كيف تمكّنت أدوات القوى الناعمة من تحقيق استراتيجياتٍ لإحداث تغيرات بنيوية وهامة في الدول والمجتمعات والشعوب المستهدفة، وماهي الأثار المترتبة للقوة الناعمة في إطار العمل الاستراتيجي المنظَّم لتحقيق أهداف السياسة الدولية؟
لكن ورغم مغريات الشعارات وجاذبية أدوات القوى الناعمة، فإن نتائجها لا تقل خطورة عن النتائج المترتبة على استخدام القوة العسكرية وأدوات الضغط الاقتصادية أو القوى الصلبة، كيف يمكن العمل على زيادة الوعي الوطني والمجتمعي في كيفية التعامل مع موجات الأدوات الناعمة بمختلف توصيفاتها الثقافية والإعلامية والسياسية والفكرية؟ وهل يمكن الاستفادة منها لتحقيق التحوّل الديمقراطي، وإيجاد تركيبات مجتمعية ديمقراطية جديدة أو إحداث تغيرات بنيوية للانتقال من الدولة الإقصائية إلى الدولة الجامعة لكلّ المكونات؟
وقد حرّفت الدول مفاهيم القوى الناعمة، وتعريفاتها كما حرّفت سابقاً الكثير من المصطلحات كالديمقراطيّة والحرّيّة والاقتصاد والإدارة وغيرها من التعريفات الأخرى، فقد صارت القوّة الناعمة عند بعض الدول مرادفاً للحرب الخاصّة، أو حرب للسيطرة على العالم، كما تروّج الولايات المتّحدة مفاهيم الحياة الجديدة المختلفة عن العالم في الولايات المتحدة التي تريد أن تفرضها كنمط في الحياة، أو دعايات أنّ الدولة الفلانيّة رمز السعادة في العالم…
لكن السؤال المطروح هل صحيح أنه عندما يكون هناك عدم فعالية للقوى غير الناعمة يتم اللجوء للقوى الناعمة، وهل هي هيمنة وتسلط بأدوات جديدة على المنطقة وبشعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان والليبرالية؟ هل هناك تبديل في السياسات الدولية تجاه المنطقة حيث أنّ الانسحاب أو سحب القوى العسكرية من المنطقة كما يقول البعض سيكون بديلها القوى الناعمة ولنفس الأهداف السابقة وبأقل التكاليف والانتقادات؟
هل يتم القبول بالقوى الناعمة في المنطقة، وبين شعوبها ومجتمعاتها وقواها، رغم أن تأثيراتها يمكن أن تكون أكثر خطورة من القوى الصلبة؟ هل يمكننا الاعتماد على القوى الناعمة فقط في معالجة الإرهاب؟ ولماذا ظهر مفهوم القوى الذكية الذي جمع القوى الناعمة والصلبة معاً في السياسة الدولية؟
يقول جوزيف ناي أستاذ العلاقات السياسية في القوّة الناعمة: إنّها القدرة على التأثير في الأهداف المطلوبة، وتغيير سلوك الآخرين عند الضرورة، أمّا اقتران القوة بصفة (الناعمة)، فإنها تؤثر في القدرة على الحصول على ما تريد من خلال الإقناع والجذب وليس الإكراه، واستبعد من تعريفه العقوبات الاقتصادية والسياسية إضافة للعسكرية، وعرّفها بأنها تلك القوة التي تؤكد استخدام الوسائل الحضارية والاقتصادية والدعائية.
ومن الناحية الإجرائية يمكن تعريف القوة الناعمة بأنها: القدرة على التأثير وجذب الآخرين بالإقناع وليس بالإكراه إلى المسار الذي يخدم مصالح الدولة أو طرف ما وكياناتهم باستخدام وسائل لا تصل إلى توظيف أدوات القوة الصلبة.
وبمعنى أخر القوة الناعمة هي “القدرة على الحصول على ما تريد من خلال الإقناع وليس الإكراه”، وتتمثل أدواتها في القيم السياسية والثقافية والفكرية والقدرات الإعلامية، والتبادل العلمي والفكري والفني، والقدرة على التفاعل ومدّ الجسور وإقامة الروابط والتحالفات والعلاقات، أما القوة الصلبة فهي تقوم على الإجبار والقسر، وأدواتها هي الإمكانيات العسكرية والقدرة على فرض العقوبات الاقتصادية والسياسية.
وهكذا نستطيع القول: إنّ القوة الناعمة هي في جوهرها قدرة أمة أو شعب أو مجتمع معين على التأثير في أمم أخرى وتوجيه خياراتها العامة، وذلك استناداً إلى جاذبية نظامها الاجتماعي والثقافي ومنظومة قيمها ومؤسساتها، بدل الاعتماد على الإكراه أو التهديد، وهذه الجاذبية والطاقة الإيجابية يمكن نشرها بطرق شتى:
ويمكننا محاولة حصر القوة الناعمة لأي دولة أو شعب في المشهد التفاعلي، والمسرح العالمي في ثلاثة عناصر أساسية:
وهنا نستطيع القول إن القوة الناعمة هي “القدرة على الحصول على ما تريد عن طريق الجاذبية بدلاً من الإرغام، وهي القدرة على التأثير في سلوك الآخرين للحصول على النتائج والأهداف المتوخّاة، بدون الاضطرار إلى الاستعمال المفرط للعوامل والوسائل العسكرية والصلبة. وهذا ما حصل مع الاتحاد السوفيتي، حيث تم تقويضه من الداخل، لأن القوة لا تصلح إلا في السياق الذي تعمل فيه، كما أن القوة الناعمة هي القدرة على الجذب والاستقطاب اللذين يؤديان إلى التراضي، ويمكن أن تجعل الآخرين يحترمون قيمك ومُثلك ويفعلون ما تريده، وهي تعني القدرة على الحصول على النتائج التي يريدها المرء عن طريق الجاذبية، أي جعل الآخرين يريدون ما تريده أنت من خلال المصادر المعنوية.
إن قوة الدولة أو شعب أو مجتمع أو أي مؤسسة أو تنظيم في المجال الإقليمي والدولي، تُعتبر المحصلة النهائية للمصادر والقدرات والإمكانات والعلاقات التي يمكن تعبئتها لمتابعة أهداف سياستها الخارجية، وهذه المحصلة تعتمد على مدى تفاعل العديد من العوامل والمكونات التي تتداخل فيما بينها لتبرز الحجم النهائي لقوة كيان ما وقدرتها على التأثير والنفوذ.
وهنا يقع على عاتق الدبلوماسية بالدرجة الأولى مسؤولية إبراز القوة بشكل فعّال ومؤثر، بحيث تقوم الدولة أو الشعب وكياناتها باستغلال قدارتها وإمكاناتها لتحقيق الأهداف التي تسعى لتحقيقها، وزيادة حضورها وهيبتها وتفاعلاتها الدبلوماسية، وتحسين مكانتها النسبية من حيث القوة والنفوذ والتأثير في النظام الإقليمي والدولي، والدول الصغرى أو المجتمعات ذات القدرات المحدودة أيضاً لها من عناصر القوة في السياسات الدولية التي يمكن لبعضها أن تستغلها، فقوّتها قد تكمن في مواردها الخام، أو في مواقعها الاستراتيجية أو في تنظيمها أو في خصائص أبنائها ونخبها، أو في أبعادها أو مشاريعها الفكرية والسياسية والديمقراطية والفنية والإعلامية.
ومن المهم الإشارة إلى التطبيقات السرية للقوة الناعمة في حالات الحرب والمواجهات العسكرية للكثير من الدول، حيث أن هذه المخططات تبقى طيّ الكتمان، وهذا ينبه إلى الجانب المظلم الذي يتواجد في كيفية استخدام القوى الناعمة أو الوجه الآخر للقوى الناعمة حيث يستعملها الكثير من دول العالم صاحبة النفوذ والقوى لتحقيق أهداف على حساب شعوب المنطقة والعالم، وحتى تبديل الحقائق والحقوق.
وعلى الصعيد الدولتي يمكننا أن نشير إلى الاختلاف بين القوى الناعمة للدول المركزية في النظام العالمي كما القوى الناعمة الصينية والروسية التي تختلف عن الأمريكية، كما هناك اختلاف على الصعيد الإقليمي أيضاً بين القوى الناعمة التركية والإيرانية والإسرائيلية، بالإضافة إلى الاختلافات بين الشعوب والمجتمعات، لكن ربما تكون الأدوات والوسائل وطرق التأثير متشابهة، لكن حتماً الأهداف تختلف بين دولة وأخرى وبين شعب وآخر نتيجة مواضعهم وموقعهم وثقافاتهم وإمكانياتهم على الصعيد التفاعلي والصدقية والشرعية والجاذبية المحققة.
وقد ارتكز معظم الباحثين على الدبلوماسية العامة والتي تُعدّ من القوى الناعمة، حيث تعددت تعريفاتها، ومنها تعريف لجير سميث الذي عرّف جزءاً من الدبلوماسية العامة بأنها “زراعة معايير السلوك والفهم في الخارج واللذين ينسجمان مع المصالح الوطنية الأمريكية طويلة المدى”، أما دراسة جون وينبرينر فقد بينت أن قدرة القوة الناعمة لجذب الآخرين في الاتجاه المرغوب يعتمد الدبلوماسية العامة.
تلعب الخصائص الاجتماعية والثقافية كنمط الثقافة السائدة والتقاليد الحضارية والفكرية وعامل التجربة التاريخية والقيم الدينية والاجتماعية، دوراً كبير في عملية صنع السياسة الخارجية، هذا إذا أدركنا أن السياسة الخارجية هي انعكاس للتفاعلات التي تتم داخل المجتمع، وأن السياسة الخارجية هي امتداد للسياسة الداخلية بكل ضغوطها ومقوماتها، وفي الواقع فإن القرار السياسي يُعدّ تجسيداً لهوية المجتمع وشخصيته، وعوامل بنائه الفكرية والحضارية ولنمط التفكير القيادي المتأثر بالوسط الاجتماعي.
وعلى هذا، غالباً ما تظهر العلاقة التأثّرية بين خصائص الشخصية المجتمعية والسياسة الخارجية لصنّاع القرار فيه، ومما يؤكد هذه العلاقة ويعززها جملة معطيات: منها أنّ التكوين النفسي والفكري لأي مجتمع يظهر واضحاً على طريقة تعامل صنّاع القرار فيه مع بقية الدول، والشعوب المحيطة، حيث تكون خصائصه السيكولوجية عاملاً للتمييز عن غيره من المجتمعات الأخرى، وأن الشخصية المجتمعية أو القومية أو الوطنية لأي أمّة ترتبط على نحو وثيق بأهداف سياستها المجتمعية أو القومية، فالسياسة الخارجية لأي دولة أو مجتمع أو شعب، تجسّد هوية هذه الدولة أو الشعب أو المجتمع في الانتماء إلى الروابط والمقومات التي تتشكل منها، حيث أن السلوك السياسي الخارجي يعبّر عن الخصائص القومية أو الوطنية أو المجتمعية التي يتميز بها فاعل السياسة الخارجية أو الدولية.
وفي إشارة لمعنى ودلالة البعد الثقافي لمفهوم القوة الناعمة ذهب وزير الخارجية الأمريكي الأسبق “كولن باول” إلى القول: “لا أستطيع أن أفكر في رصيد لبلدنا أثمن من صداقة قادة عالم المستقبل الذين تلقّوا تعليمهم هنا، ذلك أن الطلبة الدوليين يرجعون إلى أوطانهم في العادة بتقدير أكبر للقيم والمؤسسات الأميركية. وكما هو وارد في تقرير مجموعة تعليمية دولية، فإن ملايين الناس الذين درسوا في الولايات المتحدة على مدى سنوات يشكلون خزاناً رائعاً للنوايا الحسنة تجاه بلدنا، وكثير من هؤلاء الطلبة السابقين ينتهي بهم الأمر إلى احتلال مراكز يستطيعون من خلالها التأثير على نتائج السياسة التي تُعتبر مهمة للأمريكيين”.
وتبرز أهمية الأدوات الثقافية في كونها توفر المناخ المناسب للتأثير السياسي، فالدول والشعوب التي تنجح في إبراز وجودها الثقافي في دول ومجتمعات أخرى، لا تجد صعوبة في تحقيق أهداف سياستها الخارجية في تلك الدول، إذ أنّ التأثير الثقافي يخلق نوعاً من كسب الولاء سواء من طرف النخبة الحاكمة أو من طرف الرأي العام.
ولقد أخذت الأساليب الثقافية مظاهر عديدة ومختلفة بهدف زرع نمط ثقافي أو نموذج ثقافي معين في وسط اجتماعي معين، وذلك عن طريق برامج التبادل الثقافي، وإقامة العروض الثقافية، ونشر تعليم اللغة القومية وفتح المكاتب الثقافية والمؤسسات التعليمية في الخارج.
ولابدّ من ذكر الأسلوب الذي مارسته الدول الاستعمارية مع شعوب مستعمراتها وفي مناطق عديدة في العالم في آسيا وإفريقيا وأمريكا الجنوبية، بما يسمّى الاستعمار الثقافي (العولمة الثقافية) أو الهيمنة الثقافية (الاستشراق) وهو من أخطر أنواع الاستعمار حيث يتمّ عبره تسهيل وتطبيق الاحتلال العسكري والاقتصادي والفكري وبالتالي السلوكي، وبالمجمل حداثة الحياة ونمطها.
كما يجب الإشارة إلى محاولة استقطاب الطلاب وطالبي التعليم والتقنيات من خلال استراتيجية التعليم للقرن الواحد والعشرين باستخدام التكنولوجيا لتدريس التعليم، فقد أشارت إليها الكثير من برامج واستراتيجيات وزارة الخارجية للدول الكبرى في النظام العالمي.
يشكّل التفاعل الدعائي أو الدعاية والرموز كأدوات اتصالية، واحدة من الوسائل المستخدمة لمساندة الفعل السياسي الخارجي للدولة تحقيقاً لأهداف يتطلع إلى إنجازها صنّاع القرار فيها، ويتحدد الغرض الأساسي من استخدام هذه الوسيلة بتهيئة المناخ الفكري والنفسي للبيئة الخارجية، وخلق قناعات مسبقة، وتغيير قناعات قائمة لتقبّل وتفهّم سياسة ما، فتلجأ إليها الدولة وبعض الكيانات المختلفة والمؤسسات التي تعمل على توظيف هذه الوسيلة. ويكون الغرض من هذه الجهود الاتصالية والموجّهة إلى البيئة الخارجية، التأثير في أفكار وتوجهات الآخرين حول قضية محددة يخدم فيها محصلة التأثير في أهداف السياسة الخارجية للدولة أو المؤسسة التي تمارسها، وعبر هذا الأسلوب الموجّه يتم فيه خطاب قطاعات واسعة من الرأي العام، والذي يكون موجهاً بالدرجة الأولى إلى جمهور أجنبي لغرض التأثير عليه، وهو ما يسمى بالدعاية.
فالدعاية أو التفاعل الدعائي نشاط اتّصالي تقوم به الدولة أو المؤسسة أو إدارة ما بهدف تسويق فكرة يتبنونها، أو الترويج لسياسة مراد تنفيذها، لزرع قناعات لدى الجمهور المخاطب والمستهدَف المراد التأثير عليه، حتى يتبنّى وجهة نظر هذه الدولة أو الجهة فيما تريد تحقيقه، أو ما تُقدم عليه من سياسات. وتكمن أهداف الدعاية كأسلوب يُمارس لتحقيق أهداف السياسة الخارجية، بخلق رأي عام مناصر ومؤيد لمواقف ما من ناحية، ثم تعبئة هذا الرأي من ناحية أخرى ضدّ كلّ من يعارض هذه السياسة. وكما يذهب “هارولد لاسويل” إلى أن هدف الدعاية يتحدد بتعبئة الكراهية ضد العدو والحفاظ على صداقة الحلفاء، وكذلك الحفاظ على صداقة الدول المحايدة، بل الحصول على تعاونها، وبالمقابل تحطيم الروح المعنوية للعدو وخلق رأي عام داخلي يعمل بالضد منه.
تتطلب الدعاية لكي تكون على قدر كبير من الفاعلية والتأثير لخدمة أهداف السياسة الخارجية للدولة التي تستخدمها:
تحتل الوسائل الإعلامية والدعائية والمؤسسات الإعلامية مكانة مهمة لتنفيذ أهداف السياسة الخارجية لغالبية الدول والشركات والمؤسسات والقوى المختلفة، ونشر المفاهيم والقيم التي تخدم سياسات معينة، وفي عصر ثورات الاتصال والتكنولوجيا زاد تأثير هذه الأدوات بل أصبح يُستخدم في استراتيجيات دولية وعلى مستويات مختلفة عبر التأثير في عقول الجماهير وعواطفهم وتغيير اتجاهاتهم وسلوكهم، بما يخدم سياسات وتحقق مصالح وأهداف مرسومة في الاستراتيجية.
وهنا يقول جوزيف ناي عن بالقوة الناعمة، بأنها لا تعتمد على بطش الأساطيل والمدافع الحربية، إنما تلجأ إلى (أسر العقول والأفئدة) وهذا ما أكده (بريجنسكي) بأن: “الانتشار السريع للأنترنت كأداة جديدة للاتصال، ما هو إلا مظهر واحد من مظاهر التأثير العالمي الكبير لأمريكا بوصفها الرائد الاجتماعي للعالم”.
وفي الصعيد نفسه وُظّفت الدعاية مع صناعة السينما، ففي عهد الرئيس (روزفلت) بدأ التنسيق على المستويات كلها بين وكالة الأمن القومي الأمريكي وبين الشركات الرئيسة العاملة في صناعة السينما في هوليود، وأصدرت الحكومة الأمريكية دليلاً موجهاً إلى هوليود يضم أنواع الموضوعات التي يمكن أن تحترم المجهود القومي الأمريكي، إذ حدد الرئيس (روزفلت) خمسة موضوعات تتمتع بالأولوية.
ولعل مصانع هوليوود وبغض النظر عن فسادها أو جوهرها أو رسائلها، تُعدّ أكثر ترويجاً للرموز البصرية للقوة الأمريكية الناعمة من جامعات مثل جامعة هارفارد، والسبب يعود إلى الإمتاع الشعبي للأفلام الأمريكية التي تجسّد وفق المفهوم الأمريكي مفاهيم الحرية والعنف، وتحوي على صور ورسائل لا شعورية عن الفردية وحرية الخيار للمستهلك، وقيم أخرى لها رسائل سياسية مهمة ومؤثرة خاصة للاستراتيجيات الأمريكية في المنطقة.
كما أنّ صنع القرار السياسي الخارجي يرتبط بمدى المعلومات المتوافرة لدى صناع القرار الخارجي عن اتجاهات الشعوب في الدول الأجنبية والمجتمعات المحيطة ذات العلاقة بهذا القرار أو المستهدفة به، لذلك تحاول الدولة من خلال وسائل الإعلام المتاحة والملائمة التأثير على الرأي العام الأجنبي الخارجي وفي المحيط لكسب تأييده لقضايا معينة، وتبحث الدبلوماسية عن التأييد خصوصاً خارج الحدود القومية، وبهذا يرتبط الإعلام بالدبلوماسية في تنفيذ السياسة الخارجية، ولعل التطور الكبير والمستمر للمكاتب الإعلامية للدول المختلفة في الخارج يظهر بشكل جلي أهمية الإعلام في خدمة سياسات الدول الخارجية وخدمة أهدافها على صعيد العمل الدبلوماسي.
وتجدر الإشارة إلى دور الإعلام في العمليات الدبلوماسية وفي آلية التفاوض كوسيلة من وسائل تفعيل العلاقات الدولية والسياسات الخارجية، ويمكن تحديد هذا الدور من خلال النقاط التالية:
الإعلام كمصدر للمعلومات: فقد أكدت الدراسات أن الإعلام هو المصدر الأساسي للقادة السياسيين والدبلوماسيين وكل من لهم صلة بالعملية السياسية في المجتمع، حيث يقدم الإعلام لأطراف التفاوض رؤية أولية للأطراف المشاركة.
الإعلام كأداة لتنفيذ السياسة الخارجية: حيث يلعب دوراً هاماً في مجال خلق رأي عام مساند أو معارض لقضية يدور حولها التفاوض، وخلق الاتجاهات المعارضة أو المؤيدة للقضية التي تكون محل التفاوض أو لأحد أطراف التفاوض.
ورغم الدور المهم الذي تلعبه وسائل الإعلام في إطارها الرسمي والشعبي من أجل تنفيذ السياسة الخارجية، فإن هناك الوجه الآخر لوسائل الإعلام والذي تلعب فيه دور المضلل والمخادع لصانع القرار السياسي الخارجي، وذلك عندما تقوم بتحريف الأحداث والأخبار على النطاق الدولي مما يؤثر على سير العلاقات الدولية والخارجية والمجتمعية من خلال جعل الأكاذيب تحل محل الحقائق الثابتة وإعطاء بعض الأحداث أهمية إعلامية أكثر من حجمها الحقيقي.
تعد الوسيلة الإعلامية التي تعمل دول مركزية عالمية وإقليمية على توظيفها وتسخيرها لصالح قيادة الرأي العام في الإقليم والعالم، وتعد في جزء منها من أهم الوسائل التي تبث نتاجات الفكر الغربي الرأسمالي الذي يروّج للنموذج الليبرالي البرغماتي، حيث أن وسائل الإعلام لها دور كبير في ضخّ هذه الأفكار للرأي العام، وتسييسه وقيادته نحو ترسيخ أفكار الليبرالية والنموذج المراد هيمنته على المنطقة والعالم. وعلاوة عن العديد من القنوات الفضائية التي لديها تمويل هائل بالإضافة إلى العديد من الصحف والدوريات والمجلات ومراكز البحث التي تعنى بالفكر الليبرلي، هناك أيضاً الأخطبوط العملاق والذي يدعى شبكة المعلومات الدولية الإنترنت ودورها في تعبئة الرأي العام والجماهير في إحداث اضطرابات وتغييرات على الساحة العالمية، ولما لهذه الشبكة العنكبوتية الضخمة دور في رسم وسوق الأهداف المبتغاة نحو الطريق الذي تريده القوى العالمية وعلى رأسها الولايات المتحدة، عبر عدة قنوات كمواقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك وتويتر ومحركات البحث الكثيرة مثل ياهو وجوجل والتي تعد من أهم الشركات الأمريكية العالمية التي تعنى بالتجسس وجمع المعلومات حول العالم)، مع العلم أن القوى المجتمعية والمدنية أيضاً حاولت وتحاول الاستفادة قدر الإمكان من التطور التقني والأنترنت في الدفاع وشرح أهادفها ومطالبها، ولابدّ لها من وضع استراتيجيات للتعامل مع هذه الأدوات الإعلامية وشبكات الأنترنت وأجيالها.
وقدر ظهر في السنوات الأخيرة مفهوم التكنوبلوماسية (الدبلوماسية الرقمية) وحتى أن هناك دول أصبح لديها سفراء رقميين، والكثير من وزارات خارجية الدول وحتى القوى المجتمعية أصبحت ترفد دبلوماسييها وممثليها بقدرات ومساعدين تقنيين في مجال التواصل الرقمي لما له من دور وأهمية في السياسة الدولية وحتى المجتمعية والشعبية.
تعد الوسائل السياسية واحدة من الوسائل المهمة لتنفيذ السياسة الخارجية أو الدولية، وتأتي المنظمات والمؤسسات والشركات الدولية وكذلك المجتمعية السياسية لا سيما منظمة الأمم المتحدة ووسائلها، ومؤسساتها والمنظمات المجتمعية، من بين تلك الوسائل التي تستخدمها بعض الدول والقوى في المنطقة والعالم.
ومن أهم الوسائل والأدوات السياسية التي تعتمدها القوة الناعمة في تنفيذ السياسة الخارجية ما يلي:
الديمقراطية: على صعيد الأدوات السياسية تعتبر فكرة نشر الديمقراطية أو العمل على تحقيق التحول الديمقراطي في المنطقة والعالم، إحدى أهم أدوات القوة الناعمة التي يتم استخدامها في دول أو مجتمعات لتحقيق سياسات وتوجهات معينة. وهنا لابد من الإشارة إلى موضوع الديمقراطية وجوهرها وتعددها، حيث تعد الديمقراطية ودمقرطة دول المنطقة السلاح الممكن استخدامه في الرقعة الإسلامية في مواجهة الإرهاب الإسلاموي والديكتاتورية الشديدة والسلطات القوموية مقترنة بالقوى الصلبة في إطار استراتيجية القوة الذكية. لكن ليس كل الديمقراطيات المثارة هي لأجل مصالح الشعوب والدول، بل بعضها لتثبيت الديكتاتورية والقوموية والإسلاموية والجنسوية كالديمقراطيات التمثيلية. وهنا لابد من البحث عن الديمقراطية المباشرة أو الشعبية.
مبادرات الإصلاح السياسي : وفي سياق مبادرات الإصلاح السياسي ضمن إطار التحول الديمقراطي طرحت دول مركزية مبادرات مثل مبادرة الشرق الأوسط الكبير، التي تضمنت ثلاث أولويات، هي الترويج للديمقراطية والحكم الرشيد، وبناء مجتمع المعرفة، وتوسيع الفرص الاقتصادية، لكن شعوب المنطقة ودولها لا ترى في هذه المشاريع مبادرات حقيقة لتحقيق التطورات والحلول الديمقراطية المطلوبة وإن وافق بعض دول المنطقة وبعض التيارات السياسية على هذه المبادرات، حتى أنه يمكننا القول إن أغلب المبادرات الخارجية لم تحقق الحلول بل أن أغلب الأزمات مستمرة ومستفحلة وإن كان هناك ضغط ما على بعض الدول التي لا تنساق وفق خطط النظام العالمي المهيمن.
الدبلوماسية المجتمعية: بعد أن أصبحت الدبلوماسيات الرسمية غير كافية لتحقيق الأهداف المطلوبة للدول والشعوب، ونتيجة تزايد دور الرأي العام الضاغط على الحقل السياسي وبروز دور منظمات المجتمع المدني والثورة التقنية والإلكترونية، هنا أصبح للقوى الشعبية والمجتمعية أدوار مهمة في السياسة الدولية أو الخارجية.
إنّ الدبلوماسية التقليدية مهمة وأساسية، لكنّها أصبحت غير كافية؛ ذلك لِأنّ التطورات العالمية تتطلب الوصول لما هو أبعد من الحكومات، أي التواصل المباشر مع المواطنين، وتوسيع نطاق ملفات وزارة الخارجية لتشمل قضايا كانت تعد من قبل شأناً داخلياً، مثل: قوانين البيئة، والمخدرات، والجريمة المنظمة، وما يتعلق بالاقتصاد والجوع، نظراً لأن تأثير هذه القضايا عابر للحدود، وبالتالي تم تأكيد فكرة إيجاد استراتيجية جديدة للدبلوماسية العامة، تجعل من المشاركة العامة واجباً على كل دبلوماسي، أي تأطير العمل المدني بشكل رسمي ليصبح ضمن وظيفة السفراء والممثلين في الخارج، ويشمل العمل المدني المشاركة في المناسبات المحلية، والتواصل الافتراضي مع المواطنين ومنظمات المجتمع المدني وغيرها.
وتشير أهداف الدبلوماسية الشعبية إلى تحقيق أهداف أخرى تعتبر ذات أهمية كبرى، فقد أكد “هيتر ماهوني “مستشار الشؤون الإعلامية والثقافية الأسبق بسفارة الولايات المتحدة الأمريكية بالقاهرة، أن الدبلوماسية الشعبية الأمريكية تسعى لتحقيق العديد من الأهداف وليس الأمنية والسياسية فقط، فقد أضاف الأهداف الثقافية والعلمية مؤكداً بذلك على أهمية المحور الثقافي للدبلوماسية الشعبية في تحقيق الحوار الثقافي بين الشعوب.
ويمكن تحديد ثلاثة شروط رئيسية لتأثير القيم السياسية كمصدر للقوة الناعمة في العلاقات الدولية:
أن تكون ذات طابع عالمي وإنساني.
أن تكون ذات صدقية وشرعية شعبية ورسمية.
أن يتم تطبيقها في الداخل والخارج على حد سواء. ومن هنا فإن القيم السياسية التي تؤمن بها حكومة أو مجتمع أو قوى ما قد تعزز قوتها الناعمة أو تبدّدها.
إن الحديث عن منظمات المجتمع المدني ودورها في تنفيذ السياسة الخارجية في ظل الممارسة الدبلوماسية، يعطي لها الأهمية الكبرى في كونها جزءاً مشاركاً في عملية تنفيذ السياسة الخارجية إلى جانب الجهات الحكومية، وذلك من خلال التفاعل بينها وبين المنظمات غير الحكومية والممثلة في جميع مؤسسات وفعاليات المجتمع المدني. لقد شهدت العقود الأخيرة من القرن العشرين إحياء مصطلح المجتمع المدني لكي يشير إلى مجموعة التنظيمات الطوعية والاختيارية القائمة داخل المجتمعات المعاصرة، مثل النقابات المهنية والعمالية واتحادات رجال الأعمال، واتحادات المزارعين، والجمعيات الأهلية، وبناء على ذلك ظهرت أدوار جديدة منوط بها المجتمع المدني، لاسيما المتعلقة بالسياسة الخارجية والممارسة الدبلوماسية. وتبعاً لذلك تنامى دور مؤسسات المجتمع المدني في مختلف مجالات التنمية الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والصحية والبيئية، وساهم ذلك في ربط أنشطة هذه المؤسسات سواء على المستوى المحلي أو الدولي واتساع العالم وتعزيز تفاعلها وتسريع استجاباتها للأحداث والتطورات، ما انعكس على مجال السياسة الخارجية والممارسة الدبلوماسية من خلال تبلور مسار للدبلوماسية غير الرسمية ساهمت في تنفيذ العديد من السياسات وبرامج عمل.
إن استراتيجية منظمات المجتمع المدني ودورها في تنفيذ السياسة الخارجية مرهون بطبيعة العلاقة بين ديالكتيك الدولة والمجتمع، والتي تعكس طبيعة التعامل مع باقي الدول وتنتج أدواراً مختلفة للمجتمع المدني في تنفيذ السياسة الخارجية، خاصة إذا كانت الدولة أو المجتمع يتمتّعان بإدارة متماسكة قادرة على وضع السياسات وتنفيذها. وتسعى هذه المنظمات انطلاقاً من أسسها التي تقوم عليها إلى محاولة إضفاء الطابع الديمقراطي على ديناميات العمل السياسي وفتح المشاركات الشعبية للجهات الفاعلة من غير الدول في المساهمة في تفعيل التعاملات الدولية، وبالتالي فتح الممارسات الدبلوماسية التي تتم عن طريق المشاركة المباشرة للسكان الممثلة في المنظمات غير الحكومية باعتبارها المنفذ لبرامج الدولة أو المجتمع.
تجدر الإشارة إلى الدور الذي تلعبه منظمات المجتمع المدني في مسألة النزاعات والحروب وذلك من خلال جهود الدبلوماسية غير الرسمية الممثلة في أدوار هذه المنظمات والمؤسسات، لتقديم طرق بديلة لصنع السلام والتي تحتل مكانة طيبة كواحدة من أجهزة الدبلوماسية غير الرسمية والسياسة الخارجية، وذلك لما تتمتع به من وجود معمق في المجتمعات المحلية، فهي تتمتع بالقدرة على إقامة بنيات أساسية محلية عبر مختلف مستويات المجتمع والتي تدعم موارد عملية المصالحة، وتسمح لهم بالانخراط في مفاوضات على المستوى الدولي تساهم في تنفيذ السياسة الخارجية وبالتالي فضّ النزاعات، فكانت بذلك تقوم بالدور الفعّال الذي مهّد لخطوات لاحقة في سبيل فض النزاعات. لكن الكثير من هذه المؤسسات موجهة وممولة من قبل الدولة والأطراف السياسية التي تمتلك الإمكانات والقدرات، وهذا يجعل هذه المؤسسات تفتقد بعضاً من مصداقيتها واستقلاليتها وحتى في اختيارها للمناطق والشعوب والدول والأزمات.
يمكن استخلاص استراتيجية نشاط منظمات المجتمع المدني في تنفيذ السياسة الخارجية من خلال النقاط التالية:
تنطلق منظمات المجتمع المدني من استراتيجية مهمة هي تحسين مستوى المجتمعات، من خلال المناداة بالآراء ومناصرتها، وحشد الانتباه تجاه قضايا دولية ومراقبة سلوك الحكومات والمؤسسات والأطراف ومحاولة إقامة العلاقات الدولية والمعايير الضرورية للحكم الرشيد مثلما يقال.
تكوين روابط سياسية على المستوى الدولي، بحيث تسعى إلى دفع عجلة قضية معينة أو مجموعة من القضايا التي تخدم مصالح عملية تفعيل العلاقات الدولية.
وضع برامج محلية ودولية تساهم في تنفيذ أولويات وأهداف السياسة الخارجية في جميع المجالات، والتي تساهم في تعزيز مبادئ الديمقراطية من خلال التشجيع على المعايير الدولية والقيام بتحليل السياسات الخارجية والعمل كمراقب للإجراءات الحكومية في الشؤون الدولية.
محاولة نقل المعلومات والمعارف والخبرات التي تعتبر البوابة الرئيسية لمنظمات المجتمع المدني في عملية وضع السياسات المشتركة بين الدول، وهي سمة ملازمة للعلاقات الدولية المعاصرة وصياغة السياسة الخارجية.
استخدم النفوذ الذي يُعتبر استراتيجية ووسيلة فعالة للتأثير على ممارسات الدول والمؤسسات والحفاظ على العلاقات الدبلوماسية، وذلك من خلال التحالف مع مصالح الحكومات في الخارج لاسيما في ميدان انتهاكات حقوق الإنسان والديمقراطية.
المساءلة والمحاسبة من خلال الالتزام والامتثال والوعود الحكومية، وهي استراتيجية تقوم بها منظمات المجتمع المدني لمساءلة الحكومة تجاه الالتزامات السياسية والقانونية، لذلك فإن وسائل الاتصال الحديثة سهّلت إلى حد كبير قدرات المراقبة لدى المجتمع المدني، مما يعرّض جميع الحكومات للمزيد من الضغط، وهذه الاستراتيجية تسمح بضمان وفاء الحكومة بالالتزامات المقترحة.
تعمل منظمات المجتمع المدني على تأمين الخبرة للموظفين المحليين والإقليميين لتطبيق مشاريع تمولها الحكومة وتساهم في ترشيد السياسة الخارجية، بما يسمح لها باستقطاب اهتمام المؤسسات الدولية والمنظمات الحكومية لدعمها ومساعدتها.
للحقل الثقافي أهميته في تطوير وتعزيز الفعل الدبلوماسي وإقامة العلاقات بين الدول والشعوب والمجتمعات، ولعل القيم الثقافية لمجتمع أو دولة هي التي تعطي للسياسة الدولية أو الخارجية لون كل شعب ومجتمع ودولة، وأغلب دول المنطقة والعالم حاولت وتحاول توظيف الأدوات الثقافية الواسعة والمتنوعة من المادية والمعنوية في تسهيل وتهيئة الظروف لتحقيق أهداف في السياسة الخارجية.
وتتحدّد غايات السياسة الثقافية الخارجية أو الدولية تجاه المنطقة في الأهداف الرئيسية التالية:
تأمين الوجود الثقافي على النحو الذي يضمن عملية التأثير المستمر والفاعل في اتجاهات الرأي العام للمنطقة وتطويعها للتكيف مع تطلعات ومصالح السياسة المرسومة في المنطقة. وهذا يمكن فهمه من فحوى التقارير الاستشارية العالمية التي توصي بضرورة الاعتماد على الدبلوماسية الثقافية، وأهمية الدور الذي تؤديه في تحقيق أهداف الأمن والسلم الدولي.
غرس قيم وأنماط من الثقافة في المنطقة، وتعزيز دورها على المستوى الذي يكفل فتح أبواب القبول أمام السياسة المطبقة تجاه المنطقة، ومن ثم تأمين مستقبل المصالح العالمية الدولية وديمومة حصادها النفعي من الموارد، وتتم عملية زرع القيم في المنطقة من خلال جملة من الأساليب منها الجهود المتنوعة التي تبذلها أجهزة الدبلوماسية العامة التي ترتكز في الأساس على حرب الأفكار وفق فرضية المقاربة التي ترى “أن النصر النهائي لا يحدث على أرض المعركة وإنما في العقل البشري”. وبالتالي السيطرة على الإرادة والفكر.
وليس خطأً إذا تحدثنا عن بروز تأثير القوى الناعمة الخارجية في أحداث وحروب المنطقة والتحركات فيها، فالربيع العربي والحروب المستمرة من أفغانستان إلى اليمن وسوريا وليبيا والصومال والعراق وأفريقيا وغيرها، نستطيع ملاحظة ظهور الوجود الخارجي عبر القوى الناعمة والأدوات الإعلامية والسياسية والثقافية بالإضافة إلى الأدوات الصلبة، حتى أنّ الكثير من القوى الأداتية وحتى الشعبية واليسارية المضللة والمتأثرة بأدوات القوى الناعمة للتدخلات الخارجية، يرى خلاصه عبر المشاريع التي يتم تصدريها للمنطقة أو عبر الحفاظ على الأدوات التي يتم زرعها في المنطقة مثل الدول القومية التي هي أهم أدوات التدخل والتجاوز الخارجي على إرادة ومصالح وقيم وثقافة شعوب المنطقة.
ربما بعض الدول والنظم السياسية العالمية ونتيجة التكاليف الباهظة التي ترهق الاقتصاد المتعثر في الأزمة الاقتصادية العالمية وكذلك نتيجة الانتقادات ورود الفعل المجتمعية والشعبية، ذهبت إلى القوى الناعمة في السياسة الدولية والخارجية، لكن القوى الناعمة تتطلب مهنية وحرفية كبيرة حتى تحقق الغاية المرادة. وهكذا نستطيع القول أن للقوى الناعمة أيضاً تحديات سواء تم استعمالها من قبل الدول أو القوى المجتمعية، ومن المهم الإشارة والتنبيه الدائم من القوى الناعمة للقوى التي تريد احتلال المنطقة وتشكيل إمبراطوريات قديمة ولو بصيغ جديدة وأشكال حديثة كالتوجهات التركية والإيرانية.
حيث عملت تركيا وبتوجيه مباشر من حزب العدالة والتنمية على استخدام كافة وسائل القوى الناعمة للتدخل في المجتمعات العربية وبين شعوب المنطقة وتمكين أدواتها في بعض المناطق والدول ودعمهم عبر مختلف الأدوات، وحتى استغلال القيم والمفاهيم المقدسة لتمرير تسللها وتدخلاتها واحتلالاتها للمنطقة وشعوبها.
بعض مظاهر تأثير القوة الناعمة السلبية التي تستهدف شعوب المنطقة:
إقبال قطاعات واسعة من شعوب المنطقة، وخصوصاً بين الشباب والنسوة على أنماط الحياة والثقافة الشعبية الغربية من المأكولات السريعة، إلى الأزياء والملابس وأدوات الزينة، إلى الأغاني والموسيقا والأفلام وخاصة الأمريكية، فقد أضحت هذه الجوانب جزءاً من حركة العولمة المناسبة نحو مختلف مناحي المعمورة الكونية معيدة تشكيل اختيارات وأذواق ملايين من البشر، فضلاً عن كونها مظهراً من مظاهر التحولات الاجتماعية والثقافية التي تشهدها البلدان العربية والإسلامية، وعلى رأسها منطقة الشرق الأوسط خلال العقدين الأخيرين على وجه الخصوص.
الانتشار الواسع لاستخدام اللغة الإنجليزية على حساب اللغات الأم لشعوب المنطقة، ليس في مجال الأعمال فحسب، بل أكثر من ذلك في مجال الإدارة والمؤسسات العامة، وقد يصل الأمر إلى حد تحولها إلى لغة تخاطب يومي، خصوصاً في منطقة الشرق الأوسط التي تقطنها جاليات واسعة وتشهد حضوراً غربياً، وحتى أن بعض الدول في المنطقة التي ظلت إلى وقت قريب حكراً على النفوذ الفرنسي تقريباً، مثل بلدان المغرب العربي، فإنها تشهد بدورها توسعاً ملموساً في استخدام اللغة الإنجليزية على حساب اللغة الفرنسية. وفي ظل غياب الوعي بأهمية اللغة الأم وخطورة دورها فضلاً عن أهمية الثقة بالنفس والانبهار بكل ما هو أمريكي وأوروبي، فقد تم التساهل في استخدام اللغات الأجنبية إلى حد تهديد اللغة الأم ومقومات الهوية الثقافية للمنطقة إلى درجة غير مسبوقة في تاريخ المنطقة الحديث، فاللغة الإنجليزية تحولت إلى لغة توحد العالم، مع وجود دول في المنطقة تمنع اللغات الأم وتحرم المجتمعات والشعوب من حق تعليم أبنائها وتدريسهم بلغتها كما تفعل تركيا وإيران وسوريا مع الشعب الكردي، في الوقت الذي تسمح للغات الخارجية والأجنبية بالتوغل والتسلل للأجيال على حساب لغات شعوب المنطقة الأساسية.
الانتشار الواسع والسريع للمدارس والجامعات، إلى جانب المراكز الثقافية والبحثية توازياً مع تعاظم النفوذ السياسي والعسكري الخارجي الإقليمي والعالمي في المنطقة، وفتح فروع للجامعات الأمريكية والتركية والإيرانية في الكويت والشارقة والدوحة والدار البيضاء و طرابلس ومقديشو وإدلب والباب وعفرين المحتلة و بيروت وغيرها، والملفت أن أبناء الطبقات الوسطى والثرية يتجهون أكثر فأكثر نحو تعليم أبنائهم في المدارس والجامعات الغربية عامة، والأمريكية خاصة، بعد أن أصبح الانتساب إلى هذه المؤسسات التعليمية الأجنبية عنوان الوجاهة الاجتماعية وضمان النجاح المهني فيما بعد، نتيجة الوقوع تحت تأثير القوى الناعمة الإقليمية والدولية وسياساتهم، ولعل الظاهرة الأكثر خطورة تتمثل في ما تبديه هذه الجامعات والمدارس التي تشكل أدوات القوى الناعمة في السياسة الخارجية، وخصوصاً في بعض دول المنطقة من عزلة شبه تامة عن المحيط الثقافي واللغوي الذي توجد فيه، فاللغات الأم والمقرارت والمفردات الثقافية للمنطقة باتت تغيب تماماً من هذه الجامعات والمؤسسات التعليمية.
القوة الذكية (Power Smart):
ومن المفيد الإشارة إلى أنه مع ظهور مشكلة الإرهاب وأيديولوجيته المنحرفة والمتمكنة من بعض الإسلامويين، وعدم كفاية القوى الناعمة وحدها؛ اتجهت مراكز الفكر والدراسات في بعض الدول المركزية في النظام العالمي وبالتعاون مع الدوائر الأمنية والاستخبارات، في طرح ومناقشة استراتيجية مدمجة بين القوى الناعمة والصلبة في تركيب جديد باسم القوى الذكية.
ففي أمريكا قام مركز الدراسات الاستراتيجية والدولي (CSIS) وبدعم أطراف عديدة باستراتيجية مشروع القوة الذكية، التي تهدف إلى أن تقوم السياسة الخارجية الأمريكية على الدمج بين مفهومي القوة الناعمة والقوة الصلبة، وذلك في ظل البحث عن الرؤية الاستراتيجية لكيفية مواجهة التحديات الآنية والمستقبلية التي تواجه الولايات المتحدة، والسبيل الأمثل لإدارة السياسة الخارجية الأمريكية من أجل تحقيق المصلحة والأمن القومي الأمريكي.
القوة الذكية هي إحدى المصطلحات المتعلقة بالعلاقات المتبادلة بين الدول والشعوب والمجتمعات، ويشير المصطلح إلى مزيج من استراتيجيات القوة الصلبة واستراتيجيات القوة الناعمة، ويعرّفه مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية بأنه “منهج يؤكد ضرورة وجود جيش قوي، لكنه يستثمر أيضاً بكثافة في التحالفات والشراكات والمؤسسات من جميع المستويات لتوسيع نفوذ الأطراف وإثبات شرعية أفعالها”.
تشير العديد من الكتب حول استراتيجية القوة الذكية، إلى أن الاستراتيجيات الأكثر فاعلية في العلاقات والسياسة الخارجية اليوم تتطلب مزيجاً من موارد القوة الصلبة والمرنة، وتؤكد أن توظيف القوة الصلبة فقط أو القوة الناعمة فقط في موقف معين عادة ما يكون غير كافٍ، ولابد من التعددية في استخدام القوة لتحقيق التأثير والهدف المطلوب.
ويستخدم “جوزيف ناي” في ذلك مثال الإرهاب، ويعتقد أن مكافحة الإرهاب تتطلب استراتيجية قوة ذكية، ويعتبر من جهته بأن مجرد استخدام موارد القوة الناعمة لتغيير قلوب وعقول وخطاب وسلوك أفراد أو مجتمعات أو جهات أو تنظيمات أو دول، سيكون غير فعال لأنه يحتاج بالضرورة اللجوء لعنصر القوة.
لا بدّ لِبناء و تطوير التفاعل والعلاقات في المنطقة والشرق الأوسط والعالم الإسلامي من موارد القوة الذكية، إذ إن استخدام القوة الصلبة قد يكون له آثار مضرة. ويقول الدبلوماسي الأمريكي تشستر آرثر كروكر إن القوة الذكية «تشمل الاستخدام الاستراتيجي للدبلوماسية، والإقناع، وبناء القدرات، وفرض القوة والنفوذ بطرائق فعالة من ناحية التكلفة ولها مشروعية سياسية واجتماعية»؛ لا سيما في اشتراك القوة العسكرية وجميع أشكال الدبلوماسية الأخرى.
وهنا تظهر أهمية موارد القوة الذكية المتضمنة للقوة الصلبة والناعمة ولاستراتيجياتهما معاً و حسب المكان والزمان، كما القوى التقنية والعسكرية والاقتصادية والثقافة والسياسة والإعلامية، وحقوق الإنسان والقانونية والفن وذلك في إطار النطاق الكامل للأدوات التي في متناول اليد.
وعليه نجد أن القوى الناعمة في السياسة الدولية أو الخارجية لها مكانة ودور كبير وحضور فعّال في المشهد التفاعلي، وكذلك في بناء العلاقات والتحالفات سواء بشكل إيجابي أو سلبي أو في توجيه بوصلة الآراء والرأي العام وخلق أنماط وسلوكيات معينة، وأن أي دولة أو مجتمع أو شعب يستطيع الوصول إلى أهدافه وبأقل التكاليف والانتقادات دون الحاجة إلى القوة المفرطة والإجراءات الصلبة، إن تم تفعيل واستخدام كافة أدوات ووسائل القوى الناعمة في الحقل السياسي والتفاعلي والدبلوماسي بشكل جيد وبناء، لكن يبقى مفهوماً وفعلاً غير كامل في ظل التحديات المختلفة واستمرار حالات الإبادة والاحتلال وتواطؤ المنظومة الدولية والإقليمية مع حالات القمع والاحتلال والإبادة في الشرق الأوسط، لاستمرار هيمنتها ونهبها وتسلطها على المنطقة، وعندها تحتاج شعوب ومجتمعات ودول المنطقة لاستراتيجية القوة الذكية التي تجمع القوة الناعمة والصلبة معاً، فبدون شك لا تكفي القوى الناعمة مع داعش ومع الاحتلال التركي لكردستان، لكن يبقى للقوى الناعمة في السياسة مفعولها الكبير في الإقناع وتبيان الحقائق، وكذلك تمكين الحقوق والأخوّة والديمقراطية وحرية المرأة كثقافة مجتمعية قادرة على تحقيق الثورة الحقيقية، وبالتالي تغيير الذهنية ومعها السلوك والمقاربة.
ابق على اطلاع على النشرة الإلكترونية