسة الحياد على مجموعة من الأسس التي كانت تتلخص في: عدم الانضمام إلى الأحلاف العسكرية، وعدم الانحياز إلى أي من أطرافها، فضلا عن والتعاون والمشاركة في إيجاد حلول للأزمات من خلال القوانين الدولية. والعمل على إيجاد مبادرات لتعزيز السلام وتخفيف التوتَر. ومن ثم كرس الحياد الإيجابي المبادئ التي عززت التعايش السلمي، مثل احترام استقلال الدول وسيادتها الوطنية، وعدم التدخَل في شؤونها الداخلية، وتمتعها بحق اختيار النظام الملائم لها. وفي هذا الإطار، التزمت هذه الساسة بدعم حركات التحرر والقضايا الوطنية المشروعة، ورفض سياسة الاعتداء، ومجابهة السيطرة على الشعوب المغلوبة على أمرها(88). وبناء على هذا، يمكن القول إنه إذا كانت مصر قد تمسكت بالحياد الإيجابي، فإن أفغانستان كانت من أوائل الدول الآسيوية التي التزمت به؛ خاصة بعد أن عانت طويلا من الأطماع البريطانية والروسية وصراعهما للسيطرة على آسيا الوسطى عبر أراضيها.(89)

2ـ نبذ الأحلاف والتكتلات العسكرية: على الرغم من متاخمة أفغانستان لأكبر دولتين كانتا تنتميان لما كان يسمى بالمعسكر الشرقي هما الاتحاد السوفييتي والصين الشعبية، إلا أنها استطاعت أن تحتفظ بعلاقات ودية معهما، دون أن تكون متورطة معهما في أحلاف أو تكتلات عسكرية. وبنفس القدر، فإنها، وهي تتاخم إيران وباكستان أيضا، لم تشترك معهما في حلف بغداد الذي كانتا عضوتين فيه مع العراق وتركيا، كما لم تنضم إلى حلف جنوب شرق آسيا(90). لتؤكد كابل على أن سياستها قائمة على الحياد التام ونبذ الأحلاف والتكتلات العسكرية.(91) ومن ثم رفضت رفضا تاما الانضمام إلى حلف بغداد(92)، منذ أن كان فيها هذا الحلف مجرد مشروع إقليمي، وظهرت نواته الأولى بعقد تركيا وباكستان ميثاقاً دفاعياً ثنائياً، في أغسطس 1954م، ثم انضمت العراق إليه في فبراير 1955م، ثم بريطانيا في يوليو 1955م، ثم إيران في نوفمبر 1955م، وفي هذا الإطار، أعرب السردار محمد نعيم، وزير الخارجية الأفغانية، خلال حديثه مع السفير المصري لدى كابل، عن "استنكاره واستغرابه" من قيام هذا الحلف، وخاصة من العراق؛ نظراً لأنه كان يرى أن انضمام دولة عربية له مثل العراق يُعد خطوة "قد تؤدي إلى ضعف الجامعة العربية". مؤكدا على أن بلاده "لا تنظر بعين الارتياح إلى مشروع الاتفاق لما ينطوي عليه احتمال عقد اتفاق مماثل بين باكستان والعراق"، وذلك على نحو ما حدث فيما بعد.(93) كما أكد، في مناسبات عديدة على ثبات موقف بلاده الرافض لأي محاولة تدعوها للانضمام إلى حلف بغداد، وأنها "لن تحيد عن حيادها، ولن تنضم إلى الأحلاف والتكتلات العسكرية، وأنها ستستمر في إتباع سياستها الحيادية التي تعتقد أنها تخدم قضية السلام عن طريقها. وفوق ذلك فإن المسألة مسألة مبادئ تسمو فوق المساومات وليست مسألة تجارية تحتاج إلى أخذ وعطاء"(94) ثم شدد، أيضا على "أن أفغانستان ستظل دائما مصممة على إتباع سياسة الحياد. ويعزز موقفها ميثاق الحياد وعدم الاعتداء الذي عقدته أفغانستان مع روسيا في شهر ديسمبر 1955".(95) وفي هذا الإطار، ذكر السفير المصري في كتابه للقاهرة، أن جميع المراقبين السياسيين في كابل، يرون "أن أية محاولة لحمل أفغانستان على الانضمام إلى حلف بغداد لا يُنتظر لها النجاح؛ نظرا لتمسك حكومة السردار داود بسياسة الحياد التقليدية لأفغانستان ومعارضتها الانضمام للأحلاف".(96) خاصة بعد أن أبدى الملك محمد ظاهر شاه رضاه عن هذا التوجه لبلاده في خطابه السنوي، بمناسبة العيد الثامن والثلاثين للاستقلال يوم 14/8، حين قال: "إن مبدأ الحياد التقليدي الذي تبني عليه الحكومة سياستها الخارجية قد دعم علاقاتها الدولية"(97)

3ـ المشاركة في مؤتمر باندونج: انعقد مؤتمر باندونج(98) فيما بين يومي18 و24 أبريل من عام 1955م، بمشاركة تسع وعشرون دولة مستقلة من آسيا وأفريقيا، من بينها مصر وأفغانستان(99). وقد وضعت خلاله أسس نشأة منظمة تضامن الشعوب الأفرو آسيوية، التي عُقد مؤتمرها الأول بالقاهرة عام 1958م، وحركة عدم الانحياز، الذي عُقد مؤتمرها الأول في بلجراد، عام 1961م، والذي تأكد خلالهما مدى التلازم بين الحياد الإيجابي وعدم الانحياز في الواقع من حيث المبدأ والهدف. (100) وفي هذا السياق يمكن القول إنه إذا كانت مصر قد لعبت دورا قياديا بارزا في مؤتمر باندونج وتأسيس حركة عدم الانحياز، فإن أفغانستان قد قامت بدور إيجابي بنّاء خلال هذا المؤتمر، الذي أرسى كثيراً من القواعد التي كانت تؤمن بها أفغانستان من الأساس. إذ بذل السردار محمد نعيم نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية الأفغاني، إلى جوار زعماء حركة عدم الانحياز البارزين: ناصر، ونهرو، وتيتو، وسوكارنو، وتشواين لاي، جهودا جبارة لإنجاح هذا المؤتمر، بوصفه حدثا تاريخيا في تاريخ العلاقات الآسيوية الأفريقية (101)، وتجسيدا للتضامن الأفرو آسيوي.(102)

النشرة الإخبارية

اشترك في النشرة الإخبارية

ابق على اطلاع على النشرة الإلكترونية

معلوماتك فى امان معنا! إلغاء الاشتراك في أي وقت.