يمر الشرق الأوسط بواحدة من أسوء مراحله التاريخية، التي ما تزال قيد التفاعل، حيث خلفت مجموعة من الدول العربية المنهارة (الفاشلة)، وأخرى تعاني من ضغط الهشاشة، فيما تتنافس قوى إقليمية ودولية وغير دولتية على حصة من مكاسب الانهيار (الفراغ) هذا. وما يزيد من سوء المشهد شرق الأوسطي، هي حالة السيولة التي يشهدها النظام الدولي (مرحلة انتقالية) والتي تجد في الشرق الأوسط مكاناً مناسباً للتعبير عنها. في ظل هذه الأطر، فإن الدولة الإيرانية دخلت مرحلة فشل لا يمكن العودة عنه، ولا يمكن إدارته من قبل النظام الحالي، في وقت لا يبدو أن مشروع إسقاط النظام القائم ممكن حتى الآن، فيما تتصاعد الدعوات الإقليمية لشن حرب واسعة على إيران، لأهداف عدة منها منعها من الحصول على التسليح النووي الذي يرجح أنها قد بلغته، هكذا حرب لا يمكن لها أن تقوم دون بيئة دولية دافعة نحوها من جهة، وبيئة تحالفية إقليمية قادرة على التصدي لقوة إقليمية بحجم إيران. تطرح هذه المقالة بعضاً من أفق المشهد شرق الأوسطي، ودارسة احتمالات الاستجابة لدعوات الحرب على إيران، ومعوقات قيام تلك الحرب.
بداية، فإن البيئة شرق الأوسطية، هي أكثر البيئات الفوضوية دولياً، ونقصد بذلك، غياب نسق إقليمي (Regional Order) قادر على ضبط مسارات العمل السياسي والعسكري، وتداعي القوى الإقليمية العربية التقليدية لصالح القوى الإقليمية غير العربية، ولأدوار القوى العربية متوسطة الحجم. هذه القوى لا يبدو أنها قادرة على إقامة توازن إقليمي مع إيران (كالذي كان بين العراق وإيران على سبيل المثال)، ولا تمتلك أهدافاً مشتركة تدفعها نحو التعاون في ضبط مسارات الشرق الأوسط (إلا في حالات نادرة)، وتعمل جميعها في بيئة خرائب أنتجتها فوضى الثورات العربية بعد عام 2011. أي أن لجميعها تطلعات بأن تحوز على حصة من المصالح التي خلفتها الفوضى، وعليه فهي تتنافس داخل الشرق الأوسط العربي تحديداً، عبر أدوات متعددة، لكنها لم تنتقل إلى حالة المواجهة بشكل مباشر حتى الآن. لذا، فإن الدعوات التي تدفع نحو حرب مع إيران، هي دعوات لنقل الحرب الباردة الإقليمية (إن جاز التعبير)، والتي هي شكل من أشكال المنافسة الإقليمية، إلى حرب ساخنة بين المتنافسين، وبمعنى آخر تحويل التنافس إلى نزاع مسلح مفتوح، يزيد من عبء الفوضى في الشرق الأوسط.
الإشكال هنا، أن هذه الدعوات لا تنظر في حجم التشابك الإقليمي-الدولي في التنافس شرق الأوسطي، فالقوى المقصودة بالتنافس هي: الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون، روسيا، تركيا، إيران، إسرائيل، السعودية، دول عربية متوسطة الفعالية (الإمارات وقطر)، ويبدو أن الصين تلج هذا التنافس بشكل تدريجي، عدا عن الإرهاب الدولي. تدير هذه القوى جميعها، عملية التنافس فيما بينها في ظل نظام دولي في حالة سيولة (مرحلة انتقالية) غير محددة الملامح والنتائج بعد. يزيد من تعقيد المشهد الدولي، أن البيئة الدولية تشهد استعادة لواحدة من أخطر مظاهر الحرب الباردة (الحرب الروسية في أوكرانيا)، وإشعال حرب أخرى (في الشرق الأوسط هذه المرة)، تتشابك فيها قوى دولية عدة، يعني نقل الاضطراب في النظام الدولي إلى مرحلة أكثر تعقيداً، أو ما يشبه الدفع نحو بلورة تكتلين دوليين متنازعين في بيئات متعددة (وهذا يعني خلق بيئة مناسبة للدفع نحو حرب عالمية ثالثة). ما يعزز هذه المخاوف أن بوادر الانفكاك عن الولايات المتحدة بدأت تظهر في الشرق الأوسط (وإن كانت محدودة)، وفيما تتزايد حالة التشكيك بمصداقية الولايات المتحدة عالمياً، تعمل روسيا والصين على بناء تحالفات عالمية، وتحديداً في بيئات التنافس الدولي (أبرزها الشرق الأوسط).
فالبيئة الدولية الحالية، ليست أحادية تشاركية كاللحظة التاريخية لعام 1990 حين استطاعت الولايات المتحدة بناء تحالف دولي لتحرير الكويت، وليست أحادية انفرادية بالمطلق كاللحظة التاريخية لعامي 2001 و2003 حينما قامت الولايات المتحدة بغزو أفغانستان والعراق دون نظر في المواقف الدولية. نحن اليوم أشبه بمرحلة ثلاثينيات القرن العشرين الفوضوية، حيث لا يمكن للولايات المتحدة شن حرب بفردها ولا يمكن لها بناء تكتل دولي قادر وراغب بشن حرب على إيران.
وحتى لو افترضنا تجاوزاً، أن رئيساً أمريكياً كان يمتلك من الجرأة (التهور) ما يكفي لشن حرب على إيران في هذا التوقيت، فإن الولايات المتحدة بالغة الانشغال في حربها مع روسيا في أوكرانيا من جهة، وفي التحضير لمواجهة الصين من جهة ثانية (وخصوصاً أن عديداً من المفكرين الأمريكيين يرى أن احتمالات المواجهة ربما تقع بين عامي 2027-2032). عدا عن الاستنزاف العسكري والمالي الذي تعاني منه الولايات المتحدة (بعض أسلحتها المرسلة إلى أوكرانيا تجاوز صادراتها خلال عشرين عاماً الماضية). فيما تم تغيير العقيدة العسكرية الأمريكية من القدرة على الانخراط في حربين كبريين في آن واحد، إلى الانخراط في حرب كبيرة واحدة، والحرب مع إيران لن تكون سوى حرب كبيرة، في ظل حرب كبيرة أخرى (أوكرانيا)، والتحضير لحرب أكبر (مع الصين). وفي حال تجاوز جميع هذه المقدمات، فإن بايدن أمام استحقاق انتخابي في العام المقبل، يقيد من رغبته في الانخراط في مزيد من النزاعات الدولية.
ربما يتم طرح بدائل عن حرب أمريكية (دولية) على إيران، من خلال مجموعة من الأفكار التي تم تداولها خلال الأعوام القليلة الماضية (تحديداً منذ عام 2019، فترة رئاسة ترامب)، منها على سبيل المثال إنشاء حلف عربي (ناتو عربي)، بالتشارك مع إسرائيل؛ لمواجهة إيران. غير أن هذه الأفكار لم تكن من الواقعية بمكان حتى ترى النور. ولا يمكن الاعتماد فعلياً على تحالف سعودي-إسرائيلي-إماراتي مع عدد من الدولة الصغيرة (الأردن والبحرين والكويت)، لمواجهة إيران. هكذا مواجهة تتطلب وجود مصر وتركيا باعتبارها قوى إقليمية فاعلة أو متضررة من هكذا حرب. مصر بدورها، لا تتفق –حتى الآن– مع هذه الدعوات التي ترى أنها توريط لها في حرب لا تعنيها من جهة، فيما تركيا هي أقرب إلى إيران منها إلى تكتل حرب مضاد لإيران، وتتشارك معها كثيراً من منافع الفراغ/الفوضى في الشرق الأوسط. بدورها لم تستطع السعودية القضاء على إحدى ميليشيات إيران (الحوثي)، وتعطي الإمارات بدورها أولوية للتوازن الإقليمي أكثر من رغبتها في الدفع نحو نزاع إقليمي مفتوح لا يعمل مدى تطور خطورته وضرره.
وتختلف أدوات كلا طرفي المواجهة، ففيما تعتمد السعودية وإسرائيل على الطرق التقليدية (السلاح الثقيل)، فإن منهج إيران العسكري في الشرق الأوسط أكثر تعقيداً بكثير، ففيما لم يستطع العراق هزيمة إيران في حرب السنوات الثمان بالطرق التقليدية، فإن العقوبات الدولية بدورها لم تؤدِ إلى إسقاط النظام الإيراني. فيما أنشأت إيران عشرات الميليشيات الشيعية الممتدة على كامل الشطر الشرقي من الشرق الأوسط (العمل عبر الوكلاء)، فهو أقل تكلفة وأكثر تدميراً للدول المستهدفة من المواجهة التقليدية. حيث تنتشر هذه الميليشيات من العراق إلى سورية ولبنان وفلسطين واليمن، وكانت إيران قادرة على تحريك جماعات شيعية مسلحة في البحرين، وربما تكون قادرة على تحريك مثلها في دول خليجية أخرى. هذه الميليشيات (الوكلاء)، هي كيانات مرتبطة عضوياً بإيران، أي أنها تعلم أن مصالحها وأمنها واستمرارها مرتبط بشكل حتمي باستمرار النظام الإيراني الحالي، وأن عقيدتها السياسية والدينية جزء من عقيدة نظام الملالي، لذا لا يمكن التعويل على انفكاك بين هؤلاء الوكلاء والدولة الأم (إيران).
أما خصوم إيران فيفتقرون لمثل هؤلاء الوكلاء، فإسرائيل لا تمتلك وغير قادرة على بناء وكلاء ضمن بيئة شرق أوسطية رافضة بشكل شبه كلي للعمل مع الإسرائيليين، أما السعودية فقد تخلت منذ عام 2017، وبشكل تدريجي عن وكلائها، أو تراجع دعمها لهم، ما أفسح المجال لتركيا لتحل محلها في كثير من المواقع التي انسحبت منها السعودية، أو لإيران لتطرد الوكلاء السابقين للسعودية (سورية ولبنان أوضح الأمثلة على ذلك)، فيما لا يقوم ارتباط عضوي وعقدي بين السعودية ومن تبقى من وكلائها، وهو أقرب إلى ارتباط مصلحي/مالي، يخدم شخصيات بعينها، وليس مشروعاً مكتمل الأركان.
رغم ذلك، في حال قررت إسرائيل والسعودية، فإنها ستحتاج إلى دعم أمريكي مفتوح على كل الخيارات. وفي حال كانت هذه الحرب محدودة بحيث تستهدف مواقع إيران النووية، فهذا لا يمكن ضبطه بالمطلق، فجزء من المواقع النووية الإيرانية معلوم وممكن الاستهداف، لكن جزءاً أكثر أهمية محصن بشدة، أو غير معلوم بالمطلق. فالوضع الإيراني مختلف تماماً عن مفاعل تموز العراقي عام 1981، وعن مفاعل الكبر السوري عام 2007. وجل ما تستطيع إسرائيل فعله –حتى الآن، في حال لم يكن هناك مخطط أمريكي واسع– هو النهج القائم على القرصنة والاستهداف المحدود وتصفية العلماء الإيرانيين. وهذا لن يقود إلى تدمير القدرة النووية أو التقليدية الإيرانية، بل ربما يعيقها إلى حد ما، ويدفعها إلى تطوير دفاعاتها. وفي حال تجاوز تلك المعوقات كلها، إلى عمل عسكري ضد المنشآت النووية الإيرانية إما عبر الطائرات أو الصواريخ الإسرائيلية أو السعودية، فإن رد الفعل الإيراني سيكون مفتوحاً على خيارات متعددة.
تشمل هذه الخيارات، استخدام الوكلاء، وهم فاعلون مؤثرون للغاية في أمن السعودية وإسرائيل (حزب الله اللبناني والحركات الإسلامية الفلسطينية والحوثيون في اليمن)، وربما تقوم إيران بعمليات عن بعد على غرار ما قمت به عام 2019 من استهداف حقول أبقيق السعودية، لكن بشكل أكثر توسعاً، وربما تدفع إيران إلى خيارات أكثر تطرفاً ضد دول الخليج وإسرائيل، وهو ما يعني حتماً انخراطاً دولياً (أمريكياً وروسياً وصينياً) في مقدمة لحرب أوسع.
لكن على هذه الأشكال من التصعيد، أن تأخذ بعين الاعتبار أن إيران ربما تكون قد تجاوزت مرحلة العتبة النووية، إلى مرحلة دولة نووية، وخصوصاً أن رئيس الوكالة الدولية للطاقة الذرية، أخبر مؤخراً البرلمان الأوروبي، أن إيران جمعت ما يكفي من اليورانيوم عالي التخصيب لـ "عدة أسلحة نووية". فيما هددت إيران بأن قيام الوكالة الدولية للطاقة الذرية بإحالة ملفها إلى مجلس الأمن الدولي، فإنها سترد على مثل هذا السيناريو بالانسحاب من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، معلنة بشكل فعال أنها ستصبح دولة نووية (Foreign Affairs، 6 فبراير).
بدورها، ذكرت وكالة Bloomberg، في 19 فبراير، نقلاً عن دبلوماسيين كبيرين لم تذكر هويتهما، أن مفتشين من الوكالة الدولية للطاقة الذرية، اكتشفوا يورانيوم مخصب بدرجة نقاء 84 في المائة في إيران، ما يجعلها أقرب من أي وقت مضى إلى مستويات التسلح النووي.
يبقى التعويل على انهيار النظام داخلياً، أمر لا يمكن التنبؤ بموعده، وإن كنا نرى أن النظام لم يعد قادراً على إدارة الدولة، فإننا نعني بذلك الإدارة الرشيدة للدولة الإيرانية، بينما أثبت النظام بعد شهور من الاحتجاجات الواسعة أنه قادر على الاستمرار عبر منهج القمع الواسع (والقتل المستمر)، وهو منهج ليس بجديد على النظام الإيراني، وسيحتاج إلى برهة طويلة من الزمن قبل أن يدفع إلى انهيار النظام، ولنا أن نأخذ نظراءه في الإقليم، والذين إما أنهم ما يزالون في السلطة، أو أنهم سقطوا نتيجة تدخل خارجي فقط.
عدا عن أن سقوط النظام، لن يعني بشكل من الأشكال انتهاء إيران كدولة إقليمية ممتدة ونشطة عسكرياً ومسلحة نووياً، فالحرس الثوري يتحكم بكثير من مفاصل الدولة الإيرانية، وسيبقى كذلك، حتى لو تم استبدال نظام بآخر. وما ستقدمه الحرب الإقليمية هو مزيد من التشدد والقمع داخل إيران، وتغذية التيار المتطرف لتصعيد المواجهة إقليمياً. لكن في حال انهيار الدولة الإيرانية ككل (رغم أننا لا نرى هذا السيناريو في المدى المتوسط)، فإن ذلك لن يعني أيضاً استقرارً في الشرق الأوسط، فهكذا انهيار سيجلب معه شكلا ًمن أشكال الحرب الأهلية (ربما النمط اليوغسلافي أكثر وضوحاً)، يشتبك أمنياً مع الشرق الأوسط ووسط آسيا.
ختاماً، بناء على هذه الأطر، نعتقد أن سيناريو حرب ساخنة مع إيران، يبقى محدود الأفق في المستقبل المنظور، ويتطلب معطيات دولية وإقليمية غير متوافرة بعد، وفي حال الدفع نحو هذا السيناريو، فإن نتائج متعددة الأشكال، من ردود إيرانية محدودة (وهو أمر لا نعتقد أن إيران ستكتفي به)، إلى استخدام وكلاء إيران على امتداد الإقليم لاستهداف دول خليجية وإسرائيل ومصالح أمريكية في المنطقة، إلى أسوء الاحتمالات وهو سيناريو الانتحار الإيراني (وإن كان غير وارد حالياً) الذي يتضمن ردوداً مباشرة على إسرائيل ودول المنطقة، وربما بأسلحة غير تقليدية. هذه الحملة الإقليمية على إيران، تغذي التيار المتشدد فيها، وتزيد من حالة القمع داخل إيران، لكن تبقى مقاليد الأمور مضبوطة بيد الحرس الثوري، وفي حال خروجها من يده وفق متغيرات لاحقة، فإن سيناريو حرب أهلية على نمط يوغسلافيا يبدو وارداً في دولة قائمة على الإكراه المركزي الإثني (الشيعي الفارسي) لمحيط من الأقليات المضبوطة قهراً خلال القرن الفائت، في ظل بيئة شرق أوسطية فوضوية تدفع نحو العنف والتطرف. هذه المعوقات كلها، تجعلنا نعتقد أن خيار تأجيل الحرب الساخنة والمباشرة مع إيران، والبحث عن بدائل أخرى لضبط سلوك إيران الإقليمي، هو الخيار الأقل كلفة لكافة دول الإقليم.
* رئيس المكتب الاستشاري لشؤون الشرق الأوسط وشمال إفريقيا
ابق على اطلاع على النشرة الإلكترونية