«محور المقاومة».. ركيزة العمق الإيراني (2)

- 14 ديسمبر 2021 - 665 قراءة

• استمرار الاحتلال الإسرائيلي وزيادة الانقسام العربي حول مستقبل القضية الفلسطينية.. أحد عوامل ظهور "محور المقاومة"

• "المحور" نشأ بسبب تقلص قدرة "القاهرة ودمشق وبغداد" على القيام بدوها المعتاد على المستوى الجيوستراتيجي

• مساعي الولايات المتحدة للانفراد بقطبية العالم عقب انهيار "الاتحاد السوفييتي" مثلّت بيئة مواتية لنشأة المحور الشيعي

• السعودية ظلت الدولة العربية الوحيدة التي تنتمي إلى أعلى مستوى في البنية الجيوسياسية بالمنطقة العربية

• أطماع إيران الإقليمية تتزايد في ظل إيمان نظام الملالي بـ "عالمية الثورة" ووجوب تصديرها إلى الخارج

• إيران استغلت أحداث "الربيع العربي" التي اندلعت بمباركة أمريكية وأدت إلى انتشار فوضى جيوسياسية هائلة

• استغلال الغزو الأمريكي للعراق لفرض عملية سياسية أنهت روابط الانتماء لدى العراقيين.. واستبدلته بـ "انتماء طائفي"

• طهران تعتقد أنها إذا لم تقاتل "الجماعات الإرهابية" في العراق وسوريا.. فسيتعيّن عليها قتالهم داخل حدودها

 

نجحت إيران، كما بيّنت الحلقة الأولى من هذه الدراسة، في خلق عمق استراتيجي لها بمنطقة الشرق الأوسط؛ أعادت فيه "انتاج الهوية" في كل من العراق ولبنان واليمن، على أسس أيديولوجية؛ ونجحت في اختلاق هويات طائفية تسعى من تلقاء ذاتها نحو تعزيز نفوذ إيران الجيوسياسي بالمنطقة، تحت ما يُسمى "محور المقاومة الإسلامية".

وأرجع الباحث الإيراني "چوبين جودرزي" تاريخ نشأة "محور المقاومة" إلى عام 1979م، استنادا إلى أن سوريا كانت هي الركيزة الأولى التي قام عليها هذا المحور؛ نظرا أنها كانت الدولة العربية الأولى التي تعترف بالثورة الإسلامية، وأول من أقامت معها تحالفا استراتيجيا، عدته إيران نموذجًا للتوازن الصعب مع نظام صدام حسين وإسرائيل والولايات المتحدة، في ظل التغير المستمر في نمط التفاعلات الإقليمية. وأن التحالف بين دمشق وطهران لا يزال قائما حتى اليوم؛ لأنهما اجتمعا على وحدة الأهداف والمصالح المشتركة، وتطابق الرؤى السياسية إلى حد كبير حيال معظم القضايا الإقليمية.

غير أن الحقائق العلمية تشير إلى أن نشأة "محور المقاومة" وتطوره تعود إلى محصلة عدد من العوامل، منها: البيئة الإقليمية المواتية التي كانت تشهد ضعفا في بنيتها التقليدية، وتغيرا في ميزان القوى الدولي، والمساعي الأمريكية الرامية للانفراد بالهيمنة على المنطقة، فضلا عما كانت تشهده مصالح القوى الفاعلة من تقاطع واضح. وهذا ما سوف نتناوله على النحو التالي:

أولا: البيئة المواتية:

كانت الخصائص والسمات العامة التي سادت البيئة الإقليمية من بين أهم العوامل التي أسهمت في نشأة محور المقاومة وتطوره؛ نظرا لما تميزت به من ضعف في بنيتها التقليدية، وتغير في ميزان القوى. أما فيما يتعلق بضعف البنية الإقليمية: فإنه نجم بدوره عن:

- استمرار الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، وتحول القضية الفلسطينية منطلقا لزيادة الانقسام بين الدول العربية.

- بقاء القضية الكردية دون حل، حتى أصبحت نموذجا للانقسام العرقي الذي طالما يمثل تهديدا لسلامة الأراضي الإيرانية والتركية والعراقية والسورية. خاصة أن الأكراد لا يزالون مصرين على نيل الحكم الذاتي، أو قيام كردستان الكبرى.

- قيام الثورة الإسلامية بإيران، بوصفها نموذجا مؤثرا في تصاعد الاتجاهات الراديكالية المتطرفة بمنطقة الشرق الأوسط.

- تزايد أطماع إيران الإقليمية، وعدوانية توجهاتها في ظل إيمان نظامها الحالي بعالمية الثورة ووجوب تصديرها إلى الخارج.

- تدهور العلاقات البينية العربية من ناحية، وتدهور علاقات معظم الدول العربية مع إيران، من ناحية أخرى.

- تقادم البنية العربية وعدم قدرتها على تلبية تطلعات شعوبها، وتقلص قدرة العواصم الثلاث الأكثر ديناميكية في العالم العربي (القاهرة ودمشق وبغداد) على القيام بدوها المعتاد على المستوى الجيوستراتيجي؛ بعد أن حطم الصراع الطائفي بغداد، منذ انهيار نظام صدام حسين، 2003م، وبعد أن دمرت الحرب الداخلة دمشق، منذ 2011م، وانكفأت القاهرة على شواغلها الداخلية منذ ذلك التاريخ أيضا.

وفي حين كان ميزان القوى الإقليمي يميل لصالح إيران وتركيا وإسرائيل، ومعهم السعودية والإمارات وقطر؛ التي أخذت تشهد نموا اقتصاديا كبيرا، أفضي بدوره إلى أن يتحولوا إلى فاعلين إقليميين مؤثرين. إذ أخذت إيران، على الرغم من المشاكل الهائلة التي تواجهها داخليا وخارجيا، تستحوذ على دور إقليمي مؤثر، حتى باتت قراراتها تؤثر على الأحداث في جميع أنحاء المنطقة، وتلعب غالبا دور الخصم الرئيسي للولايات المتحدة، والقوة المهددة لأمن إسرائيل، التي ظلت هي الأخرى مستقرة وتشهد نمواً اقتصادياً هائلاً، وتسعى لبناء تحالفات متنامية مع الدول العربية. أما تركيا، فقد اتجهت أكثر، في عهد الرئيس رجب طيب أردوغان، نحو الشرق الأوسط والانخراط في قضاياه والتورط في صراعاته.

أما على الجانب الآخر، فقد ظلت السعودية الدولة العربية الوحيدة التي تنتمي، وفق الإرادة الأمريكية، إلى أعلى مستوى في البنية الجيوسياسية في المنطقة العربية. بينما أصبحت أبو ظبي تقوم بالدور الذي كانت تلعبه قطر من قبل، فلديها نفوذ كبير وتسيطر على الكثير من الموانئ في القرن الإفريقي، كما أنها تسيطر على مناطق باليمن أكثر من أي بلد آخر، ولديها علاقة عدائية مع إيران. أما قطر، فقد أخذت تلعب دوراً دبلوماسياً كبيرا مقارنة بوزنها الفعلي بالمنطقة، ولا تزال مستمرة في لعب هذا الدور، ولكن بدرجة أقل. فلا تزال تتوسط في العديد من البلدان، بما في ذلك غزة وتركيا والولايات المتحدة، وأماكن أخرى في المنطقة.

وكان من الطبيعي أن يكون لدى كل من هذه القوى الإقليمية الفاعلة أهدافا استراتيجية خاصة، فمثلا تسعى إيران والمملكة العربية السعودية لتحقيق التوازن بينهما. في حين تسعى إسرائيل إلى مواجهة طموحات إيران النووية ونفوذها الإقليمي، وتشارك في إدارة الصراع بدلاً من حل النزاع مع الفلسطينيين، وهنا تشترك مع المملكة العربية السعودية في هدف استراتيجي واحد، يتمثل في احتواء إيران. بينما أدى الانشقاق في مجلس التعاون الخليجي إلى تقوية الروابط بين تركيا وقطر من ناحية، وتوثيق علاقات قطر مع إيران، من ناحية أخرى.

 

اقرأ أيضًا:

«محور المقاومة».. إيقاظ الفتنة النائمة (1)

 

ثانيا: الاستحواذ الأمريكي على المنطقة:

مثلت مساعي الولايات المتحدة للانفراد بقطبية العالم؛ عقب انهيار الاتحاد السوفييتي، وفرض نظام عالمي جديد، بيئة مواتية لنشأة محور المقاومة. خاصة أنها عمدت إلى دفع منطقة الشرق الأوسط نحو عدم الاستقرار والتفكك، ضمن مساعيها لإعادة هيكلته على النحو الذي يمنع ظهور منافس جديد قد يمثل تهديدا لمصالحها، على غرار التهديد الذي كان يشكله الاتحاد السوفييتي لها في السابق. ويراعي في ذات الوقت مصالح حلفائها، للحد الذي يضمن عدم قيام أي حليف منهم بعرقلة انفرادها بقيادة العالم. فضلا عن امتلاك آلية لردع المنافسين المحتملين للاضطلاع بدور إقليمي أو عالمي غير مسيطر عليه.

وفي هذا الإطار، شهدت المنطقة ثلاثة متغيرات حادة شكلت في حد ذاتها عوامل دفع لتنامي دور محور المقاومة، بوصفه أداة تعزيز فعالة لتعميق نفوذ إيران الإقليمي، هي:

• غزو القوات الأمريكية والبريطانية للعراق، في مارس 2003م؛ بزعم امتلاكه أسلحة دمار شامل، وقيامها بتدمير بنية النظام العراقي بالكامل، وتفكيك مؤسساته العسكرية والأمنية والقضائية، وتقويض مؤسساته الإنتاجية. كما فرضت عملية سياسية كان من شأنها إنهاء روابط الوطنية والانتماء لدى أبناء العراق الواحد، واستبدلته بانتماء طائفي ذي امتداد خارجي؛ وبالتالي تحويل العراق إلى مجرد تابع إقليمي، تديره طبقة سياسية مدعومة من الاحتلال الأمريكي وموالية للنظام الإيراني. وهو الأمر الذي مثل بدوره بيئة خصبة لظهور الميليشيات المتناحرة، ومن ثم طرح فكرة تقسيم العراق إلى ثلاث دول في إطار خطة أمريكية لإعادة ترسيم خريطة للشرق الأوسط.

• "الفوضى الخلاقة"، أو ما يعرف بأحداث الربيع العربي، عام2011م، التي أدت إلى انتشار فوضى جيوسياسية هائلة بالمنطقة، بدأت بالإطاحة بالرئيسين التونسي زين العابدين بن علي، يوم 11 يناير، والمصري حسني مبارك، يوم 11 فبراير، ثم تدمير النظام الليبي وقتل الرئيس القذافي 20 أكتوبر، وتفكيك قواته المسلحة ونهب مخازن أسلحته وتوزيعها على جميع أنحاء المنطقة، وانتهت بتحويل ليبيا إلى مركز لاستقطاب الجماعات الإرهابية على غرار ما حدث للعراق.

وقد عزز هذا التدهور الإقليمي السريع الرغبة لدى جميع القوى الفاعلة في استمرار الصراع الدموي باليمن، على الرغم من تنازل الرئيس علي عبد لله صالح عن الحكم، يوم 27 فبراير 2012م، فضلا عن مواصلة هذه القوى دعم عمليات تدمير النظام السوري.

وبعبارة موجزة، أدى غزو الولايات المتحدة للعراق ووقوع أحداث الربيع العربي، فضلا عن تخلي واشنطن عن قيادة عملية السلام بالشرق الأوسط إلى بروز نمطين من التحولات النوعية، تمثل الأول في الانهيار الأوسع للنظام الإقليمي وتكثيف عمليات العنف والإرهاب في المنطقة. بينما تمثل الثاني في فرض القوى الفاعلة الأخرى نفسها على عملية صنع القرار الإقليمي. ومع تلاقي هذين الديناميكيين تبلور الهيكل الجيوسياسي الجديد لمنطقة الشرق الأوسط، الذي نشأ فيه محور المقاومة وتطور.

ثالثا: تقاطع مصالح القوى الفاعلة:

مثلّت الأزمة السورية نقطه التصادم الأعنف بين مصالح القوى الفاعلة بالمنطقة؛ فمن ناحية تمثل سوريا الحليف الاستراتيجي الوحيد بالنسبة لروسيا، التي تسعى إلى كسب النفوذ على حساب الولايات المتحدة، وكذلك بالنسبة لإيران. وبالتالي فإن انهيار النظام السوري كان يعني انحسار نفوذهما من المنطقة بالتبعية، كما سبق الإشارة.

ومن ناحية أخرى، كان تحالف سوريا مع كل من روسيا وإيران في حد ذاته من بين العوامل التي كانت تمثل أحد أسباب إصرار واشنطن وحلفائها على رحيل الرئيس بشار الأسد، منذ نشوب الاحتجاجات ضده، في مارس 2011م، حتى أن وزيرة الخارجية الأمريكية "هيلاري كلينتون" صرحت يوم 6 ديسمبر 2011م، بقولها إن هدف بلادها هو القضاء على نفوذ إيران في سوريا، وأنها إذا تمكنت من ذلك، فسيكون إنجازًا كبيرًا. ومن ثم فإن الولايات المتحدة قدمت ـ بمساعدة تركيا وبعض دول الخليج ـ الكثير من المساعدات المالية والأسلحة والتدريب للفصائل والجماعات السلفية والإخوان المسلمين و"داعش وجبهة النصرة والقاعدة" وغيرها بالعراق وسوريا.

الجدير بالذكر، أن تدمير جيوش العراق وليبيا وسوريا كان يمثل في حد ذاته مصلحة مهمة لإسرائيل وتركيا، وبالتالي كان من الطبيعي أن تعملان على تدمير النظام السوري، وإلحاق كارثة بها، كالتي لحقت بالعراق. لأن انهيار سوريا سيوفر لإسرائيل فرصة تاريخية لكسر شوكة حزب الله اللبناني، ومن ثم ضم مرتفعات الجولان المحتلة. كما سيوفر لتركيا ـ في ذات الوقت ـ فرصة لاقتطاع أجزاء من شمال سوريا.

ومن جهة ثانية، وقفت المصالح الروسية وراء خوض موسكو المعارك ضد المعارضة السورية، وتقديم الدعم الكامل لنظام بشار الأسد، خاصة أن الأزمة السورية كانت تمثل فرصة مواتية لاستدراج الإرهابيين من منطقة الشيشان، انطلاقا من أنهم إذا لم يتم قتلهم بسوريا، فسيتعين عليها قتالهم داخل روسيا. كذلك الأمر، بالنسبة للمصالح الإيرانية التي دفعت طهران لتقديم الدعم الكامل للأسد، على الرغم مما تعانيه من وطأة العقوبات الاقتصادية؛ نظرا لأن سورية تمثل لها ركنا جيوسياسيا مهما بمحور المقاومة ضد إسرائيل، كما تمثل جسرا بريا يربط بين العراق ولبنان، حيث "حزب الله" الركن الثاني بهذا المحور. فضلا عن أن طهران تعتقد أيضا أنها إذا لم تقاتل الجماعات الإرهابية في العراق وسوريا، فسيتعين عليها قتالهم داخل حدودها.

 

 

 

النشرة الإخبارية

اشترك في النشرة الإخبارية

ابق على اطلاع على النشرة الإلكترونية

معلوماتك فى امان معنا! إلغاء الاشتراك في أي وقت.