مقدمة:
{ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين}.(سورة البقرة آية 251)
{وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}.(سورة الحج آية 40)
إن قـراءة التـاريخ، تؤكـد أن انبثـاق أي نظـام دولـي جديـد ، يـرتبط فـي الغالـب، بحوادث مفصلية، تحمل في رحمهـا، ملامحـه، والقـوى الصـاعدة فيـه، وتهـيء للانتقـال بشـكل حاسـم مـن وضـع ، يتمثـل فـي سـقوط إمبراطوريـات وصـعود أخـرى. وهي مشاهد اعتاد النظام الدولي على التعامل معها في الانتقالات الحادة في مجرى التاريخ الإنساني. وقد تمثل الأزمة الأوكرانية أحد هذه الحوادث.
دخلت الأزمة الأوكرانية منحىً تصاعدياً باجتياح القوات الروسية أراضي أوكرانيا في 24 شباط/فبراير الماضي, وبالرغم من عدم البت في طلب أوكرانيا للانضمام إلى حلف شمال الأطلسي(الناتو), شكلت أراضيها مسرحاً للصراع الدائر بين موسكو وعواصم الناتو, في ضوء استراتيجية الناتو للتوسع شرقاً, مما أثار حفيظة موسكو, التي تسعى لإيقاف هذا التمدد, والعمل على تغيير الواقع الأمني والجيوسياسي للفضاء الأوربي, مع مساعيها للعودة مجدداً لعالم ثنائي/ متعدد الأقطاب, تشاركها الصين في ذلك. لذا تقع الأزمة الأوكرانية وسط صراع جيوسياسي واسع النطاق يهدف للسيطرة على مواطن القوة والنفوذ والمجالات الحيوية، مع تنافس تجاري دولي مُحتدم على النفط والغاز وأنماط وخطوط التجارة الدولية بين أقطاب الاستراتيجية الدولية. ويأتي الصراع الحالي في أوكرانيا ضمن التحولات التي تمارسها القوى الدولية المؤثرة في مواجهة القوى الداعية للتحول في النظام الدولي القائم.
التوازن الدولي.. النشأة والسقوط
أقرت معاهدة وستفاليا عام 1648مبدأ التوازن الدولي ضمن نسق دولي محكوم بقواعد سلوك موّجِهة لأقطاب النسق الدولي ومؤثرة في تفاعلاتهم, وهو ما عبّر عنه الفقيه الدستوري, الدكتور محمد طه بدوي بالقول: "إن أي لاعب رئيسي من الستة الكبار(بريطانية-فرنسا-روسيا-النمسا-بروسيا-اسبانيا) حاول التفوق على ما عداه من اللاعبين الرئيسيين هو -بهذه المحاولة ذاتها- عدواً لهم, وخطر يهدد ميزان القوة, وهو بمحاولته هذه يستدعي رد فعل آلي من جانب قوى طبقته أو فريق منهم متحالفين, فلا بد من مواجهة القوة بالقوة, وإلا تحققت إرادة اللاعب المتطلع إلى الإمبراطورية العالمية"(1). وفي تطبيق عملي لما أورده الدكتور بدوي, أعاد مؤتمر فيينا عام 1815, الفاعلية لمبدأ التوازن, بواسطة أقطاب النسق الدولي المتحالفة لمواجهة الحروب النابليونية, التي هزت أركان المبدأ.
تعرض المبدأ لهزة أقوى بالاجتياح النمساوي لصربيا عام 1914, وتجاهل المصالح الروسية فيها, مما سبّب حرب كونية انتهت بزوال دول وظهور أخرى, حديثة أو متولدة عن إمبراطوريات انفرط عِقدها, ومع ذلك بقي المبدأً حاكماً للعلاقات الدولية, ومحافظاً على تجانسه من ناحية الأفكار والقيم الحاكمة, أو لناحية المنشأ والجغرافية السياسية لأقطاب النسق الدولي.
وفي مؤتمر فرساي عام 1919, توّلدت آلية جديدة للتعاون الدولي تحت مسمى عصبة الأمم, تتولى مهمة تأمين الاستقرار ومنع الحرب, من خلال الحد من التسلح باعتباره بوابة للحروب, , إلا أن الفشل الداخلي للرئيس الأمريكي توماس وودرو ويلسون في الانضمام للعصبة, نتيجة رفض الكونغرس الأمريكي الموافقة على الانضمام إليها, حوّل عصبة الأمم إلى منصة لتقاسم النفوذ بين الدول الاستعمارية. إذ فشلت العصبة في لجم الطموحات اليابانية في الصين وجنوب أسيا, كما انقلبت على القرارات التي اتخذتها في مواجهة الغزو الإيطالي للحبشة, بفعل جوائز الترضية الإيطالية المتبادلة مع القوى الأخرى. بالإضافة لعجزها عن احتواء الحروب.
بالإضافة لفشل المهمة التي تصّدرت لها عصبة الأمم, حمل المؤتمر في تربته بذور الحرب العالمية الثانية, نتيجة القيود والأثقال التي فُرضت على ألمانية, مع تجاهل المصالح الروسية والإيطالية, إذ لم تتجاوز مكاسب الأخيرة أكثر من وحدتها, فيما خرجت روسيا, التي أخرجتها الثورة البلشفية من الحرب, خالية الوفاض. الأمر الذي سهّل تحالف بين برلين وروما, وتحالف أولي, غداة الاجتياح الألماني لبولندا, بين برلين وموسكو.
انتهت الحرب العالمية الثانية على واقع دولي جديد, مع بروز قوتين عالميتين شكلتا ثنائية قطبية حاكمة للنظام الدولي مع تراجع القوى الاستعمارية القديمة عن مكانتها في النظام الدولي. تميزت الثنائية القطبية بميزات مختلفة عما سبقتها, بخروج الدولتان القطبيتان عن حدود القارة الأوربية, إضافة للعامل الآيدولوجي ومنظومة القيم والأفكار التي شكّلت حاملاً مهماً لكلا القطبين وللدول الدائرة في فلكهما, انقسم العالم بمقتضاها إلى منظومتين متعارضتين في القيم والأفكار وما يتبعهما من النظم الاقتصادية والسياسة والاجتماعية, مما ولّد القناعة لديهما باستحالة التعاون والتنسيق بينهما. ومع بروز سلاح جديد ذو قدرة تدميرية هائلة, امتلكه كلا القطبيين وبعض الدول الدائرة في فلكيهما, تولّدت الهواجس من حرب لا تُبقي ولا تذر على وقع أي أزمة دولية يكون طرفيها القطبين الدوليين, ما أسهم بظهور مفهوم الحرب الباردة, كمنهج تحكم قواعده صراع القطبيين على السيطرة والنفوذ في الساحة العالمية, وتمنع أي احتكاك أو صدام بينهما قد يؤدي لمواجهة عسكرية تستخدم فيها الأسلحة النووية.
مع وصول ميخائيل غورباتشوف إلى زعامة الحزب الشيوعي السوفيتي, دخلت الحرب الباردة مرحلة الاحتضار , لما عُرف عنه من أفكار تضمّنها كتابه "البروستريكا", وطروحاته القائمة على "توازن المصالح" بدلاً من "توازن القوى", ولوضع هذا الأفكار موضع التنفيذ, تم إلغاء "مبدأ "بريجينيف "(حق الدولة السوفياتية في التدخل بدول حلف وارسو), الذي أٌقر رداً على ربيع براغ, ومع زوال " هذا المبدأ زالت العديد من أنظمة الحكم الاشتراكي من دول أوربا الشرقية بفعل الثورات الشعبية المناهضة لهذه الأنظمة, وطالت هذه الثورات دولة المركز, مما أدى لانفرط عِقد اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية(الاتحاد السوفيتي), وبهذا الحدث الذي وصفه الرئيس الروسي, فلاديمير بوتين بأنه "الكارثة الجيوسياسية العظمى للقرن العشرين", أنتهى زمن الثنائية/التعددية القطبية.
الأحادية القطبية.. نظام عالمي أم مرحلة انتقالية؟
في مقابل كتابات فوكوياما (نهاية التاريخ) وصامويل هنتنجتون (صراع الحضارات), حول تأكيد الهيمنة الأمريكية والأحادية القطبية, يرى البعض أن ما بعد سقوط الاتحاد السوفيتي هي مرحلة انتقالية, قد تطول أو تقصر, دون أن تشكل بذتها أحد مراحل النظام الدولي, يتم خلالها بروز قوة/قوى تُعيد ثنائية/ تعدد القطبية الدولية, في ظل صعود بعض الوحدات السياسية إلى الساحة الدولية كقوة فاعلة ومؤثرة, أو إعادة تموضع بعض الدول على الخارطة الدولية, أو من خلال اتساع الفجوة طرفي التحالف عبر الأطلسي (الأوربي الأمريكي) وصولاً لمرحلة التمايز والافتراق بين الطرفين, أو من خلال امتزاج اثنين أو أكثر من العوامل الثلاثة, وهو ما قد تحمله الأزمة الأوكرانية في طياتها.
الحدث الأوكراني
"إذا سيطرت روسيا على أوكرانيا فيمكن لها أن تعيد بناء إمبراطوريتها من جديد".
"دون أوكرانيا لن تكون روسيا دولة عظمى"
زبيغينيو بريجنسكي, مستشار الأمن القومي الأميركي في إدارة الرئيس جيمي كارتر 1977- 1981
تُعد المواجهة الروسية-الغربية في أوكرانيا فصل من فصول مواجهة ممتدة لعام 1991، مع انهيار الاتحاد السوفيتي, وتحول معظم الجمهوريات المستقلة عنه, أو التي كانت تنتمي إلى الكتلة الشرقية إلى المعسكر الغربي، سواء بالانضمام إلى حلف "الناتو"، أو الاتحاد الأوروبي. وخلال الفترة من 1999 إلى 2020 انضمت 14 دولة من الجمهوريات السوفيتية والكتلة الشرقية إلى حلف الناتو (أستونيا-لاتفيا-ليتوانيا-بولندا-جمهوريةالتشكيك-سلوفاكيا-المجر-رومانيا-سلوفينيا-كرواتيا-الجبل الأسود-ألبانيا-مقدونيا الشمالية-بلغاريا). ومع وصول الرئيس، فلاديمير بوتين، إلى السلطة، عام 1999، سعى لفرض هيمنته الكاملة على كل مقدرات الدولة السوفيتية، السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية، وخلال ولايتيْه: الأولى والثانية، انفجرت "الثورات ملونة" في عدد من الجمهوريات السوفيتية السابقة، وأعقبتها انتخابات أفرزت نخبة سياسية أقرب إلى الفكر الليبرالي الغربي. ما اعتبره بوتين "مؤامرة أميركية" للنفاذ إلى مناطق النفوذ الروسي، وتعامل معها باعتبارها تهديدًا خطيرًا ليس للدولة الروسية وحسب, بل لنظامه ولشخصه أيضاً، حيث أسَّس بوتين شرعيته عبر قدرته على فرض النظام داخليًّا، ومحاولة إعادة الفاعلية للدور الروسي, كقوة عالمية مؤثرة. وعليه, بدأ بإثارة الاضطرابات الداخلية في أوكرانيا، عام 2004 ، ودخل في حرب ضد جورجيا، عام 2008 ،ودعم انفصال إقليمي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية عن أراضيها.
" في المقابل ناقش قادة الناتو هذه التغيرات، ووضعوا تصورات لمواجهتها عبر تشكيل قوة تدخل سريع، وصفها أمين عام حلف الناتو السابق، أندرس فوغ راسموسن، برأس الحربة، تكون جاهزة للتحرك، ، لنجدة أية دولة من دول الحلف وفق مقتضى المادة الخامسة من معاهدة الدفاع المشترك للحلف من دول الحلف، وإقامة قواعد شبه ثابتة في دول شرق أوروبا (خمس قواعد عسكرية في لاتفيا وليتوانيا وإستونيا ورومانيا وبولندا) ونشر نحو 4000 عسكري فيها، إضافة إلى إنشاء صندوق لدعم أوكرانيا عسكرياً ورفع كفاءة جيشها، ومواصلة الضغط الاقتصادي على روسيا وفرض عقوبات اقتصادية جديدة.
نظر الكرملين لقوة التدخل السريع, ومحاولات الناتو محاصرة روسيا وتطويقها بقواعد عسكرية لتغيير الوضع الجيوسياسي حولها، ومواصلة واشنطن العمل على نشر الدرع الصاروخية في دول شرق أوروبا، بأنها تهديد للأمن القومي الروسي, ردت موسكو عليها بتعديل عقيدتها العسكرية, وإعادة تأكيد رفضها توسع الحلف في اتجاه حدودها، مع زيادة وجوده العسكري في أوروبا الشرقية، ورفض نشر الدرع الصاروخية، بالإضافة لحق روسيا في استخدام درعها النووية، والتلويح بالانسحاب من معاهدة عام 1987 حول الصواريخ النووية المتوسطة، ورفض انضمام أوكرانيا إلى الحلف، واعتماد سياسة إحلال الواردات في المجالين العسكري والمدني، ما يعني زيادة النفقات العسكرية بأكثر مما هو مخطط له، لموازنة النفقات العسكرية لحلف الناتو والولايات المتحدة الأميركية".(2)
وطالب بوتين في "الوثيقة الأمنية", المقدمة مؤخراً لدول الناتو, توقيع اتفاقيتين منفصلتين بين موسكو وواشنطن والناتو لوضع نظام ضمانات أمنية من أجل خفض التوترات الأمنية في أوروبا، وتخلي الحلف عن أي نشاط عسكري في جورجيا وأوكرانيا، وعدم انضمامهما للحلف، ووقف نشر أنظمة أسلحة هجومية في الدول المحاذية لروسيا، لكن واشنطن رفضت ذلك. فكان قرار اللجوء للعمل العسكري.
-إعادة التموضع الروسي.
"إن أفكار لينين أدت إلى انهيار الاتحاد السوفيتي, وفعلياً زرع هو ورفاقه قنبلة ذرية تحت مبنى يسمى روسيا, ثم فجّرت فيما بعد بسبب هذه الأفكار, ومنها حق تقرير المصير".
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
مع انهيار الاتحاد السوفيتي وانفراط عِقد دوله, تراجعت أهمية الاتحاد الروسي (الدولة الوارثة للاتحاد السوفيتي) على الصعيد الدولي, كما تم محاصرته بأدوات سياسية وعسكرية, من خلال الثورات الملونة في الجمهوريـات السـوفيتية السـابقة و أوربا الشرقية وضم بعضها وإدراج البعض الآخر ضمن فئة الدول الطامحة للانضمام لحلف شمالي الأطلسي, بالإضافة لنصب منصات صواريخ استراتيجية أطلسية بالقرب من الحدود الروسية في تجاهل غربي لهواجس موسكو الأمنية, لا سيما مع رفض طلبها للانضمام لحلف شمال الأطلسي, وإسقاط النقاشات المتعلقة بهواجسها الأمنية من مؤتمرات الأمن الجماعي في القارة الأوربية.
ورغم معارضة مهندس الحرب الباردة وصاحب نظرية الاحتواء, جورج كينان, فكرة توسّع الناتو نحو الشرق, وبالرغم من تأسيس مجلس روسياـ الناتو عام 2002، بعد التوقيع على "إعلان روما" واصل الحلف ضم المزيد من دول شرق أوروبا. حتى أن كينان أخبر زميله توماس فريدمان بأن التوسع باتجاه الشرق سيكون "خطأً مأساوياً" لأن العدو في زمن الحرب الباردة لم يكن روسيا، بل الحزب الشيوعي السوفياتي. ولم يكن من الضروري حسب كينان توسيع حلف الناتو، لأن ذلك سوف يجبر روسيا على العودة للعب دورها باعتبارها الطرف المعادي للغرب، وقد تسعى لإشعال حرب باردة جديدة. و"ليست لدينا نية للذهاب إلى الحرب بسبب تلك البلدان النائية". (2)
ومع مخرجات قمة الناتو التي عُقدت في العاصمة الرومانية، بوخارست، عام 2008 ، تصاعدت مخاوف موسكو بإعلان الرئيس الأمريكي، جورج بوش الابن، أن أبواب الناتو ستكون مفتوحة لأوكرانيا وجورجيا، حينها رد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأن أوكرانيا خط أحمر، وفي حال انضمت إلى الناتو "فإن وجود الدولة ذاته قد يكون موضع شك" فمن وجهة النظر الروسية، يعتبر هذا الإعلان بمثابة إعلان لحرب ممتدة بين روسيا والغرب. بدأت روسيا على إثره سلسلة من المواجهات العسكرية لمنع هاتين الجمهوريتين من الانضمام للحلف، وكانت البداية بالحرب الروسية-الجورجية، عام 2008 ، وضم إقليمي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية إلى روسيا، ثم الحرب الروسية-الأوكرانية، عام 2014 ، وإعلان موسكو ضم شبه جزيرة القرم, بالإضافة للتدخل العسكري في سوريا, بغية توسيع رقعت المواجهة وتشعيبها.
كما تبنَّى بوتين ما اسماها "استراتيجية استرداد النفوذ والمكانة"، التي تقوم على شنِّ حرب هجينة شاملة على كل الجبهات، والتي تقوم على:
أ- حرب سيبرانية هجومية واسعة النطاق، حيث كوَّنت روسيا جيشاً وكتائب إلكترونية لبثِّ رسائل ومضامين تتفق والتوجهات الروسية عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وشنِّ حملات إلكترونية سرية وكثيفة ضد بعض الدول الغربية.
ب- التدخلات العسكرية الروسية المباشرة وغير المباشرة، في جورجيا وأوكرانيا 2014 ، وفي سوريا، سواء باستخدام القوات العسكرية الروسية أو عناصر من الشيشان، أو عناصر شركة "فاغنر" الروسية.
ج- تعزيز تحالفاتها الثنائية أو الجماعية، سواء من خلال تفعيل معاهدة الأمن الجماعي؛ حيث تدخلت القوات الروسية لقمع الاحتجاجات الشعبية ضد رئيس كازاخستان، قاسم جومرت توكاييف، في يناير/كانون الثاني 2022 ،أو عقد تفاهمات استراتيجية مع قوى الكبرى تشاركها الخصام للولايات المتحدة، مثل الصين عبر منظمة شنغهاي للتعاون. وتقوية المصالح المتبادلة مع حلفاء واشنطن في التحالف الغربي، مثل ألمانيا وفرنسا، وتبادل التكنولوجيا العسكرية والتفاهمات الميدانية مع إسرائيل في سوريا، وتقاسم النفوذ مع تركيا في عدد من ملفات الجوار المشترك، بالإضافة لمساندة إيران في ملفاتها الإقليمية والنووية، وتوسيع رقعة استراتيجيتها في إفريقيا، واتباع دبلوماسية التسليح مع مصر وبعض دول الخليج العربي.
د- التطوير المتسارع للتكنولوجيات التسليحية والرقمية، من خلال العمل دمج التقنيات الجديدة لمضاعفة القوة في أنظمتها القديمة للتسلح، والإعلان عن مجموعة برامج لأسلحة ذات قدرة نووية رئيسية قادرة على اختراق أنظمة الدفاع الصاروخي الأميركية، بالإضافة لتطوير مجموعة من الأنظمة التي يمكنها مهاجمة الأقمار الصناعية أو تعطيل عملياتها. ويشمل التطوير أيضًا تعزيز القدرات الروسية في مجالات تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، وتعطيل وتدمير أنظمة القيادة والتحكُّم الخاصة بالخصم وقدرات الاتصال، وتبنِّي استراتيجية تعدين ضخمة لعملة البيتكوين في كازاخستان، للحدِّ من سيطرة الدولار الأميركي على الاقتصاد العالمي).(3(
-الصعود الصيني
"أخفِ قوّتك وانتظر الوقت المناسب". الزعيم الصيني دينغ شياو بينغ
صاغ القادة الصينيون أهدافهم كالآتي:
-إبقاء الحزب الشيوعي الصيني في السلطة.
-إعادة ضم تايوان.
-السيطرة على شرق الصين وبحر الصين الجنوبي.
-إرجاع الصين إلى المكانة التي تليق بها كقوة مهيمنة في آسيا وأقوى دولة في العالم.(4)
وخلال نصف قرن تقريباً، أتبعت الصين سياسة هادئة وسلمية, لكن الأعوام الأخيرة، بدلت دبلوماسية الصداقة الصينية بدبلوماسية "الذئب المحارب", حيث توسعت الصين على جبهات متعددة في منطقة شرق آسيا البحرية، وتحركت الصين بعنف لتعزيز مطالبها الإقليمية. كما أنتجت السفن الحربية بشكل أسرع من أي بلد منذ الحرب العالمية الثانية، وتعالت الدعوات لغزو تايوان داخل الحزب الشيوعي الصيني. وازدحمت الممرات البحرية الآسيوية بخفر السواحل الصيني. بالإضافة لتعزيز المواقع العسكرية في بحر الصين الجنوبي، واستخدام السفن المجهزة للاصطدام والاعتراضات الجوية لإخراج الجيران من مناطق متنازع عليها.
فالصين تدرك كما موسكو, ومن قبلهما الولايات المتحدة عام 1823, ما بات يعرف باسم "عقيدة مونرو"(أسّست لهيمنة الولايات المتحدة على الأمريكيتين كخطوة ضرورية للانتقال إلى الهيمنة الدولية)، أن أي دولة لن ترتقي إلى مرتبة القوى العظمى المهيمنة ما لم تخضع مجالها الحيوي إلى نفوذها الحصري الذي لا يقبل القسمة مع قوى أخرى. ويطلق الاستراتيجيون العسكريون الصينيون على بحري الصين الجنوبي والشرقي "الكاريبي الصيني"، في إشارة إلى أن هذه المنطقة يجب أن تكون خالصة للصين دون أي قوى خارجية. وعليه, فإن الصراع الأمريكي الصيني في حوض الباسيفيك يرتبط بمنع الصين من الهيمنة على هذه المنطقة كي لا تتحول لقوة هيمنة دولية. كما أنها لا تريد أن تسمح لبوتين بفرض هيمنته على مجاله الحيوي المباشر كي تظل روسيا -بغض النظر عن ترسانتها النووية- دولة عاديةً في شرق أوروبا على حد تعبير "زبيغنيو بريجنسكي"
تستثمر بكين في نظام دولي مستقر, لذا فإنها حريصة على علاقات متوازنة مع الغرب، مع مساعيها للحفاظ على شراكة استراتيجية مع روسيا، إلا أن الحرب الأوكرانية جعلت الحفاظ على هذا التوازن مهمة صعوبة. ومع إعلان "صداقة بلا حدود" بين موسكو وبكين خلال القمة التي جمعت الرئيس الصيني شين جين بينغ والروسي فلاديمير بوتين في فبراير (شباط) الماضي، إلا أن الرد الصيني على الهجوم الروسي على أوكرانيا كشف عن قيود هذه الشراكة, القائمة على مصالح مشتركة بعيداً عن القيم المشتركة, لذا فهي غير مدفوعة بالعداء الأيديولوجي تجاه الولايات المتحدة والغرب. ورغم معارضتهم المشتركة لقواعد النظام الدولي, التي تتمحور حول القيادة العالمية للولايات المتحدة والقيم الليبرالية الغربية, تتباين الرؤى بين بكين وموسكو حول هذا النظام، فالصين تستثمر فيه، وتسعى لتحقيق طموحها في القطبية الدولية من خلال العمل داخل هذا النظام, بينما تسعى موسكو بالطرق الثورية لهدم النظام الدولي. وعليه, اتخذ الرئيس الصيني مسار محايد يحافظ على الشراكة مع روسيا، وفي ذات الوقت حماية المصالح العالمية لبكين. لكن مع مرور الوقت قد تتآكل قوة وأهمية هذه الشراكة بالنظر إلى مسارات التنمية المختلفة لكل من الصين وروسيا، مما يخّفض القواسم المشتركة بينهما.
وحتى الآن, فشلت المحاولات الغربية في إقناع الصين بالتخلي عن الحياد. حيث تعتقد بكين أن جذور خلافاتها مع الغرب لن تزول بوقوفها إلى جانب أوكرانيا. وتخشى الصين من انهيار محتمل لنظام بوتين تحت وطأة العقوبات الاقتصادية على اعتبار أن وجود روسيا معادية للغرب مكسب صيني، وأن نظاماً غربي الهوى في موسكو، سيكون بمثابة كابوس استراتيجي لبكين. لذلك تحتاج بكين لتبادل الخدمات مع موسكو، التي هي حالياً في مواجهة دائمة مع الغرب، كظهير اقتصادي داعم وشريك في التصدي للهيمنة الأمريكية. والتحدي الغربي يشكل سبباً كافياً لاحتمال تنامى نشوء تحالف بين القوتين ينتج عنه تحالف أوسع, وقد يمنح الإصرار الروسي في أوكرانيا جراءة أكبر لبكين للمواجهة في تايوان. كما سيؤثر على الموقف الصيني تجاه موسكو، والمدى الذي يمكن أن يذهب به الطرفان للتنسيق، وربما التحالف في مواجهة الغرب، واستثمار اللحظة الراهنة في وضع أسس لنظام دولي جديد تكون لهما فيه مساهمة أكبر في إدارة المشهد الدولي. ورغم عدم ترجيح إنقاذ بكين لموسكو، أو حتى مساعدتها بشكل فاعل على تحديث الاقتصاد الروسي, إلا أن الصين ستفعل ما في وسعها من أجل صمود نظام روسي صديق في الكرملين، مع ترجيح كفة المصالح القومية الصينية، من خلال شراء الموارد الطبيعية الروسية بأثمان بخسة وتوسيع سوق التكنولوجيا الصينية وتعزيز المعايير التكنولوجية الصينية. ومع تزايد نفوذها، ستعمل بكين على الوصول إلى الأسلحة الروسية الأكثر تطوراً وإلى تصاميمها، والوصول التفضيلي إلى القطب الشمالي الروسي، واستيعاب المصالح الأمنية الصينية في آسيا الوسطى, ودعم روسيا, بوصفها عضواً دائماً في مجلس الأمن, لمواقف الصين في القضايا الإقليمية والعالمية، لا سيما في النزاع مع الجيران على الأراضي. (5)
-التباين الأوربي الأمريكي
"روسيا مازالت كبيرة لذا فهي خطيرة"
وزير الخارجية الأميركية الأسبق، هنري كيسنجر.
يعود التباين الأوربي الأمريكي إلى خمسينيات القرن الماضي مع خروج فرنسا من القيادة العسكرية لحلف الناتو, وسياسة المستشار الألمانية الغربي "فيلي برانت", بالتوجه شرقاً بهدف كسب موافقة موسكو على وحدة الألمانيتين. وصل التباين ذروته نهاية السبعينيات, خلال أزمة الصواريخ الاستراتيجية الأمريكية, وما رافقها من رفض شعبي وتراجع حكومي أوربي عن موافقات ممنوحة لنشر هذه الصواريخ الأمريكية على الأراضي الأوربية, بالإضافة لأزمة اقتصادية, ناجمة عن تضرر الشركات الأوربية من العقوبات الاقتصادية المفرضة من قبل الولايات المتحدة على المشروع الروسي لإمداد غاز سيبيريا, والتي انتهت بتراجع واشنطن وإلغاء العقوبات حينها.
زاد التباين حدّةً مع إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب, نتيجة دعمه لخروج بريطانيا من الاتحاد, وابتزازه للحلفاء الأوربيين وتسفيه دور الناتو, للحد الذي وصفه الرئيس الفرنسي السابق, نيكولاي ساركوزي بأنه في حالة "موتٍ سريري". عمّق الانسحاب الأمريكي المتسارع من أفغانستان, وغياب أي تنسيق مع الشركاء الأوربيين هذا التباين, كما شكل تحالف "أوكوس" بين الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانية وأستراليا "طعنة في الظهر" للجمهورية الفرنسية, على حد تعبير خارجيتها. بالإضافة لاعتراضات ألمانية على العقبات الأمريكية, المتعلقة بمشروع "نورد ستريم 2", الخاص بإمداد الغاز من الأراضي الروسية إلى ألمانيا عبر البلطيق. إلا أن الحرب في أوكرانيا وحّدت الناتو وأوربا, بعد أن كانت الانقسامات تهدد تماسكهما، كما أكّدت القيادة الأمريكية للمنظومة الغربية, بحيث لم تعد محل شك. فألقت رئيسة المفوضية الأوروبية “أورسولا فون دير لاين”، خطاباً أمام البرلمان الأوروبي، أكدت فيه أن "مصير الاتحاد أصبح على المحك في الحرب الأوكرانية، وأن طريقة التعامل مع الأزمة ستحدد مستقبل النظام العالمي".
وعلى صعيد الناتو, شكلت الحرب في أوكرانيا محور قمته المنعقدة في العاصمة الاسبانية مدريد في يونيو (حزيران)، فاعتبر الأمين العام للحلف, ينس ستولتنبرغ أن روسيا تمثل "تهديداً مباشراً" لأمن دول الناتو, وأن "الحلف "أخطر أزمة أمنية منذ الحرب العالمية الثانية", وعليه فإن الناتو "سيحدث تحولاً في قوة ردعه" البالغة 40 ألف جندي ويزيد عدد قواته ذات الجاهزية العالية "إلى ما فوق" 300 ألف جندي. وكانت القمة فرصة لمباشرة عملية انضمام فنلندا والسويد اللتين قررتا الدخول إلى الناتو رداً على الهجوم الذي باشرته روسيا على أوكرانيا وخرجتا بذلك عن حيادهما التقليدي. وأن الصين تشكل "تحدياً لمصلحة" دول الـ "ناتو" وأمنها في خريطة الطريق الاستراتيجية الجديدة التي اعتمدها خلال قمة مدريد. وأن طموحات الصين المعلنة وسياساتها القسرية تتحديان مصالحنا وأمننا وقيمنا، مديناً الشراكة الاستراتيجية بين بكين وموسكو ضد النظام الدولي.( (6
ويبقى اللافت في التطورات الأوربية, إعلان ألمانيا عن زيادة إنفاقها العسكري, وعن صندوق خاص لتطوير قدرات جيشها بقيمة 100 مليار يورو, مع توجيه أكثر من 2% من ناتجها الإجمالي للجانب الدفاعي كل عام, حيث علّقت "أنغريت كرامب-كارينباور" وزيرة الدفاع السابقة، بالقول: "أنا غاضبة جداً من أنفسنا لفشلنا التاريخي. بعد جورجيا وشبه جزيرة القرم ودونباس، لم نُعِدّ أي شيء من شأنه أن يردع بوتين حقاً".
تداخل العوامل الثلاثة في الأزمة الأوكرانية.
"إذا لم نستطع أن نهزم العالم فإن علينا أن نجذبه معنا إلى الهاوية, إننا لن نستسلم هذه المرة, إن أحداً لن يكون بمقدوره أن يقول إنه هزم ألمانيا, وليعلم الجميع أن ما حدث عام 1918 لن يتكرر"
أدولف هتلر زعيم ألمانيا النازية
يُظهر الصراع الدولي على أوكرانيا حِدَّة الصراع بين القوى المُهيمنة، مُمثلةً في الولايات المتحدة وروسيا, التي تُعد أهم القوى التي ترغب في إنهاء الهيمنة الأمريكية والتحول إلى نظام متعدد الأقطاب وبجانبها الصين، وعليه, يرى البعض أن هذه الأزمة قد تُشكل مفترقاً في توازن القوى الدولية القائمة، بما تتضمنه من إمكانية اندلاع صراعٍ مفتوح قد يكون بمثابة حرب عالمية ثالثة, وبما تحمله من إمكانية تطاير شررها على ساحات إقليمية خارج الشرق الأوربي إلى الشرق الأوسط والخليج العربي وإيران، على اعتبار أن ميزان القوى الدولية وتحولات النظام العالمي تشكل دوافع لما يُحاك من خطط إستراتيجية، سواءً من قِبل واشنطن في سبيل التصدي "للتجاوز الروسي"، أو من قِبل موسكو لرغبتها في إعادة تشكيل النظام الدولي القائم، وفرض هيمنتها على ما تعتبره فضاءها الحيوي/السوفيتي، وبين النقيضين قوى أخرى تتابع ما ستؤول إليه الأزمة الأوكرانية، لتعيد ترتيب سياستها الخارجية على أساس نتائجها كالصين والهند واليابان والبرازيل وإيران، فضلاً عن الاتحاد الأوروبي.
فالأزمة الأوكرانية, من منظور البعض, وليدة مطابخ السياسة الأمريكية الساعية لتأزيم العلاقات الروسية الأوربية, بغية تأطير الموقف الأوربي في القاطرة الأمريكية, إضافة لعزل روسيا واستنزافها ماليا ومفاقمة المشاكل الاقتصادية فيها, من خلال حرمانها موارد التقارب الروسي الأوربي وما ينتج عنه من عقود بين الطرفين, إلا أن تشعب العلاقات الاقتصادية بين موسكو والعواصم الأوربية وتداخلها بطريقة ما يجعل أي عقوبات تُفرض على موسكو تطال الاقتصاد الأوربي, لاسيما الاقتصادين الفرنسي والألماني, نظراً لحجم الرساميل والشركات الفرنسية في السوق الروسية, أو بالنظر لمشروع إمداد خط نورد ستريم 2 الاستراتيجي بين موسكو وبرلين, بالإضافة لحجم التجارة المتبادلة بين البلدين, ما يطرح التساؤل عن جدّية واستمرارية الموقف الأوربي تجاه العقوبات المفروضة أو التي يمكن فرضها على موسكو على ضوء تطور الحدث الأوكراني, أو استمرار الموقف الأطلسي على وحدته الراهنة, في ظل تيار أوربي بقي مسيطراً على المشهد السياسي الأوربي لما قبل الاجتياح الروسي لأوكرانيا, ويرى عدم تأثر أمريكا بالعقوبات المفروضة على روسيا, أو تأثرها عسكرياً, وعليه, فإن مصالح دول أوربا تفرض التفاهم والتعاون من روسيا, ورغم غياب هذا التيار عن الواجهة منذ الأيام الأولى للحرب الأوكرانية, إلا أن الشتاء الأوربي قد يُعيده إلى الظهور في ظل عدم تأمين بديل عن الغاز الروسي, وقد وجدة سابقة له في نهاية سبعينيات القرن الماضي, فيما سمي حينها بالصفقة الكبرى, تم الإشارة إليها أعلاه.
وفي مقارنة لمقدرات القوة, العسكرية والاقتصادية, الخشنة والناعمة، للقوى الأربعة (الولايات المتحدة-روسيا-الصين- الاتحاد الأوربي) يظهر التالي:
1- تمتلك روسيا مقدرات عسكرية فائقة، ولكنها قوة اقتصادية من الدرجة الثانية، وتفتقد أية قوة ناعمة ملموسة.
2- تعتبر الصين قوة عسكرية واقتصادية كبرى، ولكن تأثيرها الثقافي والمعنوي لم يزل ضعيفًا وهامشيًّا.
3- في المقابل، يعد الاتحاد الأوروبي قوة عسكرية ضعيفة، ولكنه قوة اقتصادية وثقافية عملاقة.
4- أما الولايات المتحدة فتعتبر قوة كبرى وبالغة التأثير في جميع المجالات.
وبموجب خارطة القوة هذه يتوجب بناء تحالف وثيق بين موسكو وبكين, حتى تتمكنا من تحدي الهيمنة الأطلسية على النظام الدولي، دون أن يؤدي ذلك بالضرورة لأن تصبحا قوة مسيطرة وقائدة في المدى المنظور. وحتى الآن، لا تبدي بكين رغبتها في هذا التحالف، ومع ذلك لم يعد ممكنًا لروسيا والصين الخضوع لقواعد النظام الدولي، مما يستدعي بحثهما عن المزيد من الأصدقاء والحلفاء خارج الكتلة الأطلسية. وعليه, فإن التنافس على كسب الأصدقاء والحلفاء بين القوى الكبرى الأربع سيتصاعد، مما سيتيح هامشًا أكبر لصعود قوى الصف الثاني، مثل تركيا وجنوب إفريقيا والهند والبرازيل، إن أحسنت إدارة علاقاتها الخارجية. (7)
وفي وسط هذا الصراع المتعدد الجبهات، جاءت الأزمة الأوكرانية الحالية, ضمن مساعي روسيا لتحدي الغرب والتصدي الاستراتيجي للناتو في شرق أوروبا، ومحاولة فرض ذلك بالقوة العسكرية، بغية تعزيز مكانتها في ظل إعادة تموضع استراتيجي أميركي وانسحابات عسكرية أميركية من عدة مناطق، مقابل تمدد الصين التي باتت تمثِّل مركز الاهتمام الاستراتيجي للولايات المتحدة وحلفائها الغربيين أمام سعيها الحثيث نحو تحصين موقفها الدولي وتعزيز تحالفاتها ووضع أسس لنظام دولي جديد تكون لها فيه مساهمة أكبر في إدارة المشهد الدولي، وخاصة مع مركزية دور الصين في التحركات الروسية ضد الغرب.
وعليه, يرجح الباحث في العلاقات الدولية, وأستاذ العلوم السياسية في جامعة شيكاغو, جون ميرشايمر نشوء ثلاثة أنظمة واقعية مختلفة في المستقبل المنظور: نظام دولي هزيل ونظامان محدودان قويان، أحدهما يُقاد من طرف الصين، والآخر يُقاد من طرف الولايات المتحدة. وسوف يكون النظام الدولي الهزيل مهتمًّا أساسًا بالإشراف على اتفاقيات الحد من التسلح وجعل الاقتصاد العالمي يعمل بفعالية. ويكون هناك ملمحان أساسيان لعالم جديد متعدِّد الأقطاب, الملمح الأول, أنه بافتراض استمرار الصين في صعودها، فإنها ستنخرط في منافسة أمنية شديدة مع الولايات المتحدة، وسيقود هذا التنافس إلى خلق أنظمة محدودة يُهيمَن عليها من طرف الصين والولايات المتحدة. وستكون التحالفات العسكرية لهذين النظامين، وهي بصدد التشكُّل الآن, شبيهة بالنظامين اللذين قادهما الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة خلال مرحلة الحرب الباردة. وستنخرط روسيا في هذا المسعى كما ستفعل الصين والولايات المتحدة. وستبقى المعاهدات والاتفاقيات الخاصة بالانتشار النووي في مكانها، نظرًا لرغبة القوى العظمى الثلاث في الحد من انتشارها, مع التفاوض على معاهدات جديدة تحد من ترسانتهما العسكرية.
ويقوم الملمح الثاني, على وجود قدر ضخم من التواصل الاقتصادي بين الصين والولايات المتحدة، وبين الصين وحلفاء الولايات المتحدة في شرق آسيا، والمتاجرة والاستثمار الصيني الأمريكي في كل أنحاء العالم, دون أن تُقلِّص المنافسة الأمنية بين النظامين المحدودين هذه التدفقات الاقتصادية، إذ أن المكاسب المتأتية من التجارة المستمرة مهمة ومطلوبة، حتى لو حاولت الولايات المتحدة الحد من تجارتها مع الصين، فبإمكان الأخيرة أن تُعوِّض ذلك من خلال تجارتها مع الشركاء الآخرين.
لذا، ذهب ميرشايمر إلى القول: إن من المرجَّح أن يتشابه المستقبل مع الوضع الذي كان قائماً في أوروبا قبل الحرب العالمية الأولى؛ حيث كان هناك تنافس أمني شديد بين الحلف الثلاثي (النمسا-المجر وألمانيا وإيطاليا) والوفاق الثلاثي (بريطانيا العظمى وفرنسا وروسيا)، لكن كان هناك قدر هائل من التفاعل الاقتصادي بين هذه البلدان بشكل عام. والنتيجة النهائية أن التنافس بين النظامين المحدودين اللذين تقودهما الصين والولايات المتحدة، سوف يُورِّط كليهما في منافسة اقتصادية وعسكرية تامة، مثلما كانت الحال مع النظامين المحدودين اللذيْن هيمنت عليهما موسكو وواشنطن أثناء الحرب الباردة. ويكمن الاختلاف الكبير هنا في أن النظام الدولي سوف يكون منخرطًا بعمق في إدارة جوانب التنافس في الاقتصاد العالمي، وهو الأمر الذي لم يكن موجودًا أثناء الحرب الباردة.(8)
وفي المقابل, يرى البعض أن الهيمنة الغربية العالمية, لا تستند إلى المقدرات العسكرية فقط، مع أهميتها وأولويتها. فالقوة العسكرية أثبتت محدودية قدرتها في تحقيق سيطرة طويل الأمد, لكنها تستند إلى "مأسَسَة" لا تتوفر لكل من روسيا والصين؛ حيث أنتجت المنظومة الليبرالية الغربية، وطورت مؤسسات باتت تهمين من خلالها على النظام الدولي عسكريا واقتصاديا وثقافيا. وعليهِ، تقف الهيمنة الغربية على أرض صلبة توفرها مؤسسات راسخة مثل الناتو، الاتحاد الأوروبي، البنك والصندوق الدوليين، نظام سويفت، منظمة التجارة العالمية، محكمة العدل الدولية.
فيما تبدو "منظمة شنغهاي للتعاون" ،المؤسسة المناظرة للناتو، أو التي أريدَ بها تكوين إطار مُناظر للناتو، إطاراً هشاً وفضفاضاً بعيداً تماماً عن التطور المؤسسي للناتو، ويعاني من فقدان الموارد، والأهم فقدان التعريف المشترك للتهديدات والمصالح، في ظل صراع المصالح بين أعضائه أنفسهم، خاصة التنافس العميق بين الصين والهند، والصراع بين الهند وباكستان، بل والتنافس بين الصين وروسيا على المستوى الاستراتيجي. (9)
تداعيات الحرب الأوكرانية على دول المنطقة
تداعت الحرب الأوكرانية على العديد من الساحات العالمية, ومنها تركيا وإيران والشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا, نظراً لتأثير الأزمة الأوكرانية على التجارة العالمية وأمن الطاقة, والعاملين المذكورين مرتبطين بدول المنطقة, حيث تتحكم العديد من دولها بالممرات الحيوية للتجارة العالمية مع كونها من الدول المنتجة للطاقة, بالإضافة لموقعها الاستراتيجي على خريطة إمدادات الطاقة العالمية, لذا لا يتوقف تأثير الأزمة الأوكرانية على منطقة شرق أوروبا، بل إن تداعياتها طالت دول المنطقة، باعتبار أن أطراف الصراع ترتبط بمصالح حيوية بدولها، فدول الخليج حليف مهم للولايات المتحدة وأوروبا، وإيران لديها علاقات مميزة مع روسيا والصين، وبالتالي فإن احتدم الصراع في أوكرانيا، سيتردد صداه في المنطقة باعتبارها أحد ساحات المنافسة الإستراتيجية بين القوى الكبرى، بالإضافة لحاجة أقطاب الصراع لبناء تحالفات جديدة, أو إعادة إحياء تحالفاتها القديمة, لذا سارعت روسيا بالإعلان عن اعتزامها إجراء تدريبات بحرية في البحر المتوسط، وأنها نقلت قاذفات وطائرات مجهزة بصواريخ فرط صوتية إلى قاعدتها الجوية في سوريا، و هو ما يُعد مؤشرًا على أن المنطقة ليست بعيدة عن تجاذبات الأزمة في أوكرانيا، وقد تصبح ساحة من ساحات التوتر والصراع على إيقاع الصراع الدائر على الأراضي الأوكرانية. وتُمثل سوريا أكثر الساحات تأثراً بالأزمة، إذ قد يمثل الضغط على النفوذ الروسي في سوريا ورقة يمكن أن تستخدمها الولايات المتحدة وأوروبا، كما أن التوصل لتسوية بين أطراف النزاع في أوكرانيا سيؤدي إلى مقايضة ما في سوريا، وهو أمر سيكون له تداعياته على دول الخليج وإيران وتركيا التي تبدو أمام خيارات صعبة في ظل علاقاتها المتأرجحة مع كلٍ من روسيا والولايات المتحدة والغرب، والتي تتقاطع مصالحهما في سوريا بصورة واضحة. فاستمرار الحرب في أوكرانيا سيدخل المنطقة في اصطفافات دولية وحرب باردة جديدة, كما ستعزز الأزمة الأوكرانية واحتدام التنافس الدولي من رغبة واشنطن في التمسك بمسار الدبلوماسية مع طهران على أمل تهدئة التوترات في المنطقة، وأملاً في أن يفتح إحياء الاتفاق النووي الباب أمام استيعاب ودمج إيران، مما يسمح بدخول الغاز والنفط الإيراني إلى سوق الطاقة، نظراً لموارد إيران الوازنة في مجال الطاقة، مما يضاعف الضغوط على روسيا، وهي فرصة اقتصادية تمنح إيران مساحة أكبر للمناورة مع الغرب في فيينا.
وفي المقابل, تعزز موسكو التنافس الإقليمي من خلال تقديم الدعم العسكري وتنفيذ صفقات السلاح واتفاقيات تجارية تسهم في خلق بيئة إقليمية معقدة أمام واشنطن، وستستفيد بكين من هذا التوتر, من خلال العمل على سياسة مواجهة خارج مجالها الحيوي بتعميق التنافس والصراع في الشرق الأوسط تماهياً مع التوجهات الروسية, ودعم أعداء واشنطن ومن بينهم إيران، إلا أن أهمية تحالف أوبك بلس لدى موسكو قد يحد من مقاربتها واندفاعها تجاه إيران
يُنظر للأزمتين الأوكرانية والسورية، بأنهما ذات تأثير متبادل, بوصفهما ساحتين للمنافسة والصراع بين روسيا والغرب، أكثر منهما أزمتان محليتان, ومثلما برزت مؤشرات على تطبيق خبرة ودروس الحرب السورية في الحرب الأوكرانية، لجهة: تكتيكات الإعلام والدعاية، ووسائط الاتصال والتواصل الاجتماعي، والعمليات العسكرية، وسياسات النزوح واللجوء، والحصار والعقوبات، ودور الشبكات دولية النشاط، والمقاتلين الأجانب، وكل ما يُعرف بتكتيكات وأدوات “الحرب الهجينة”؛ فقد برزت بالمقابل أسئلة وتقديرات حول منعكسات أو تأثيرات ممكنة أو محتملة للأزمة الأوكرانية على سوريا، لجهة عدها: ساحة “مواجهة موازية”، والتراجع عن “التفاهمات الإطارية” بين روسيا وأمريكا حولها، و”إعادة إنتاج” الحرب فيها، وتسعيرها، ومضي كل طرف في رهاناته القصوى حيالها؛ أو ساحة “مفاضلة” بينها وبين أوكرانيا، أو ورقة “مساومة” محتملة في أي عملية للحل أو التسوية بين روسيا وأمريكا.
وعلى اعتبار أن سوريا ليست بالأهمية أو الأولوية نفسها التي تشغلها أوكرانيا لدى الطرفين، فإن احتدام الصراع بينهما في أوكرانيا، قد يرشح سوريا لأن تكون ساحة مساومة، وحتى ساحة تَخَلٍّ، في حال تطورت الأمور لتدفع بأي من الطرفين للمفاضلة بين الأزمتين أو الساحتين. وكيف يمكن لروسيا أو أمريكا تَحَمُّل التّراجُع في سوريا أكثر من أوكرانيا، وهو أمر مناسب لـ”مساومة” يمكن أن تفضي إلى التضحية بالأقل أولوية والأقل تكلفة، مادياً ومعنوياً، دون أن تكون التضحية بالتمام، وإنما بـخفض المطالب وقبول تسويات لم تكن ممكنةً حتى الان. وهذه مسألة بالغة التعقيد، وغير مرجحة، ولكنها ممكنة.
الخاتمة:
"كان على بريطانية وفرنسا أن تختارا بين الحرب وبين العار, وقد اختارتا العار, ومع ذلك فستقحم الحرب نفسها عليهما لا محالة".
ونستون تشرشل في تعليقه على مقررات مؤتمر ميونيخ عام 1938, والذي أقر مطامع هتلر في إقليم السوديت التشيكي
انزلق الصراع الروسي-الأوكراني إلى مواجهة عسكرية بين الطرفين في ظل تحولات شهدتها الساحة الدولية خلال العقد الأخير، أهمها رغبة روسيا في استعادة مكانتها نتيجة تنامي مخاوفها من توسع حلف الناتو باتجاه حدودها الشرقية، الأمر الذي يُهدد أمنها القومي ويقضي على طموحاتها الجيوسياسية تجاه مجالاتها الحيوية التقليدية, في محاولة لتجاوز نتائج نهاية الحرب الباردة, من خلال العدوان على دول مستقلة, للعودة إلى مقعد القطبية الدولية، بالتزامن مع مخاوف أمريكية متصاعدة، من أن مكانتها الدولية عُرضة للتهديد من قبل الصين, الصاعدة بقوة على الساحة الدولية، وروسيا التي تسعى لإعادة التموضع، لذا بادرت إدارة الرئيس الأمريكي، جو بايدن، لرسم سياسة احتوائية أعادت الحياة للحرب الباردة بين الولايات المتحدة وكلٍ من روسيا والصين، وتنطلق من أن هناك واقعا دوليا جديدا يجعل من المواجهة بين واشنطن والقوى الكبرى باتت حتمية عاجلا أم آجلا، وأن استعادة التواُزن الإستراتيجي على الساحتين الأوروبية والآسيوية ضرورة حتمية في هذه المواجهة, من خلال إعادة صياغة العلاقات عبر الأطلسي، وبلورة العلاقة وفق تصور يحفظ للتحالف عبر الأطلسي مكانتهما على الساحة الدولية، بعد تزايد المخاوف الأوروبية في قضايا الدفاع والأمن, إذ ما تزال أوروبا ركيزة أساسية في التوازنات الدولية القائمة الراضية عن النظام الدولي الراهن, بينما تبحث قوى أخرى عن وسائل تعزيز مكانتها على الساحة الدولية، وفي مقدمتها الصين، التي تزحف بقوة نحو تغيير قواعد النظام الدولي، وتُشاطر الصين في موقفها روسيا، رغم أن مكانتها الاقتصادية لا تسمح لها بالبقاء كقوةٍ مؤثرةٍ في التوازنات الدولية, غير أن روسيا قوة نووية عظمى بالإضافة لما امتلكته مؤخراً من ثقل على الساحة الدولية، نتيجة تدخلها في العديد من الأزمات وفرض مواقفها فيها, لذا تبدو الأزمة الأوكرانية أبعد وأعقد بكثير من أوكرانيا ذاتها، وأن تحولات دولية كبرى تدور رحاها في الوقت الراهن في هذا الجزء الجيوسياسي من العالم، ما يُفسر طبيعة المواقف الأمريكية والأوروبية التي حذَّرت موسكو من اجتياح أوكرانيا، فيما تحولت الأخيرة لساحة تصفية حسابات لاعبين كبار بحجم الولايات المتحدة وروسيا.
وعليه, يُرجح أن تكون للحر
ابق على اطلاع على النشرة الإلكترونية