بعد أن لعبت إيران دوراً رئيسياً في التطوّر العسكري لحركة «حماس»، وتجاوزت الانقسامات العقدية والأيديولوجية العميقة معها، جددت طهران رعايتها الواسعة بطرق ساهمت بشكل مباشر في إراقة الدماء الأخيرة في غزة. دائماً ما يشيد رئيس المكتب السياسي للحركة إسماعيل هنية بإيران لتمكينها «حماس» من إطلاق هذا الوابل من الصواريخ، وأشار إلى أن طهران لم تتراجع عن مساعدتها بالمال والسلاح والدعم الفني.
انعكاسات المظاهرات في إيران على الوضع في غزة
بعد استعراض العلاقة الوثيقة بين حماس وإيران وارتباط وجهات النظر بين الطرفين، بالتالي ترتبط التوجهات السياسية بينهما بشكل كبير. تطورت الأحداث في إيران بشكل كبير، تظاهرات في كل مكان واحتجاجات على النظام، ومقتل بعض المتظاهرين، مما أدى إلى رفع النظام الإيراني مستوى الخطر وحظر التجوال، في أعقاب الإعلان عن مقتل الشابة الإيرانية مهسا أميني (22 عامًا)، اندلعت الاحتجاجات التي شهدتها المدن الإيرانية في 18 سبتمبر/أيلول 2022م، بعد أن ألقت "شرطة الأخلاق" القبض عليها واقتادتها إلى مركز شرطة، بزعم ارتدائها الحجاب بصورةٍ خاطئة أثناء وجودها في العاصمة طهران بصُحبة عائلتها. وعلى الرغم من أن الشرطة قد أعلنت أنها قد تعرَّضت لنوبة قلبية ونشرت فيديو من داخل الحجز لتأكيد هذه الرواية، غير أنه من الواضح أن الفتاة قد تعرضت إلى الاعتداء؛ ما أدى إلى وفاتها، وهو الأمر الذي تأكد من الصور المنتشرة للفتاة داخل المستشفى الذي توفيت فيه، وكذلك من التصريحات التي أدلى بها ذويها بعد تسلُّمهم الجثة، التي أكدوا خلالها أن الجثة كان عليها آثار اعتداءاتٍ وتعذيب تعرَّضت لها قبل وفاتها، وهو ما كان الشرارة التي تسبَّبت في انطلاق موجةٍ جديدة من الاحتجاجات في عددٍ من المدن الإيرانية وصولًا إلى طهران.
والواقع أن هذه التطورات جاءت في ظل بيئةٍ داخلية محتقنة على خلفية الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المضطربة، وجاءت في ظل تراجُع شعبية حكومة رئيسي التي لم تستطِع أن تُوفي بوعودها للمواطنين بعد عامٍ من وصولها إلى السلطة في أغسطس/آب 2021م، وعلى الرغم من أن هذه الاحتجاجات قد تبدو محدودةً مقارنةً باحتجاجات الوقود في 2019م واحتجاجات 2017/2018م، اللتين عمَّتَا معظم مدن إيران وكان لهُما طابعٌ شعبي، غير أنها تعكس الطابع الديني والاجتماعي للعملية الاحتجاجية في إيران، وتعكس كذلك اتساع نطاق حالة الغضب والاحتقان الجماهيري والشعور بالحرمان والظلم، كما تعكس الفجوة المتّسعة بين النظام وهُويّته التي يحاول أن يفرضها من خلال القمع، والمجتمع الذي يتطلَّع إلى تحسين شروط حياته على المستويات الاجتماعية والثقافية والتحرر من قيود الدولة خصوصًا في فرض نمطٍ معين من السلوك والمظهر على حياتهم الخاصة.
أحداث إيران تضرب تمويل "حماس"
سيطرة إيران على القطاع وتزويدها لـ "حماس" بالمال والسلاح، واعتبارها الممول الأبرز لحماس، لاشك سيتأثر بعد الأحداث الأخيرة. الأوضاع الاقتصادية داخل القطاع صعبة للغاية في ظل ضعف الصحة والتعليم وانتشار البطالة، تأتي أحداث إيران وطريقة تعامل النظام الإيراني مع الأحداث مثل "كابوس" مرعب لأهالي غزة.
انخفاض التمويل والدعم القادم من إيران لحماس وكذلك طريقة التعامل الوحشية وقمع التظاهرات في إيران، أمر يرعب أهالي غزة خوفاً من تعامل حماس معهم بنفس أسلوب التعامل، كذلك تأثر الوضع الاقتصادي بهذه الأحداث.
تطوّر العلاقات بين حماس وإيران
بعد بروزها في ثمانينيات القرن الماضي كفرع جهادي سنّي انبثق عن جماعة «الإخوان» في مصر، وضعت «حماس» ميثاقاً رسمياً رسّخت فيه على هدف تدمير (إسرائيل) ومحاربة "اليهود الذين هم دعاة الحرب". وبعد ذلك، بدأت الحركة بإقامة روابط رفيعة المستوى مع إيران عندما نظمت الجمهورية (الإسلامية) مؤتمرين حول فلسطين في الفترة 1990-1991. وقد أصبح هذا المنتدى الذي شارك فيه مندوبو «حماس» ثقلاً موازياً لعملية السلام التي كانت جارية بين العرب و(إسرائيل) ومؤتمر مدريد لعام 1991.
واصل «الحرس الثوري» الإيراني و«حزب الله» و«حماس» التعاون خلال الانتفاضة الثانية (2000-2005). فقد قام «حزب الله» بثلاث محاولات كبيرة لتهريب الأسلحة وصنّاع القنابل إلى غزة خلال هذه الفترة؛ كما ساعد «حماس» في بناء السلاح الفائق القوة الذي استخدم في التفجير الانتحاري الذي وقع في مارس/آذار 2002 وأسفر عن مقتل ثلاثين مدنياً إسرائيلياً. وبهذه الطريقة، تطورت «حماس» ليس كوكيل إيراني كامل على غرار «حزب الله»، بل كشريك عملي لمحور طهران المناهض لـ (إسرائيل).
وتعززت العلاقة بين «حماس» و«حزب الله» وإيران بشكل أكبر بفضل الجهود التي بذلتها إيران لدعم برنامج «حماس» الصاروخي. ففي عام 2014، كشف قائد وحدة الصواريخ في «الحرس الثوري» أحمد حسيني أنه قبل سنوات قام "«حزب الله» بتسليح عناصر «حماس» وتدريبها... حتى أن بعضها قدِم إلى إيران لتلقي التدريب". وأشار إلى أن مهندس البرنامج الصاروخي الإيراني، الجنرال في «الحرس الثوري» حسن طهراني مقدم (المتوفى الآن)، كان "المشرف على تسليحهم وتوجيههم".
في بادئ الأمر، تولى «الحرس الثوري» و«حزب الله» تعليم مهندسي «حماس» كيفية صنع صواريخ من مواد مستخدمة يومياً على غرار السكر والأنابيب، مما مكّن الحركة ببدء الإنتاج المحلي لصواريخها الأساسية القصيرة المدى، هي "القسام". وبعد الانسحاب الإسرائيلي من غزة عام 2005 وسيطرة «حماس» على القطاع، بدأت الحركة بجمع الذخائر الإسرائيلية غير المتفجرة لإنتاج الصواريخ. كما حصلت على صواريخ أكثر تطوراً من إيران وسوريا. وظهرت عدة أسلحة إيرانية في نزاع غزة 2008-2009؛ وبحلول زمن حدوث نزاع 2012، كانت «حماس» تطلق صواريخ إيرانية بعيدة المدى من طراز "فجر 5" على (تل أبيب) والقدس. وكان تأثير إيران واضحاً أيضاً في التطور الموازي لأسلوب عمل «حماس» و«حزب الله» بعد الانسحابات الإسرائيلية من أراضٍ كل منهما معرض إلى الهجمات الصاروخية وقذائف الهاون والكمائن المضادة للدبابات. وكانت جميعها مُدعمة بأنفاق ودروع بشرية مدنية لتجنب الضربات الجوية الانتقامية.
ولتزويد «حماس» بمثل هذا العتاد، استحدثت إيران طرق تهريب مختلفة. وفي بعض الحالات، أحضر المهربون البدو القاطنون في سيناء مواداً إلى غزة عبر السودان بموافقة الرئيس السابق عمر البشير. إلّا أن البشير طرد المسؤولين الإيرانيين من السودان في عام 2014، على أمل تجنب الانهيار الاقتصادي لبلاده من خلال فوزه بمساعدة مالية من المملكة العربية السعودية، خصم طهران الإقليمي اللدود. كما قامت إيران و«حزب الله» بتهريب أسلحة ومواد لتصنيع الصواريخ عن طريق البحر، متجنبين الحصار الإسرائيلي من خلال إلقائهم مواد عائمة للصيادين الفلسطينيين لالتقاطها بالقرب من ساحل غزة. وحتى تنظيم «الدولة الإسلامية» بدأ يساعد في تهريب الأسلحة عبر "محافظة" سيناء - ووفقاً لمصادر استخباراتية مصرية وإسرائيلية، كان التنظيم مستعداً لتنحية عدائه الأيديولوجي لجماعة «الإخوان» مقابل حصوله على أسلحة «حماس» والتدريب الذي توفره.
لكن في الوقت نفسه، أدى اندلاع الحرب في سوريا عام 2011 إلى توتر العلاقات بين «حماس» وإيران، حيث دعمت طهران نظام الأسد، بينما أيّدت «حماس» المعارضة العربية السنّية. كما زادت «حماس» العلاقات سوءاً من خلال الإعراب عن دعمها للسعودية خلال حرب التحالف الخليجي ضد الحوثيين المدعومين من إيران. ومع ذلك، واصل المسؤولون في إيران و«حماس» عقد اجتماعات غير علنية رفيعة المستوى من وقت لآخر، وسارعت طهران في التعبير عن دعمها للحركة خلال أي اشتباكات فلسطينية مع الاحتلال الإسرائيلي. ومع ذلك، خفضت إيران تمويلها لـ «حماس» أو ربما أوقفته.
إلّا أن «حماس» وجدت طرقاً عديدة لتعويض الأموال الإيرانية التي خُسِرت. ولجأت إلى تركيا وقطر للحصول على دعم مالي مباشر. بالإضافة إلى ذلك، عندما اندلعت الحرب الأهلية في ليبيا عام 2011 ولسنوات بعد ذلك، حذر المسؤولون المحليون و(الإسرائيليون) من واقع تعاون «حماس» مع مهربي أسلحة ليبيين. وفي يونيو/حزيران 2012، على سبيل المثال، صادرت قوات الأمن المصرية 138 صاروخاً من طراز "غراد" تم جلبها من ليبيا لإرسالها إلى غزة. واستفادت «حماس» أيضاً من قدراتها المحلية المحسنة من خلال إعادة توجيه المساعدات الإنسانية المدنية التي تصل من (إسرائيل) لأغراض عسكرية (على سبيل المثال، استخدام الألواح الخشبية والمحركات في حفر الأنفاق وصنع القنابل).
ابق على اطلاع على النشرة الإلكترونية