يومًا بعد يوم، يكتسب المشروع الفارسي الإيراني في المنطقة العربية، الطابع الإمبريالي التوسعي، وذلك من خلال الدفع نحو الهيمنة على مزيد من البيئات العربية، وصولًا إلى تحقيق حالة التبعية المطلقة لحكم المرشد في طهران.
ومن الملفت للنظر، أن عملية الاستهداف ضمن المشروع الفارسي الإيراني موجّهة دائمًا تجاه بيئات عربية بعينها، ترى فيها إيران مجال نفوذها الاستراتيجي الإمبريالي، أو ما تعتبره "فراغًا استراتيجيًا"، بالتوافق مع المتغيرات القائمة في بيئة النظام الدولي، وبما يسمح لها بالمناورة والمساومة والتعاون.
وشكلت تونس بعد ثورتها بيئة رخوة، سياسيًا وأمنيًا، قابلة للاختراق نتيجة هشاشة البنى ما بعد الثورية وعدم اكتمال تشييدها، في مرحلة انتقالية تعجّ بكثير من الاضطرابات والإشكالات الناجمة عن الثورة وعن النظام السابق. وهو حال كافة الدول الثورية، لكنها ذات حدة أقل في تونس منها في نظيراتها الثوريات، نتيجة طبيعة البنية الفكرية الأكثر انفتاحًا لدى المجتمع التونسي، ما سهّل توسيع إطار الحريات المقامة بعد الثورة، بل وسهّل استغلالها.
ولذلك، عملت إيران على توظيف هذا المتغير، عبر إدراج طرح تاريخي من خلال كتّاب إيرانيين وتونسيين، عن التاريخ المترابط والمتزامن بين الدولتين، بربط الدولة الفاطمية "ذات القيادة الشيعية"، بإيران، في محاولة خلط ثقافي-تاريخي، باعتبار أن المذهب الشيعي مذهب فارسي. فيما كانت "فارس" ساعتها إحدى ولايات الإمبراطوريات العربية، ذات الهوية السنية السائدة.
هذا الخلط دفع فئات من المجتمع التونسي إلى ربط عاطفي بين تاريخ "الدولة الفاطمية" الوجيز في بلادهم، مع دولة إيران حديثة التشكّل، وأسهم في ذلك ترويج عدد من الكتّاب لكتابات مضطربة حول دور فارس في بناء تونس وفي تشكيل الهوية التونسية، بل وتجاوز ذلك إلى اعتبار المنجز الحضاري العربي في تونس، مجرد تفصيل أثراه الفرس وحدهم!
وعمل نظام الملالي منذ يناير/كانون الثاني 2011، إثر الإطاحة بنظام الرئيس السابق زين العابدين بن علي، إلى استغلال حالة الفراغ السياسي والأمني، بهدف التغلغل في المجتمع التونسي، من خلال بعض الأحزاب والجمعيات والنخب الثقافية والأكاديمية بواسطة المال والاستضافات والمنح الدراسية والترويج الإعلامي، وغير ذلك.
من جهة ثانية، تقاطع الفكر "الإخواني" في تونس، ممثلًا في زعيم "حركة النهضة" راشد الغنوشي، تقاطعًا كبيرًا مع المصالح الإيرانية الإمبريالية في البلاد، حيث تستند طهران إلى آليات توظيف الدين في خدمة المصالح السياسية، ما أدى إلى رعاية إيرانية لاحقة لتكتلات "الإخوان" في كثير من الدول العربية، وعلى رأسها تونس.
وتؤكد مقولات الغنوشي، بما لا يدع مجالًا للشك في تماهى الرجل مع أدبيات المشروع الإمبريالي الشيعي تمامًا، أن تطوّر المسار الفكري لحركة (النهضة) تأثر بما يسمى "الثورة الإسلامية في إيران"، والقيم التي بشرت بها، وخاصة مبادئ "الانتصار للمستضعفين ومواجهة الظلم والاستكبار".
ولم يعارض الغنوشي أيّ اتّفاق مع إيران، سواء كان ثقافيًّا أو علميًّا أو اقتصاديًّا أو سياحيًّا، هذا فضلًا أن يُغلق مراكز إيران في تونس أو يجمّد نشاط توابعها من نشطاء الشّيعة بتونس لمّا حكم تونس بعد ما يُسمّى ثورة، بل شارك في مؤتمراتها أو غيرها في إيران أو في سفارتها في تونس في كلّ مناسبة كحضوره بمناسبة الاحتفال بالذكرى 37 للثورة الإيرانية الطائفية، كما حرص أيضًا على توجيه الدّعوة لسفيرها لحضور مناسبات "حركة النهضة"، سواء كانت سياسيّة أو دينيّة.
وهاتان الدراستان، "تمدد الإمبريالية الإيرانية إلى تونس: الإسنادات والأدوات وما بعد الترسيخ"، للدكتور عبد القادر نعناع، و"الإخوان وإدخال التشيع إلى تونس.. راشد الغنّوشي نموذجًا"، للدكتور خميس بن علي الماجري، ترصدان كيفية اختراق إيران للمجتمع التونسي، وكيف حركت طهران متشيعيها في تونس، مستفيدين من أجواء الحرية غير المحدودة، فكشفوا عن نواياهم، وبدأت أنشطتهم تخرج إلى العلن، فكانت المسارح والشوارع ميدانًا لاحتفالاتهم وطقوسهم، بل بلغ الأمر بهم حد اقتحام الميدان السياسي عبر قائمة سياسية تعرف باسم "قائمة أمل تونس الحديثة".
وتكشف الدراستان، التدابير الإيرانية التي أدت إلى وقوع تونس خلال الأعوام الأخيرة، بين مطرقة المشروع الإيراني وسندان التشيّع، الأمر الذي لاقى معارضة شعبية كبيرة في أوساط التونسيين، حيث تسبب المد الشيعي الإيراني المتنامي في تونس في ردود فعل شعبية غاضبة، وارتفعت المطالب من كل اتجاهات الطيف التونسي الديني والشعبي والثقافي والاجتماعي، بضرورة التصدي للغزو الإيراني للبلاد، وحماية تونس من مخاطر المشروع الإمبريالي الإيراني المتنامي.
ابق على اطلاع على النشرة الإلكترونية